| مقـالات
إحصائيات وزارة المعارف، أو الرئاسة العامة للبنات، تشير إلى نمو كمي متصاعد لاعداد الطلاب من عام إلى آخر، وهذه الزيادة المضطردة تنسجم مع النمو السكاني وتشجيع التعليم ودعمه، غير ان الصورة في التعليم العالي تدعو للقلق, إذ ليس هناك تطوراً كمياً أو كيفياً في مؤسسات التعليم العالي الجامعات، والكليات، والمعاهد,, .
وفي كل صف تبدأ هموم الأسرة، فالأهالي والجامعات على حد سواء يشعرون بألم واحباط وقلق حتى ينتهي موسم القبول وتتضح الصورة.
فالأسرة تبحث عن مكان للابن أو البنت في الجامعة أو الكلية، والمسؤولون في الجامعات والكليات يعانون من حجم الضغوطات، ويتعاطفون مع مشاعر الطلاب والطالبات، ولكنهم في الوقت نفسه لا يملكون الحلول التي تساعد على التخفيف من حدة أزمة القبول.
ان مسيرة التعليم العالي في بلادنا تعرضت لظروف ومراحل مختلفة، فمع بداية الطفرة حصلت مؤسسات التعليم العالي على زخم كبير من الدعم المالي والمعنوي من الدولة، وهكذا بنيت مدن جامعية، وفتحت كليات جديدة، بل جامعات جديدة، ورافق ذلك ارتفاع في معدلات الابتعاث إلى الخارج، ووفرت مختبرات ومكتبات,, الخ، ومن الانصاف أن نقول بان هناك كليات في جامعاتنا السعودية على مستوى متميز في الأداء الاكاديمي، وخصوصاً كليات مثل الطب والهندسة والحاسب الآلي,, الخ ولكن المتابع لتطور الجامعات في بلادنا يلاحظ ثغرات في مسيرة نموها وتطورها، وأهمها في تقديري ما يلي:
1 ان سياسة القبول والتوسع في انشاء البرامج الأكاديمية لم يكن خاضعاً لاحتياجات سوق العمل، ومن هنا توافرت أعداد كبيرة من خريجي الجامعات لا يعملون وفقاً لتخصصاتهم وانما في مجالات أخرى، وفريق آخر لم يجد فرصة عمل مناسبة لأن التخصص غير مطلوب في السوق, مما يعني ان خطة التعليم العالي لم تضع في حسابها حركة النمو الاقتصادي والاجتماعي، وانما ترك الباب مفتوحاً لاجتهادات أكاديمية لا تعكس الاحتياج الفعلي لمتطلبات سوق العمل.
2 التركيز على الطابع النظري في معظم الأقسام وخصوصاً في مجال العلوم الإنسانية مما ترتب عليه غياب المنظور الذي يضع في الاعتبار القيمة العملية للمعرفة، وليس ترف الفكر الأكاديمي.
3 لم نسترشد الجامعات والكليات بخطط التنمية كمعيار هام في برامجها ونوعية الإعداد والتدريب وكذا تقليص بعض التخصصات أو التوسع في تخصصات جديدة، في ضوء ما تحدده خطة التنمية.
ومن المهم هنا أن نؤكد على أننا لا نقوم بمراجعة نقدية للتعليم العالي، إذ أن المراجعة النقدية تفترض أيضاً التوقف طويلاً حول مضمون البرامج الأكاديمية والفلسفة التربوية المضمنه فيها، وكذا المناخ الأكاديمي بصفة عامة، ولكن المعالجة هنا على علاقة بسياسة القبول وحجم المتاح من مقاعد دراسية لخريجي الثانويات العامة.
ومن الانصاف ان نسجل لوزارة التعليم العالي اهتمامها ومنذ سنوات في التعامل مع ما سبق من ثغرات، حيث شكلت فرق عمل وأجريت أبحاث ودراسات وأقيمت ندوات، كلها تتعامل مع أسئلة معقدة ذات علاقة مباشرة بواقع مؤسسات التعليم العالي وضرورة اعادة النظر في برامجها ورسم سياسة للقبول، وغير ذلك من أمور حيوية.
الجميع إذن وزارة التعليم العالي ، الجامعات، الأهالي مدركون للمشكلة وضرورة توفير حلول ملائمة ومؤسسات التعليم العالي وحدها لا تستطيع توفير الحلول السريعة، ولم يظهر في الأفق بوادر جادة لايجاد حلول عملية تتعامل مع المشكلة بخطوات واقعية متدرجة، أي حلول تضع في اعتبارها كافة العقبات، وتستوعب عناصرها ضمن الممكن والمتاح، وما يجب أن يكون.
إن هناك من يعتقد أن الحل يتطلب قراراً سياسياً ملزماً يضع الجميع أمام مسؤولياتهم، وهو اعتقاد صحيح من جانب وغير دقيق من جانب آخر, فصناع القرار السياسي في هذه البلاد المعطاء بضعون في الاعتبار هموم المواطن كأولوية مطلقة، وهذه بديهية لا تحتاج إلى تأكيد, بيد أن المعضلات التي تواجه المجتمعات عادة تتداخل فيها عناصر وحسابات، وخطط، وامكانيات،وموازين قوى، ومعوقات، وامكانيات مالية وبشرية، ثم قبل ذلك وبعده ارادة سياسية تحسم المختلف وتعزز المؤتلف وكذلك الصعاب.
لنتأمل أولاً خارطة الواقع السعودي وما يحمله للمستقبل من بذور أو استعدادت أو مؤشرات، أو خطط، إذ يلاحظ تصميم جاد على عزم الدولة لتنويع مصادر الدخل وتقليل الاعتماد على مصدر واحد، وفتح السوق السعودية أمام الاستثمار الأجنبي، وقد رافق ذلك انشاء المجلس الاقتصادي، والمجلس الأعلى للبترول، وهيئة الاستثمار، والتقدم باتجاه الانضمام لمنظمة التجارة العالمية، والاتجاه نحو التخصيص ، ودعم القطاع الخاص، بل اشراكه في صنع القرار الاقتصادي، وبالمقابل فان هناك جهودا مبذولة للاحلال أو ما نسميه بالسعودة، وبدأنا نلاحظ تواجد عناصر سعودية بمحلات السوبر ماركت والبنوك، وبعض الفنادق،وغيرها مما يعطي بعض المؤشرات التي نطمع في المزيد منها في برنامج سعودة يتدرج بمراحل مدروسة، وسوق العمل السعودي مزحوم على نحو مأساوي بقوى عمل غير سعودية، ليست بالضرورة مؤهلة في كل الأحوال، ولكنها تظل الأرخص بحساب سعر العرض والطلب، بل ان قطاعات مثل: القطاع الصحي، وقطاع الانشاء والتعمير، وقطاع التشغيل والصيانة، وقطاع التجارة، مشغول بنسبة تصل الى 98% بقوى عاملة غير سعودية.
إن الحراك الاقتصادي وتكوين المؤسسات وايجاد النظم وسن التشريعات التي تسهم في ازدهار الاقتصاد مهم ولكنه بحاجة إلى ايجاد المعادل الموضوعي له، وأعني به التحرك السريع لتطوير التعليم العالي والتوسع فيه لتوفير كادر سعودي مدرب يمكن له الاسهام الحقيقي في نمو الاقتصاد والاستفادة من عوائد الحركة الاقتصادية من خلال توفير فرص عمل ودخول ثابتة لشرائح واسعة من الشباب السعودي، واذا لم يتوفر ذلك، فان الناتج في التحليل النهائي ليس في مصلحة الاقتصاد السعودي، فضلاً عن تفاقم مشكلات تبدو واضحة الآن مثل مشكلة البطالة، وما تتركه من آثار اجتماعية سالبة على المجتمع يفترض ان توقظ الحساسية أو الحس المسؤول الذي يجب أن يتحرك ضمن خطوات تستجيب لتحديات البطالة وما ينشأ عنها من كوارث.
المشكل في تقديري لا يرتبط إذن بتوفير مقاعد كافية في مؤسسات التعليم العالي، ولكنه يرتبط أيضاً بتوفير فرص العمل للخريج, وفرص العمل في السوق يفترض أن تحكمها قوانين صارمة تحمي حقوق المواطن السعودي في بلده فلا يتعرض لمنافسة لا يمكنه الخوض فيها، وهذا لا يكون إلا من خلال وضع الحد الأدنى للاجور، ورسوم دخل على العمالة الوافدة، وهو حق مشروع للدولة، ومن هنا تخف حدة المنافسة بين قوى عمل وافدة تقبل الأجور المتدنية، وقوى عمل سعودية ظروفها لا تسمح لها بقبول أجور لا تتناسب مع احتياجات السعودي الأساسية, كما أن فرص العمل تحدد نوع المهارات المطلوبة، وهو ما يفترض أن يحكم برامج مؤسسات التعليم العالي.
الجامعات تتوافر فيها عقول مدربة ومتخصصة، ومراكز الأبحاث في الجامعات يفترض أن تتجه لدراسة التوجهات العامة للاقتصاد السعودي وما يفرزه واقع السوق من احتياجات، وفي ضوء ذلك يتم التوسع والتطوير في مؤسسات التعليم العالي.
كان الشباب السعودي في مراحل سابقة يتجه بعد الجامعة للعمل في أجهزة الدولة، وكانت الدولة توظف بأعداد كبيرة بما يفوق أحياناً حاجة أجهزة الدولة، حتى تكدست أعداد كبيرة فائضة، وأصبحت في مواقع كثيرة بطالة مقنعة، ومع تضخم أعداد المتخرجين من الجامعات، أصبح من غير الممكن بل من المستحيل بمقياس اقتصادي استيعاب هؤلاء في أجهزة الدولة، وفي كل دول العالم فان القطاع الخاص الشركات والمؤسسات، وحتى الأفراد هو الذي يستوعب معظم القوى العاملة, وليس هناك خيار آخر، فمع نمو السكان ونحن في هذه البلاد نحتفظ بأعلى معدلات النمو السكاني وما يرتبه من أعباء على ميزانية الدولة، فان الواقع الآن والمستقبل القريب والبعيد، يؤكد بأن الخيار الوحيد المتاح للشباب السعودي هو الالتحاق بمؤسسات القطاع الخاص، ولكن القطاع الخاص ليس مؤسسات خيرية، ولكنه بيئة عمل صارمة تقدم على الجدية والاتقان والمنافسة، ويعتبر الكفاءة هي المعيار للنجاح والتقدم في الوظيفة, ومواصفات وشروط كهذه نفترض توفر برامج أكاديمية تعطي الأولوية للمهارة والتدريب السلوكي والقدرة على تحمل المسؤولية, وبرامج كهذه تتطلب اعتمادات مالية، وهذه ليست تحت تصرف وزارة التعليم العالي أو الجامعات، وقضية الاحلال وضبط توجهات السوق تتطلب تشريعات ونظم ومتابعة.
وفي ضوء ما سبق فإن المشكلة مركبة، متعددة العناصر والأسباب، ومتكاملة الأدوار والوظائف والمسؤوليات، ومن ثم فإنه لابد من توفر منظور استراتيجي يؤسس على قراءة علمية لخريطة الواقع وما تتضمنه من حراك اقتصادي واجتماعي وتربوي وثقافي, قراءة تستند على مؤشرات احصائية دقيقة، وفي الوقت نفسه مراجعة نقدية للخطط السابقة وكيفية تعاملها مع حركة المجتمع وتطوره، وما تضمنته من نقاط قوة أو ضعف، للخروج برؤية تتحول إلى برنامج عمل، يوفر مجالا للطلاب، وفي الوقت نفسه فرص عمل بعد التخرج.
وللحديث بقية
|
|
|
|
|