| مقـالات
وفي هذا السياق الموبوء تهافت المفكرون والأدباء والنقاد على طرح مشاريع ليست على هدي من الكتاب وصحيح السنة، من مثل مشروع الجابري حول (العقل العربي)، ومشروع حسن حنفي (اليسار الإسلامي) القائم على الانتقال من العقيدة إلى الثورة، ومشروع زكي نجيب محمود القائم على (الوضعية المنطقية) الكانتية، وهو كما يقول العالم : (الصوت الوحيد الذي يعبر عن الفلسفة الوضعية في شرقنا العربي) وكتابه (خرافة الميتافيزيقا) يمثل المادية العلمية، وقد غير العنوان تحت وابل المواجهة إلى (موقف من الميتافيزيقا) مستهلاً ذلك بمقدمة تملصية، والمضحك أن عدوى المشاريع وادعاءها امتدت لمجمعي خواطرهم ليقول أحدهم :(وبذا يكون هذا الكتاب حلقة من مشروع مطلوب عن الإنسان واللغة)، ولسنا بصدد تقصي مشاريع أخرى تختلف في دركاتها, وتهافت مع أصحاب المشاريع الفكرية ومن بعدهم بعض المبدعين السرديين وبعض المنشئين في مشاريع (الثلاثيات) فجاءت الأعمال الروائية حرباً ضروساً على الدين والأخلاق وصوتاً إعلامياً يمجد المشاريع السياسية، واستفحل أدب الاعتراف والإلحاد والسخرية بالمقدس، منذ أولاد حارتنا ومروراً بالخبز الحافي والشطار ووجوه ثلاثية السيرة الذاتية لمحمد شكري ومسافة في عقل رجل ووليمة لأعشاب البحر واستذكاراً لآيات شيطانية ورواية العار لتسليمة نسرين، وكل هؤلاء يصرون على جعل (الدين) و(الجنس) وجهين لعملة واحدة مزورة، تمشياً مع ما وصل إليه :(بو علي ياسين) في كتابه الضجة (الثالوث المحرم) ولنا عودة مطولة وقريبة إن شاء الله إلى (زمن الفجور الروائي) بإزاء (زمن الرواية) بوصفها دعوى حداثية، وقد وفينا (الإبداع الأمي: المحظور والمباح) و(النقد البنيوي للرواية العربية) و(صراع الحضارات من خلال العمل الروائي) بعض حقهما، ونشرنا عن البعض قرابة خمسين حلقة في (ملحق الأربعاء).
والغارة على قيم الإسلام ومسلماته تأخذ صوراً وأشكالاً ،فكلما أخذ المسلمون حذرهم وارتفعت قدرتهم المناعية، تغيرت التركيبة والمسميات، والناقمون على الفكر الإسلامي والخيار الإسلامي، يفكرون ويقدرون، ولكنهم سيقتلون من حيث يفكرون، وها نحن في سياق(السيناريوهات) أمام مشروع جديد قديم, فعلى مستوى اللغة، كنا نعرف ما يتداوله التراثيون حول (تأنيث اللغة) ، و(تذكيرها)، ونعرف أنَّ اللغة تكون مؤنثة بعلامات، ومذكرة بدونها أو بها، كعلامات الجموع السالمة، وكنا لا نعرف (الفحولة) إلا مصطلحاً في الشعر، تصنف على ضوئه طوائف الشعراء والشواعر وطبقاتهم, وتداول علامات التأنيث وطرائق التثنية والجمع والنسبة، وكافة الصياغات جوانب من علم تراثي، أكثر فيه علماؤنا التأليف، بدافع التعليم وبسط نظام الكلام الفصيح وضوابطه وتعميق العلم التراثي وحماية اللسان العربي من اللحن وحماية اللغة من الضعف أو الانقراض، ليس لأحد منهم أهداف تتعدى ما ذكر، ولكن الجذور التراثية لا علاقة لها بما يتداوله المشهد الثقافي العربي من كلام حول (الفحولة) و(الأنوثة) و(نون النسوة) و(تأنيث اللغة) و(التنوين) الذي لا يلحق (الاسم الأعجمي) ولا يلحق (العلم المؤنث) على حد قول (نصر حامد أبو زيد), ومنعُ العلَمِ المؤنث من الصرف وحرمانُه من التنوين الممكّن والأمكن عند هذا الحداثي مكرٌ أرادته الحضارة العربية الذكورية للمرأة، لتظل أعجمية لا تتكلم، ممنوعة من الصرف لا تتصرف، فهي كالاسم الأعجمي تماماً، على حد فرضياته وتخرصاته، التي تركته ذليلاً تطارده الأشباح, وها نحن نجد من يتبع أولئك حذو النعل بالنعل، ويدخل معهم جحور الضِباب، ومحاكمة اللغة ووصفها بالذكورية والفحولة تقنع في منتهى البلاهة، يقصد منه إدانة الثقافة العربية الواهمة التي لم تنصف المرأة، منذ (حمالة الحطب) و(القوارير) و(الضلع الأعوج) و(نقص العقل والدين) على حد الغمز واللمز المكشوف أو المقنع، وما كنا نعرف الإنابة عن المرأة في المطالبة بحقوقها إلا بعد أن طلع علينا سيىء الذكر (قاسم أمين) بتبعيته، فقد كان النساء يبايعن، ويبعن، ويشترين، وكن يطالبن بحقهن من الاستماع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم والجلوس إليه، ويشكن من غلبة الرجال، وكن يجادلن في حقوقهن، ويسمع الله قول التي تجادل في زوجها، وتشكي إلى الله، وكن يلححن بالجدل، وكن يسألن عن نقص العقل والدين وعن كونهن أكثر أهل النار، ويستشرن في أمر الزواج، ويرفضن من لا يردن من الأزواج، ويطلبن الخروج إلى الجهاد، وكان الرسول يشفع للمتيم ولا يلزم بقبول الزواج, وما سمعنا رجلاً ينوب عن المرأة في المطالبة بحقها، حتى سقطنا في درك التبعية، واستن (بقاسم أمين) من لا خلاق له، ولحقت به المترجلات من النساء، وتبعه وأحيا ذكره المشبوهون من الرجال، وها نحن اليوم نجد مدعي التنوير من الظلاميين يعيدون (قاسم أمين) وكتابه إلى الذاكرة باحتفالية مشبوهة، يتهافت عليها السذج ومحبو الظهور في تغييب متعمد للرؤية الإسلامية.
لقد سألني ملتاث ذات مرة: لماذا نقول :(قامت عائشة) وفي الإعراب نقول: عائشةُ فاعلٌ مرفوعٌ؟ لماذا لا نقول : فاعلة مرفوعة؟ ولماذا أجاز المجمع اللغوي كلمة (أستاذ) للمرأة المؤهلة، ولم يحتمل كلمة (أستاذة),أليس في ذلك ظلم للمرأة واحتقار لأنوثتها وتفحيل للغة على حساب شقائق الرجال؟, فما وسعني إلا الصمت, وبعض الصمت أفصحُ من مقال, وما زالت قضايا المرأة يتداولها الرجال وحدهم، فهم الذين يتحدثون عن حريتها ومساواتها ومطلق عملها وحقها السياسي والقضائي وحقها في الولاية الكبرى، وحين خدعوها وغرروا بها، تحولت إلى كاسية عارية مائلة مميلة خرجت من كرامة الإسلام إلى مهانة المدنية الغربية، ووجدوها فرصة ليمارسوا النخاسة بجسدها: تمثيلاً، ودعاية، ومسابقة في الجمال، ومادة لأدب الاعتراف المشين، ولم يمكنوا لها مثل أنفسهم، فهي: الراقصة، وهي المغنية، وهي الممثلة الاستعراضية بجسدها، وهي السكرتيرة لجمالها، وهي المضيفة لخفتها, عفَّ من عفَّ منهن، وسقط من سقط، ولكنها عفة مدانة وسقوط موجع، وهي في كل ما أعطيت من حقوق، تسرِّي عن الرجال، وتنحر كرامتها وعفتها تحت أقدامهم، والإسلام حين كفل لها الحق والمساواة، جعل منها العالمة والطبيبة والعاملة فيما يلائم أنوثتها مشترطاً: قيام الحاجة، وعدم الاختلاط,
إن على الذكر والأنثى أن يعيا خلقهما، وما أراده الله لكل منهما ومن كل منهما، وأن يحققا السنن الكونية، ولا يكون ذلك إلا بالمبادرات الواعية والاستبداد المتحصن والتصدي على بصيرة من علماء الأمة ومفكريها وأدبائها ونقادها، إِذ ما أضعف المهمِّشين لأنفسهم المتطوعين بأصواتهم وأقلامهم لمن يمر بهم على جيف الكلاب, وإن كان لابد من تبعية فما أقبح أن نهيم وراء الأغربة، ونحن نرى نسوراً وصقوراً تخفق في الفضاء:
ومن كان الغراب له دليلاً,,, يمر به على جيف الكلاب وما أكثر الأغربة الأدلاء الذين يمرون بأمتهم على سقط الحضارة ونفاياتها, لقد انطوت حضارة الغرب على علم وفكر وفن، جنح الأغربة إلى الفكر المادي والفن الماجن، ولووا رؤوسهم عن العلم الذي هو من مقاصد الإسلام وحكمته الضالة، ولو أنهم فعلوا ما فعله (اليابان) من تواصل حصيف لكان لهم حضور شريف ومكانة مرموقة، وكيف يكون لهم ذلك، ونخبهم يروجون الفكر المادي والفن الماجن, إن لنا عقيدة وتراثاً وثقافة، ولنا مع الإنسانية حضارة وعلماً ومدنية، وواجبنا أن نعرف الخصوصية والمشترك، وأن نتقدم بمشروعنا السوي، نستكمل ما ينقصه، ونذيب فيه المستجد، ولا نذيبه في المستجد، إذ ما علينا من بأس أن نستفيد من كل جديد لا يصادم ثوابتنا، ولا يخل بشرط عقيدتنا، ولا يخرج عن متطلبات حضارتنا التي تحفظ التوازن بين مطالب الروح والجسد والحياة الدنيا والآخرة.
أحسب أننا بدون ذلك سنظل متربيين نقول ما قاله غيرنا.
قالوا عن (الحداثة) فقلنا، وقالوا عن (البنيوية) فقلنا، وقالوا عن تحولاتهما وبعدياتهما فقلنا، وقالوا عن (التحويلية) و(الملكة اللغوية) فقلنا، وزدنا حمل حمار (بموت النحو) وقالوا عن (الكسبية اللغوية) فقلنا، وقالوا من قبل ومن بعد عن (القومية) و(العلمانية) و(الشيوعية) و(الوجودية) فقلنا مثل قولهم، وقالوا عن (الأدب المفتوح) فقلنا ، وقالوا عن (حرية المرأة) فقلنا، وقالوا عن (المرأة واللغة) فقلنا، وقد تساءل المرحوم (حسن ظاظا) عن كتاب (المرأة واللغة) المؤلف باللغة الفرنسية والمترجم منها إلى الإنجليزية، وما أحد أجاب على تساؤله، وقالوا عن (النقد الثقافي) كما هو عند جابر عصفور، فقلنا، وزدنا كيل بعير بدعوى (موت النقد الأدبي), ونحن بهذا التهافت سنظل طوافين كما القطط حول فتات الموائد، أو كأم الحليس، تلك العجوز الشهربة، التي ترضى من اللحم بعظم الرقبة، لا نؤصل، ولا نبتدر، ولا نجادل بالحسنى، ولا ننتقي من كل شيء أفضله، نضيفه إلى ما عندنا، ولا نلغي ما عندنا من أجله، ننقل الأشياء من أماكنها كالنمل، ولا نمص نسغها كالنحل، نسرق الأفكار ونختلس المناهج، ونحرم بلابلنا من الدوح، لنحلها للطير من كل جنس، من مثل (سوسير) و(بارت) و(نورثروب) و(ياكسبون) و(دريدا) و(تشومسكي) و(بييرجيرو) و(جونز لامنز) و(ستيفن اولمان) و(ساخاروفا) و(داسكال)، فمتى نسعد بمؤصلين يبتدرون الأشياء، فيأخذون بأحسنها، ويستصحبون تراثهم وحضارتهم، لتأخذ وتعطي، كما كانت في عصور الازدهار، وليس شرطاً أن يموت (النحو) و(النقد) و(المؤلف) لتتحقق المعاصرة, إننا بحاجة إلى مفكرين وأدباء وعلماء يقرؤون الآخر، ولايقرئهم الآخر ما يريد، وينزعون من بئر المعرفة، ولا يكرعون في السواقي بكدرها وطينها: (ومن قصد البحر استقل السواقيا)، وهل أحد يتصور أن من الأكاديميين في بلادنا من يقول عن فرضية دارون بالنص : (إن هذه النظرية لا تزال حية فاعلة بل لقد صارت البراهين اليوم على إمكان كونها تفسيراً للحياة على الأرض أكثر من أي وقت مضى) (الرياض 3/3/1420ه), وهل أحد يتصور أن ينبري كاتب آخر من ذات الفصيلة في ضجة السخط على مفترقات التنويريين بطباعة (وليمة لأعشاب البحر) ليدافع عن قامة (حيدر حيدر) العملاقة وعمله الاستشراقي، متهماً المتصدين له بالتآمر، ويجيء ذلك على صفحات صحفنا يقول بالنص : (قامة حيدر حيدر الشاهقة والمترسخة في فضاءات السرد العربية منذ عقود عديدة) (البلاد 23/2/1421ه), وهل لدينا متسع لنقل قبس من الفتن؟ وصدق من قال: (إذا أقبلت الفتنة جهلها كل الناس، وإذا أدبرت عرفها كل الناس) والمصيبة أنه لا ذاك يعرف ما توصل إليه العلم الحديث إزاء نظرية النشوء، ولا هذا يعرف منطويات الرواية المنتهية صلاحياتها منذ انتهاء الخطاب الثوري التشنجي الاشتراكي.
لقد قرأت الرواية، وأنا بصدد الحديث عنها، ولو قرأها صاحبنا لكان له موقف آخر, والأخطر أن يكون قد قرأها، وتصدى للامتعاض الإسلامي من هذا التجني السافر على القيم العقدية والاخلاقية وحتى القومية، ولي إليها وإلى نظرية النشوء والارتقاء عودة ارجو ألا تطول.
أمنيتي التي أتحرق من أجلها، أن نقول ابتداءً غير عابئين بقول غيرنا، وأمنياتي الأكثر أهمية أن نسمح للاختلاف المشروع، والجدل الموضوعي بضوابطه الشرعية، كي يأخذا موضعهما الطبعي، وأن نتحامى عشق الإلغاء للآخرين والاستقلال بالمشهد الثقافي، وهو يتسع لكل الخطابات المشروعة، وامنياتي المحبطة ان يجيد بعض العائدين من الغرب أدب الحوار, وبخاصة حين ترهقهم حوارات الجادين، ويهزمهم خطاب المؤصلين، فمتى يشب أولئك عن الطوق؟، ومتى يقولون ما يريدون لا ما يراد لهم؟ ومتى يعف المبدعون عن أدب الاعتراف المشين، ويمتنعون عن تدنيس المقدس وأنسنة الإله؟ ومتى يقترب أدباؤنا ومفكرونا من بعضهم ليشكلوا وحدة فكرية، تتفاعل ولا تتصادم، وتتنامى ولا تتقارض، وتقدم في عصر العولمة والتكتلات والقرية الكونية والانفجار المعلوماتي والمعرفي مشروعاً أدبياً وثقافياً، يدل بعروبته الناصعة وإسلامه النظيف، بعيداً عن التلوث الفكري والسقوط الأخلاقي، وإن لم يفعلوا، فمتى يعرفون قدر أنفسهم وحجم إمكانياتهم ويدعون لغة الفحولة، ويبحثون عن لغة ثالثة تجمع بين الجنس الثالث والمترجلات من النساء، فيكونون بهذا عالماً آخر ليسوا من الفحول ولا من الإناث, إننا في ظل الفتن العمياء والتيه المستحكم بحاجة الى الاقبال على كلمة سواء، نحقق من خلالها وحدتنا الاقليمية والفكرية، ونقدم بها مشروعنا الحضاري.
لقد مللنا من التناحر والتنابز والسخرية والسمسرة للآخر، ولم يبق إلا أن نعتصم بحبل الله، ونسائل أنفسنا عما فعلت، ونمارس نقد ذواتنا, وماذا نحن قائلون يوم تدوي كلمة الحق:
(وقفوهم إنهم مسؤولون).
|
|
|
|
|