| مقـالات
لاشك أن حالة قيادة السيارات عندنا بحاجة الى تحليل نفسي عميق يفسر لنا أسباب التهور واللامبالاة وعدم التقدير لشعور الآخرين, خصوصا عندما يكون هذا الاستهتار من سائقين يلتزمون باصول القيادة السليمة عندما يقودون سياراتهم خارج المملكة، وأنه يحدث على كل صعيد وليس عند قيادة السيارات فحسب.
فالراكب الذي كان يقف بكل انتظام واحترام في طوابير مطار لندن، سرعان ما يقفز الصفوف بمجرد الوصول الى مطار الرياض, والمبتعث الملتزم بأنظمة أمريكا، يتحول الى أبو الواسطة بمجرد عودته فيطالب برخصته واستمارته بدون أن يطب المرور, والسائح الذي يحافظ على حدائق أوروبا وشوارعها يترك باقي عشائه على الكورنيش، ويحفر ذكرياته على المجسمات الجمالية، ويلقى بعلب الكولا وهو يقود سيارته وسط البلد بسرعة 120 كلم في الساعة.
ومساهمة منا مع الطبيب النفساني الذي سيتصدى لمثل هذا التحليل، نطرح هنا بعض التكهنات حول أسباب ومبررات القيادة المتهورة، فمن ناحية يبدو أننا قوم على عجلة من أمرنا، لا يحتمل أحدنا الوقوف دقائق على إشارات المرور، فينفخ في موتور سيارته حتى يمرضنا بدخانه، وينتقل من أقصى يمين الشارع الى أقصى يساره ليقترب ولو خطوات من خطالانطلاق إن لم يتجاوزه ويتجاوز الإشارة نفسها حتى لا يعرف عن فتحها الا ب زمامير من خلفه, وقد ينطلق قبل أن تفتح الإشارة لأنها قفلت في التقاطع المقابل، هذا إن لم يقطعها عامدا متعمدا بعذر أنها صفرا وشوي على أول الحمراء .
تعجلنا لا يبطنه خط طويل، سريع ومفتوح، بلا يزيدنا شهوة وشهية حتى تلغي السرعة الفائقة أي فائدة تذكر لالفرامل اللهم إلا كأحسن وأسرع وسيلة لانقلاب السيارة, ولعل هذه العجلة النفسية للوصول، حتى ولو لم نكن متأخرين، سبب مخالفات شنيعة أخرى كعكس الخط، وقطع الإشارة، وتجاوز الطوابير بقفل الخطوط المجاورة والمخصصة لمن يريد الالتفاف.
الكسل سبب آخر, فنحن، على ما يبدو، قوم استمرأوا الركوب السهل للوصول الى الهدف, فكما الواسطة، وهي بلا شك أسلوب مريح، الغش في الامتحان، والدروس الخصوصية، والاعتماد على المستخدمين في كل عمل وأي عمل، خصوصا تلك التي نوقع عليها في النهاية لنحصل على حقوقها الفكرية بدءاً باللوحات الفنية، ومرورا بالقصائد الشعرية، وانتهاء بالواجبات المدرسية، والبحوث العلمية، والتقارير الإدارية والمشاريع البلدية, وعلى هذا فقس إصرارنا على الوقوف حتى مخالفة أمام البيت أو المتجر أو المكتب حتى لا نكلف أنفسنا السير من الموقف الرسمي، وكذلك تحميل السائق مسئولية تنقلات ومشاوير البيت حتى لا نسوق إلا مزاجا واستخدامنا للسيارة حتى للانتقال الى بيت الجار، وكثرة استعمالنا للمنبه حتى لا نتكلف الخروج من السيارة لدق الجرس، أو شراء الفواكه، أو مناداة حارس العمارة.
ولاشك ان من أهم عوامل القيادة الرديئة أننا لم نعرف غيرها أصلا, فحتى أولئك الذين درسوا في معاهد تدريب القيادة تلقوا من التعليم النظري أكثر بمسافة من العملي, وأما عن الذين تلقوا العلم بالوراثة والزمالة، فلا تسل من المهارة إلا عن الطارة وربما تغيير البنشر إذا لم يوجد من يتولاه عنا.
ثم يأتي غياب الرادع ، فلأنمن أمن العوقبة أساء الأدب ، ولأن رجال الشرطة، وقبلهم رجال المرور، لا يتدخلون إلا في الحالات القصوى كقطع الإشارة أو كسر الرقبة، فالتنقل بين المسارات بلا إشارة، والمساقطة ، وتجاوز السرعة القانونية، وتخطي السرا وغيره من المخالفات التفاهة في نظرهم لا يستحق منهم عناء توقيف المخالف، ولا عقوبة تتجاوز التوبيخ، إن حصل, والأسوأ من هذا وذاك، إن تجد بعض سيارات المرور ترتكب من هذه المخالفات بقدر ارتكاب غيرهم لهاوما فيش حد أحسن من حد !وأخيرا، يبقى أننا أناس فنانون ، على الأقل في أوطاننا، وعليه فالنظام عندنا إنما وضع ليكسر، ببساطة لأنه لا يتلاءم ومزاجنا الفني, وهكذا ربينا على عدم الانضباط، لا في المواعيد، ولا في غيرها.
فموعد تسليم الواجب المدرسي، أو البحث العلمي، أو المشروع أو التقرير أو المعاملة نسبي جدا , فالغد قد يعني الغد البعيد، والخميس ليس بالضرورة محدود بالخميس القادم، والخامسة مساء، قد تعني المساء الذي يليه، أو لا مساء على الإطلاق, ولذا، ولأن طبعنا فني ووقتنامرن والتزامنامطاط في كل شيء وكل حال، فلم نستثني علاقتنا بأنظمة المرور وآداب القيادة.
هذا عن الأسباب النفسية لأزمتنا المرورية المستفحلة، أما عن مسببات الأنظمة الهينة اللينة، والتخطيط والتنظيم البلدي لطرقنا فهذه عايزه قعدة ،
وللحديث بقية.
|
|
|
|
|