| مقـالات
كان حسن المترجم مثقلاً بواجباته الكثيرة، إلا أن ما كان يشغله هو مصير والديه وأخيه باركو المقيمين بالملاجئ في الجزء الجنوبي من المدينة, كانت العائلة قد انتقلت قبل سنتين إلى سربرنيتشا عندما طردهم الصرب الغزاة مع جميع السكان المسلمين من مدينتهم فلا سينيكا, كان أبو حسن، عمرو، رجلاً بارزاً في تلك المدينة, عندما قامت الحرب كان حسن يدرس في سراييفو إلا أنه التحق بعائلته بعد ذلك وأصبح ايضاً لاجئاً مثلهم, والآن فإن حسن وعائلته مثل غيرهم من آلاف المسلمين يواجهون الطرد الجماعي أيضاً من سربرنيتشا حسب خطة التطهير العرقي التي ينفذها الجنود الصرب, كانوا مثل غيرهم من سكان المدينة يعتقدون ان الامم المتحدة ستحميهم من الغزاة، أو على الأقل تنقلهم إلى منطقة آمنة قريبة من مناطق حكومتهم البوسنية, وعندما بدأ الجنود الصرب يدخلون المدينة كان على حسن أن يعدو لمسافة ميل ونصف صعوداً في مناطق مرتفعة ليصل إلى منزله ليطمئن على أهله, كان القصف عنيفاً وكان عليه أن يحتمي وراء جدار أو شجرة ليتجنب الموت, لم يكن قد رأى عائلته لمدة ثلاثة أيام، وقد وجدهم ما زالوا أحياء في منزلهم, أصر والده أن يعود باركو معه إلى مقر عمله على أن يلحق بهما الأبوان فيما بعد, كان الظلام قد أرخى سدوله عندما رأى حسن وباكو فجأة مجموعة من الناس يركضون نحو ملجأ في مدرسة قريبة، فارين حسبما قالوا، من ضربة جوية على المدينة على وشك أن تحدث, انضم حسن واخوه إلى المجموعة المتجهة نحو المدرسة ومكثوا هناك ساعة واحدة, لم يحدث أي قصف جوي وكان ذلك خدعة أخرى تبعت ما قبلها من أكاذيب أطلقت لتطمين المسلمين, وغادر الشقيقان المدرسة إلى مركز البريد الذي يعمل فيه حسن حيث أمضيا الليلة.
في صباح اليوم التالي صحب حسن أخاه باركو إلى المقر الرئيسي للقوة الهولندية في بوتوكاري على ظهر جيب أخذ ينهب الأرض مخترقاً الشوارع والمنعطفات حتى وصلا المقر وانضما إلى المراقبين العسكريين الثلاثة الذين كانوا قد هربوا قبلهم, والى خمسين جندياً هولندياً كانوا يختبئون في خنادقهم, كان في الخنادق أيضاً ثلاثة أشخاص من الاستخبارات كانت مهمتهم جمع المعلومات وارسالها للجنرال سميث يحددون فيه الأهداف التي سيقصفها طيران حلف الأطلسي.
بعد أن اطمأن حسن على سلامة أخيه عاد إلى مقر عمله حيث كان الخراب والدمار يحيطان بالمكان, وجد مجموعة من المذعورين وهم يتمسكون بآخر مجموعة من الجنود الهولنديين الذين كانوا لا يزالون في وسط سربرنيتشا بمركز البريد يحرسون مقراً صغيراً لهم, كنت ترى آلاف الناس المذعورين الفارين بحياتهم من النساء والرجال والأطفال وهم يتزاحمون بشكل انتحاري، كل يحاول الدخول إلى مقر الجنود الهولنديين لعلهم يهربون بحياتهم فقط بعد أن أوشك الجنود الصرب على دخول بلدهم, كان القادر منهم يحمل على رأسه أو ظهره ما استطاع أن يحمله من ممتلكاته قبل أن يغادر منزله, كانت هناك امرأة تصرخ وعيونها مسلطة على الجنود الهولنديين الذين كانت تخدمهم اختي ماتت، أختي ماتت! لماذا ماتت أختي؟ ولم يعرها أي من الجنود أي اهتمام على الرغم من أنهم يعرفونها جيداً فقد كانت هي التي تقوم بتنظيف المركز، كانت بوابة المعسكر تئن وتصرخ تحت وطأة الضغط من الجماهير الغفيرة التي كانت تحاول باستماتة الدخول للنجاة بحياتها, وأخيراً انهارت البوابة تحت الضغط الكبير، واندفعت الجموع كالموج العارم نحو عربات النقل العسكرية يقفزون إليها بالعشرات لعلهم يصلون بها إلى بر الأمان كما حدث لمواطنيهم من قبل في عام 1993, وفجأة سقطت قذيفة وسط الناس جرحت كثيرين كانت بينهم امرأة توفيت بينما كان الجنود الهولنديون يضمدون جراحها, ماتت على عتبات المبنى الذي انخلع بابه منذ لحظات وغطاها الجنود بقطعة قماش.
بعد ذلك بدقائق قليلة أتى النبأ أخيراً ان طلب الهولنديين توجيه ضربة جوية قد ووفق عليه!!,, لقد وافق المبعوث الخاص للأمم المتحدة في زغرب السيد ياسوشي أكاشي على مساندة الطيران لجنود الأمم المتحدة بعد كل الأيام التي صمتت المنظمة الدولية أذنيها عن سماع الأصوات التي تصلها من مندوبيها ومن الشعب البوسني والحكومة البوسنية, وأقلعت طائرة حربية هولندية واحدة ألقت قنبلتين على دبابة صربية.
بعد ذلك بدقائق أعلن القائد الصربي ماديش أنه إذا اسقطت قنبلة واحدة أخرى فانه سوف يأمر بقتل الخمسة وخمسين جندياً هولندياً الذين كان جنوده قد أخذوهم أسرى وأنه اضافة إلى ذلك سوف يمحي المعسكر الهولندي من الوجود, اتصلت الحكومة الهولندية بأكاشي طالبة منه التوقف عن القصف الجوي وتبع ذلك هروب الجنود الهولنديين من معسكرهم في سربرنيتشا!,, كان الجنود يقودون مركباتهم وقد غصت عن آخرها بالبوسنيين الفارين من نار الصرب، ومن لم يجد مكاناً داخل حوض العربة تشبث بأي قطعة من السيارة وصلت إليها يده هرباً بحياته, كانت الفوضى عامة لدرجة أن الجنود دهسوا عشرات الأشخاص وهم يتسابقون إلى الفرار من النيران والمتساقطة عليهم ينشدون السلامة في مركز الأمم المتحدة الرئيسي في بوتوكاري, إلا أنه في بوتوكاري نفسها كانت الفوضى والضياع أسوأ مما هما عليه في سربرنيتشا, ففي ذلك المركز الرئيسي التابع للأمم المتحدة سمح الهولنديون لخمسة آلاف شخص معظمهم من النساء والأطفال والرجال المسنين بالدخول إلى المعسكر، بينما أوصدوا الأبواب أمام الباقين الذين قدر عددهم بخمسة عشر الى عشرين ألف إنسان، سارع الجنود الصرب المتقدمون نحو سربرنيتشا بتطويقهم جميعاً.
استخدم حسن بطاقة عمله لدخول المعسكر، وكان سروره عظيماً عندما وجد أن والديه قد سبقاه إلى هناك, كان على يقين أن الهولنديين الذين خدمهم بولاء تام سوف يبسطون حمايتهم عليه وعلى عائلته وينقذونهم من الصرب البوسنيين.
كانت لدى الهولنديين تعليمات باتخاذ كل الاجراءات الكفيلة بحماية اللاجئين والمدنيين, إلا أن الفرقة الهولندية لم يكن لديها من الطعام ما يكفي لأكثر من ثمان وأربعين ساعة، اذا اقتصرت فقط على إطعام أولئك الذين سمح لهم بدخول المعسكر، عدا عن الآلاف الذين كانوا يحيطون بالثكنة يطلبون الدخول، وكذلك الذين لجأواإلى مباني مصانع قريبة مهدمة لحماية أرواحهم من طلقات المدافع الصربية, كان لابد والحالة هذه من نزوح جماعي كبير لتجنب كارثة أصبحت محققة, وللدفاع عن سربرنيتشا والمناطق الأخرى الآمنة في حالة اجتياح مالديش وقواته لها، توقع الهولنديون عملية حربية كبيرة باشراف دولي واشراك الصليب الأحمر والأمم المتحدة والمندوب السامي للاجئين.
ولكن بدلاً من الضربة العسكرية المتوقعة ضد القوات الصربية وجه مالديش دعوة للهولنديين للاجتماع به حيث احتسى الجميع الشامبانيا.
وما أن انفض الاجتماع الذي عقد في 12 يوليو حتى أقبلت طلائع ثمانين حافلة وشاحنة صربية لتبدأ نقل الآلاف من المسلمين الذين كانوا قد لجأوا إلى مقر البعثة الهولندية، وغيرهم من الذين لاذوا بها ولم يتمكنوا من دخولها، إلى المناطق التي تسيطر عليها القوات الحكومية البوسنية, وقف مالديش يراقب عملية اجلاء كل أولئك المعذبين من النساء والرجال الكبار ولم يتورع أن يوزع الحلوى على أطفال المسلمين!!,, لقد فوجئ الهولنديون بالسرعة التي نفذ بها صرب البوسنة المنتصرون عملية اجلاء المسلمين عن مناطقهم, كان عدد الشاحنات وكذلك استيلاء الصرب على مائة ألف لتر من الوقود، كانوا قد سمحوا بوصولها إلى قوات الأمم المتحدة، دليلاً على مهارتهم في التخطيط المسبق, كانت خطتهم تقضي بإجلاء المرضى أولاً ثم الضعفاء، فالأطفال والنساء وأخيراً الرجال ما بين سن السادسة عشرة إلى الستين, كان أفراد الفئة الأخيرة يطلق سراحهم فقط بعد أن يستجوبوا ويتأكد آسروهم أنهم لم يقوموا بأي جرائم حربية ضد الصرب.
كانت الحكومة البوسنية في سراييفو ترسل النداء تلو النداء إلى الأمم المتحدة كي تمنع عملية التطهير العرقي التي تقوم بها القوات الصربية, كانت الحكومة تعرف ان عملية الاخلاء اذا تمت على أيدي القوات الصربية نفسها فإن مصير الأسرى وخاصة الرجال سيكون القتل، كما حدث في حالات سابقة, إلا أن كل نداءات الحكومة البوسنية ومناشداتها ذهبت أدراج الرياح, وكل ما عمله الهولنديون ان أعلن العقيد روبرت فرانكلن نائب قائد قواتهم الذي تسلم القيادة بعد مرض القائد كاريمانز، أعلن أنه سيرسل سيارة بها جنديان هولنديان مع كل مجموعة من الشاحنات الصربية للتأكد من سلامة المهجرين, إلا أن تلك الخطة لم تنفذ على الاطلاق ونتيجة لذلك حدثت مآس محزنة ومخزية في ذات الوقت إذ كان الجنود الصرب يوقفون الشاحنات في الطريق ويطلبون من النساء والكبار ان يهبطوا منها حيث يكيلون لهم كل أنواع الاهانات مع الضرب والتهديد وارغام المساكين على التخلي عن كل ما يمكن ان يكونوا قد استطاعوا حمله معهم من نقود أو حلي أو غيرها, ومن كان حظه طيبا من النساء والأطفال فقد وصل الى المناطق التي تسيطر عليها الحكومة البوسنية بعد رحلة ذاق بها الأهوال وقاسى من العذاب ما يعجز عنه الوصف, لقد كان هؤلاء يشاهدون ذويهم من الرجال يؤخذون ويضربون ويعذبون ثم يطلق عليهم الرصاص.
كان الطريق مغطى بجثث رجالهم, بعض الجثث التي كانت منتشرة على الطريق الذي سلكته الشاحنات الصربية المحملة بالمسلمين كانت لبعض أفراد من فرقة قوامها تسعة عشر ألف رجل من القادرين على حمل السلاح، الذين تصدوا للصرب عند هجومهم على مدينتهم سربرنيتشا، ثم فروا بعد ذلك عندما تأكدوا من عدم مقدرتهم على صد القوات الغازية، واتجهوا نحو التلال في طريقهم الى المناطق التي تسيطر عليها الحكومة البوسنية, لقد ذاق أفراد تلك الفرقة الأهوال من شراسة الجنود الصربيين ووحشيتهم, فقد كان هؤلاء لا يترددون في الترصد لهم مرتدين بزات الأمم المتحدة التي سرقوها من الجنود الهولنديين ثم يقطعونهم إرباً بعد القبض عليهم.
وكأنما لم يكتف الصربيون بكل الفظائع التي أنزلوها بالمسلمين فقد كانت هناك مأساة أخرى تجري تحت سمع وبصر مركز الأمم المتحدة في بوتوكاري, فقد قام الجنود الصرب أمام أعين الهولنديين بفصل كل الرجال والأولاد عن عائلاتهم وانهالوا على الجميع ضربا بأعقاب بنادقهم وعصيهم أمام ذويهم من النساء ثم بعد ذلك أخذوهم وذبحوهم ودفنوهم في قبر جماعي واحد.
يروي حورم سلجوق، وهو واحد من القلائل الذين نجوا من المذابح الصربية، يروي قصته فيقول: توجهت الى الحافلة مع عائلتي لكن جنديا صربيا وضع يده على كتفي قائلا: أيها الرجل العجوز عليك أن تتجه الى اليسار وأجبته: لا أستطيع أن أذهب أنا رجل مريض ويجب أن ابقى مع عائلتي , اخذت عائلتي تبكي وتتوسل الى الصربي أن يتركني وشأني, ولكن لم يزد على قول إذهب قبل ان نبقيك هنا، اذهب واصعد الى الحافلة التي أشرت لك عليها, ولم يكن هناك بد من أن أشير الى عائلتي أن تذهب وتتركني, لقد ظننت وقتها أنني لن اراهم أبدا, كنت أدرك أننا اذا انفصلنا الى مجموعتين فإنني ميت لا محالة , ويضيف سلجوق أنه توسل الى الجنود الهولنديين للتدخل إلا أنهم اكتفوا بالضحك ولم يعملوا أي شيء, لقد قتل الجنود الصرب باشراف مالديش جميع الرجال المسلمين الذين انضم اليهم سلجوق! هو وحده فقط نجا من الموت!!.
في ليلة 12 يوليو بدأت الأخبار تنتشر في القاعدة الهولندية عن المجازر التي تحدث للمسلمين وعن فصل أفراد العائلات بعضهم عن بعض, كان حسن ما زال مع عائلته مع مئات من المسلمين الآخرين في حماية القوة الهولندية, جاءت امرأة تجري وتمتمت من خلال لهاثها أن الصرب قد أطلقوا النار على تسعة رجال مسلمين في مؤخرة رؤوسهم، وأن هناك مجموعات أخرى من الأسرى سيقوا للاستجواب, وعندما استفسر اللاجئون المرعوبون عن الأمر أجاب العقيد فرانكلن نائب قائد القوة الهولندية: هذا هراء, لا تنشروا هذا الكلام الفارغ بين الناس فلن يكون له فائدة إلا خلق حالة من الرعب , حاولت المرأة التي أتت بتلك الأخبار فيما بعد ان تنتحر!,, لقد وجد الجنود الهولنديون في الواقع جثث تسعة رجال اعدموا باطلاق الرصاص عليهم في مؤخرة رؤوسهم.
وقد أمر رئيس أركان الجيش الهولندي باعدام شريط الفيديو الذي سجل المجزرة لأنه حوى صورا لجنود هولنديين من حفظة السلام وهم يشاهدون عملية الاعدام الجماعية!!,, وقد اشتكت جماعات حقوق الانسان من أن عملية اعدام شريط الفيديو حرمت محكمة مجرمي الحرب في لاهاي من دليل واضح.
لم ينم اللاجئون داخل المعسكر الهولندي تلك الليلة، فقد كانوا يسمعون طلقات الرصاص المتتابعة يرافقها صرخات آدمية تدمي القلوب, كان الجنود الصرب وبرفقتهم كلابهم البوليسية يحرسون الأسلاك الشائكة التي تحيط بالمعسكر خشية أن يفر أحد من المسلمين الذين التجأوا اليه, كان التوتر باديا على الجنود الهولنديين وبخاصة أولئك الذين وصلوا الى المعسكر بعد هبوط الليل, لقد وصف أحد المترجمين في المعسكر حالهم بقوله: كنت تقرأ في وجوههم أن شيئا رهيبا يجري في الخارج لكن أحدا منهم لم يقر بما كان يحدث , وعلى الرغم من معرفة الهولنديين لما كان يجري وأن الصرب كانوا يفصلون الرجال عن عائلاتهم بعد خروجهم من المعسكر ويسوقونهم الى حتفهم، إلا أنهم أجبروا كثيرا من المسلمين الذين لجأوا اليهم على ترك المعسكر, قال لهم فرانكلن إنه سوف يسجل اسماءهم جميعا ويرسل نسخة منها الى الأمم المتحدة وأخرى الى الصليب الأحمر وثالثة الى الحكومة الهولندية ويحتفظ بنسخة في سراويله! كضمان أنهم لن يؤذوا بواسطة صرب البوسنة!,, ولقد كانت فجيعة رهيبة عندما وجد حسن أن عائلته نفسها لن يسمح لها بالبقاء في المعسكر, وعندما راح يرجو الضباط الهولنديين الذين خدمهم باخلاص طوال فترة الحرب أن يسمحوا لأهله بالبقاء لم يزد هؤلاء أن مصمصوا شفاههم وأطرقوا بأعينهم الى الأرض وراحوا ينقلون ثقل اجسامهم من قدم الى القدم الأخرى, كانت الحجة التي استطاعوا ان يأتوا بها أخيرا هي أن فرانكلن أمر بترحيل كل الأشخاص غير المصرح لهم بالبقاء حتى لا يعرض حياة الآخرين للخطر!!,, لم تجد كل توسلات حسن فقد حسم فرانكلن الأمر بقوله لدي مشاكل أخرى كثيرة ولا أريد الخوض في هذا الأمر أكثر من ذلك , لجأ حسن الى رجال المراقبة الثلاثة الذين لجأوا بأنفسهم الى المعسكر الهولندي, وكان الرد أن نهره أضخمهم جثة قائلا: اغرب عن وجهنا !!.
في يوم 13 يوليه خرجت عائلة حسن من المعسكر الهولندي وسلمت مصيرها الى أيدي القوات الصربية, كان حسن يبكي وقد أمسك بيد أخيه الأصغر الذي كان على يقين أنه سيقتل لأنه في سن الجندية, كان وجه الأم أشبه بوجوه الأموات, أما ملامح الأب والأخ الأصغر فقد كانت صارمة جامدة, اراد حسن أن يرافقهما إلا أن أخاه طلب منه بهدوء أن يعود لعمله, في منتصف الطريق الى البوابة قابلهما العقيد فرانكلن وأخبرهما أن بإمكان الأب فقط أن يبقى في المعسكر لأنه كان في الاربع وعشرين ساعة الأخيرة يعمل كواحد من ممثلي المسلمين في اجتماعات عديدة عقدت بين الهولنديين والقوات الصربية, إلا أن الرجل الكبير رفض عرض العقيد الهولندي قائلا: كيف أبقى هنا وأدع زوجتي وابني يذهبان وحدهما؟ ورد فرانكلن قائلا: حسنا طالما أن هذا قرارك !,, يقول حسن ان فرانكلن أراد من عائلة واحدة أن تنفصل الى جزءين, وأن تقرر ذلك خلال ثانيتين فقط, كانت آخر كلمات حسن الى أبيه: أخبر باركو أنني أحبه , قبل مغادرة المعسكر قبل والد حسن العقيد فرانكلن وذلك محاولة أخيرة للظهور أمام الجنود الصربيين أنه قريب من الضابط الهولندي وقوات حفظ السلام.
تقول بعض الروايات ان باركو قد انتزع من عائلته حالما خرجت العائلة من المعسكر وأن الأب ضرب ضربا مبرحا, بقي حسن يدور في المعسكر على غير هدى وقد فقد كل إحساس بوجوده بل وبالحياة حوله, في نفس الليلة وصلت شحنة غذائية ومشروبات كحولية من القوات الصربية الى المعسكر الهولندي أمضى على أثرهما الجنود الهولنديون ليلتهم في احتساء الخمر والغناء والرقص على أنغام الموسيقى.
يعاني حسن اليوم معاناة رهيبة من الشعور بالذنب الذي يحسه الانسان اذا ظن أنه أنقذ نفسه بالتضحية بالآخرين, لقد غسل الهولنديون أيديهم من حكاية عائلته مدعين أنهم عملوا ما يمكنهم عمله في ظل الظروف التي كانت سائدة, يقوم دفاع الهولنديين عن تقصيرهم على أساس أنهم كانوا أقل عددا من صرب البوسنة واضعف تسليحا, ولكن السؤال الرئيسي الذي ما زال يحير العالم هو: الى أي مدى كان اهتمام أولئك الهولنديين بالمسلمين الذين جاءوا لحمايتهم؟!, ان الحكومة الهولندية تضع اللوم كله على الأمم المتحدة التي تقاعست في اصدار الأوامر بتوجيه ضربات جوية ضد القوات الصربية قبل هجومها الرئيسي الأخير, لقد أصبح ممكنا الآن اظهار الحقيقة المؤلمة البشعة حول المجزرة البشرية التي حدثت عند احتلال الصرب لسربرنيتشا.
هذه الحقيقة هي أن المجتمع الدولي بأكمله قبل بفناء جميع الرجال المسلمين البوسنيين القادرين على حمل السلاح والدفاع عن بلادهم وأن تلك اللعبة السياسية كانت أشمل حتى من المؤامرات التي كانت تحاك ضد المسلمين في العواصم الغربية! نتيجة لذلك لم يعد هناك مكان للاستغراب أن الجيوب التي أعلنت آمنة كانت تستباح واحدة بعد الأخرى دون أن يحرك أحد ساكنا!.
أصبحت الأمم المتحدة هي البقرة التي سقطت وتكالبت عليها السكاكين، وبخاصة من قبل الولايات المتحدة، عندما سقطت سربرنيتشا, لقد ازدادت المأساة سوءا عندما حدث خلاف بين جناحي الأمم المتحدة العسكري والمدني اللذين عادة ما يسود الانسجام بينهما, كان من الواضح أن الهولنديين لن يتحدثوا عن أفظع مأساة انسانية حدثت في العصر الحديث، حيث انتهكت الى الحضيض أبسط حقوق الانسان في البوسنة، وجرى من الآلام والعذاب للمسلمين في أواخر القرن العشرين مالم يسمع بمثله من قبل, لم يتكلم الهولنديون عن ذلك لأن فرقتهم كانت المكلفة بحفظ السلام والابقاء على أرواح المدنيين ولم تفعل من ذلك شيئا, كما لم يتكلم الهولنديون عما حدث خوفا على أفراد فرقتهم نفسها من الهلاك على أيدي الصرب, لقد جرى اخلاء خمسة وخمسين جنديا هولنديا من سربرنيتشا في 15 يوليه, لقد شاهد أولئك الجنود الهولنديون مناظر مأساوية ينفطر من هولها القلب ويقطر لها الضمير ألما وخزيا, كانت هناك عشرات الجثث لرجال ونساء مسلمين مبعثرة على الطريق، كما كانت هناك شاحنات تسير بمحاذاة شاحنات الجنود الهولنديين وقد غصت عن آخرها بالرجال والنساء الذين كانت أيديهم مربوطة ومرفوعة فوق رؤوسهم وهم في طريقهم بحراسة الجنود الصربيين الى حقول القتل!!,, وعند وصول جنود هولندا الى زغرب أخفتهم وزارة الدفاع الهولندية عن أعين العالم, لم يتكلم الهولنديون عن المآسي التي حدثت في سربرنيتشا إلا بعد أن غادر آخر جندي هولندي موقعه في بوتوكاري ووصل الى زغرب, بعد ذلك فقط قص الهولنديون على موظفي الأمم المتحدة ما رأوه من فظائع اقترفت ضد المسلمين, ولو كانوا كشفوا عما يعرفونه بوقت مبكر لتغيرت الصورة تماما, ان مراعاة الهولنديين لمصالحهم الخاصة، وأولها حماية جنودهم، جعلتهم لا يترددون في منع ايصال المعلومات عن حقيقة الأوضاع في البوسنة، وبخاصة في المناطق المسماة الآمنة وأهمها سربرنيتشا، الى الجنرال سميث قائد قوات الأمم المتحدة في البوسنة, وعلى الرغم من ذلك فإنه يبقى من غير المعقول ألا يكون لدى الجنرال سميث معلومات كافية عن المذابح التي كانت تقترف ضد المسلمين, كان بإمكان الجنرال أن يحصل على المعلومات التي يريدها من العواصم الغربية وبخاصة الولايات المتحدة التي كانت أقمارها الصناعية تلتقط صورا لمناطق الذبح الجماعي الذي حل بالمسلمين, ولكن واشنطن لم تكشف عن وجود تلك الصور إلا في 10 أغسطس!!,, لم يعلق الجنرال سميث نفسه على الموضوع, ولكن بعض مساعديه المقربين يقولون إن الهولنديين لم يطلعوا الجنرال على تفاصيل ما عرفوه عما كان يجري في سربرنيتشا قبل أن يغادرها وقبل ان يوقع الجنرال اتفاقا مخجلا مع الجنرال زعيم صرب البوسنة اعتبره جنرال الأمم المتحدة خطوة أولية محدودة نحو تطبيع العلاقات معهم بعد المذابح التي اقترفوها في سربرنيتشا!!!,, لقد تقابل سميث ومالديش في مطعم هان كرام، وكان ذلك أول اجتماع لهم منذ مارس, ولم يكن ما يشغل سميث في ذلك الاجتماع وهو يقابل زعيم الصرب في مطعم، معرفة الأهوال التي اقترفها الجنود الصربيون في سربرنيتشا, كان همه أن يسهل خروج الفرقة الهولندية من الجيب الذي يسيطر عليه الصرب وكذلك أن يزيل اي سوء تفاهم مع زعيمهم مالديش حتى يتمكن من سحب جميع جنود الأمم المتحدة من المناطق التي يهددها الجنرال الصربي وجنوده!!.
ونتيجة لذلك الاتفاق لم تُقل كلمة واحدة عن آلاف المفقودين من الرجال المسلمين في سربرنيتشا!,, كما حذف من الاتفاق أي اشارة الى أسرى الحرب والمحتجزين, ان الاشارة الى أسرى حرب كانت ستعطي المسلمين حقوقا كفلها لهم اتفاق جنيف، بينما لا تعطى تلك الحقوق الى المحتجزين وعندما اختلف سميث ومالديش حول أي كلمة تستخدم وافق سميث على شطب الكلمتين كليهما من فقرة كانت مخصصة لإطلاع الصليب الأحمر وكان ذلك كل ما يتمناه مالديش لأنه ورجاله كانوا يقومون بذبح المسلمين في ذلك الأسبوع نفسه, قال أحد الدبلوماسيين الغربيين فيما بعد:لقد كان سميث يعرف أن ذلك الاتفاق مشين وان رائحة العفونة والخيانة تنبعث منه ولكن لم يكن لديه خيار آخر .
كان هناك بين الدول الغربية، مجموعة تسمى مجموعة الاتصال وهي تتكون من بريطانيا وفرنسا وأمريكا والمانيا وروسيا, لقد استخدمت تلك المجموعة سميث بحيث جعلته يبرم اتفاقا مع مالديش بينما هي تعد لقصف جوي ضد القوات الصربية, كان هدف المجموعة أن تخرج الفرقة الهولندية من سربرنيتشا بأقل قدر ممكن من الخسائر في الأرواح، بينما في الوقت نفسه كانت قد قررت تنفيذ القصف الجوي ضد القوات الصربية, حول هذه الصفقة يقول كريس جنيس المتحدث باسم الأمم المتحدة في زغرب:أعتقد أنه لم يكن هناك مفر من اتخاذ القرار بالتضحية بجميع شباب البوسنة من المسلمين القادرين على حمل السلاح كي يتسنى الوصول الى حل سياسي كان قد قرر في مؤتمر لندن وهو استخدام السلاح الجوي بشكل واسع بعد أن يكون تم سحب جنود الأمم المتحدة حتى تبدأ الأحداث تتحرك بسرعة نحو نهاياتها , ان الخطة كانت خبيثة للغاية، حيث إنه في تلك المرحلة بدأت الدبلوماسية تتحرك بحيث كان على طاحونة السياسة أن تطحن في طريقها بعض الناس ومن سوء حظ المسلمين أن هذا البعض كان المسلمين.
لقد هزت مأساة سربرنيتشا ضمير العالم ودفعته للتحرك ولكنها دفعت مقابل ذلك الثمن غاليا من دماء أبنائها, أصدر سميث أمرا بالقصف الجوي كان نتيجته التوصل الى وقف اطلاق النار ومن ثم اتفاق دايتون للسلام الذي أعطى مذابح سربرنيتشا شكلا قانونيا, لم يكن جيب سربرنيتشا ضمن الخطة الأمريكية للسلام، كما ان كل الأطراف الأخرى تغاضت عما حدث في تلك المدينة البائسة، ولكنهم جميعا بمن فيهم الجنرال سميث لم يدركوا مدى تصميم الصرب على مسح أعدائهم المسلمين من الوجود.
في كلمة وداع حزينة لسربرنيتشا يقول قائد الجناح، مراقب الأمم المتحدة الغاني دافيد تيتش:لن ترى هذه الأرض بعد الآن طفلا مسلما يولد بها، كما أنها لن ترى كهلا بوسنيا يدفن في ترابها, لقد أصبح كل هذا الآن تاريخا, لقد انتهى كابوس سربرنيتشا، وقد تشتت أهلها مثل قطيع بلا راعٍ, لقد انتصر المعتدي
|
|
|
|
|