اعتلال البدن صورة تجسد حالة الفقد الجلل لأغلى ما يملك الانسان,, فالعلة تأخذ أحيانا هيئة النكرة والابهام حتى تصبح في آخر الأمر خطرا داهما تحرق بكيانه وتهدم كل مقوماته الجسمانية والمعنوية.
وبعض الاشخاص يرى ان المرض عقبة يمكن ان يجتازها,, لينبري في فضاء هذا الأمل مواجها هذه الحالة و تلك تاركا للذات فرصة المقاومة أو الاستسلام, والروائي والقاص الراحل عبدالعزيز مشري هو خير من كتب في هذا الالم، مشخصا حالته قبل الاطباء,, ومعالجا بعض أمراضه قبل الدواء ,, ليصنع الوصفة تلو الاخرى للمرضى الآخرين,, وللاصحاء الذين يفزعهم مظهر المرض، ويعجزون حتى عن تصوره احيانا.
السكري هو الداء الذي خالط حياتنا بشيء من الايغال والجموح,, وهو المرض الذي أقعد البعض عن تواصله مع حياة الاسوياء الا انه يعجز احيانا عن تعميم صورة وجوده، ونفوذ واقعه ليتصدى له المشري مبينا، وشارحا,, بل مقزما لتعاظم هذا الداء في قصص كثيرة من اعماله,, ان لم نجزم بأن فكرة الألم سيطرت على أعماله جميعها.
مجموعته القصصية الاخيرة جاردينا تتثاءب في النافذة الصادرة عن دار الكنوز الادبية ببيروت 1998م توجت هذا البعد التصويري الدقيق لحالة الألم,, ولم يكن (السكري) هو الداء الوحيد الذي ألزم المشري طريق العناء والالم انما هو من جملة امراض داهمته واوغلت في جسده حتى تفتت صبره,, الا انه واسى نفسه بالكثير من الكتابات حتى استطاع ان يكون لنا تراكما مثاليا واعيا للغة الالم والمكابدة,, بل انه استطاع وبقدرة فريدة ومتميزة ان يعلمنا جميعا كيف نهادن السكر، والضغط ان لم نستطع التغلب عليهما,, حتى يصبح هذا المرض او ذاك مقطعا من قصة قصيرة,,, او جزءا من مقالة يفرغ من كتابتها.
وتأسيسا على هذا البعد الانساني الذي تفرّد به الاديب والقاص المشري يمكن لنا ان نتصور وبشكل عام ان باستطاعتنا ان نواجه الالم بروح قوية وبعزيمة تفتت المصاعب وتنتصر على الذات لتكون منطلقا سليما يسجل حضوره الايجابي في الذهن والذائقة,, فضلا عن ذلك يمكن للاديب المبدع ان يهمش حالة هذا الالم ليجعله مجرد قصيدة عابرة او سيرة يود الانتهاء منها الى الابد,, الا ان الامر يأخذ شكل التعايش والمهادنة اذا ما كان الامر له علاقة (بالسكري) ذاك الداء الذي لا تنفع معه المواجهة بقدر ما ندرك ان المهادنة والتعايش مع اذاه هما من اصول العلاج حتى يبدل الله الحال بأخرى ونرى ان هناك حلولاً علاجية اخرى تجتث هذا المرض,, وتقتلع هذا الخوف الماثل امام المرضى والاصحاء على حد سواء, تبقى رحلة الالم هي الهاجس الذي يسيطر على القارىء ليفتش من خلاله عن المفردة المتجلية والفكرة الصادقة اذ لا يمكن لنا ان نزيف المشاعر او اهوال المرض,, انه الم,, والألم آهة مدوّية نستطيع ان نخفف من غلوائها لكننا لا نستطيع على الاطلاق الغاءها,, لتظل هي الفاصل الوحيد بين البرء والسقم، والالم والشفاء, نحن مهيؤون لان نهادن السكر ونبني معه علاقة تقوم في اساسها على امل الخلاص منه,, فهو المحتل الذي يأتي دون رغبتنا وعلينا تحمل سعائر ناره,, وألم وجوده,, نأخذه كجزء من واقع يجب ان نفاوضه ليشاطرنا جزءاً من حياتنا في رحلة الالم,, لتتولد على الشفاه آهة نسأل الله الخلاص منها.
|