| مقـالات
منذ اتصل العرب بأوروبا من خلال الحملة الفرنسية على مصر أواخر القرن الثامن عشر الميلادي وحتى العصر الحاضر كان التحدي الحضاري هو الشغل الشاغل للمفكرين، وكان موضوع اللغة من أكثر جوانب هذا التحدي وضوحاً، فقد باتت اللغة العربية مهددة بالغزو من قبل اللغات الأجنبية من فرنسية وإنجليزية وإيطالية وغيرها، وخصوصاً بعد أن ابتليت بعض البلدان العربية بالاستعمار الأجنبي الذي استهدف أول ما استهدف اللغة العربية الفصيحة فنصب لها الفخاخ، وحاك في طريق حركتها الشراك، ووضع الخطط كي يمنعها من أداء وظيفتها في المجتمع، ويلغيها من حياة الناس ويستبدل بها لغته وثقافته، فتم له النجاح في مواقع عديدة، اذ حول التعليم إلى اللغة الأجنبية، وجعل اللغة الدخيلة هي لغة التجارة والمال، وفي كثير من البلدان العربية جعل الاستعمار لغة الدواوين هي اللغة الأجنبية، وأنشأ طبقة تدين لهذه اللغة من الناحية الثقافية واللغوية، فلا ترى الدنيا إلا من خلال اللغة الأجنبية ولا تستطيع الحديث إلا بها، وأنشأ طبقة في المجتمع تتعلق بالغرب وتنتمي إليه ثقافيا وتنظر بازدراء الى ثقافتها الإسلامية ولغتها العربية، فلم يضمن بذلك ولاءها اللغوي وحسب وإنما ضمن ايضا ولاءها الايديولوجي، وكان من نتيجة ذلك حدوث انشقاق في صفوف بعض تلك الشعوب قضى على وحدتها الوطنية، وتسبب في إثارة الفتن والنعرات بين أبناء الشعب الواحد، الأمر الذي ما نزال نرى آثاره المدمرة ماثلة أمام أعيننا, ولو نظرنا في الأسباب التي جعلت الأمور تسير على هذا النحو في بعض البلاد العربية لوجدنا أن المستعمر لم يكن له ان ينجح في فرض لغته وبالتالي ثقافته لولا ما وجده من تقبل لدى بعض المتنفذين، وغفلة لدى كثير من المواطنين الذين ينظرون إلى هذا الأمر بمنظار المصلحة الآنية المتعلقة بالكسب الوقتي بصرف النظر عن المصلحة الوطنية بله القومية.
في سنة 1899م صدر في مصر قرار ينص على أن تكون الإنجليزية لغة التعليم بجميع مراحله في المدارس المصرية، وذلك بتدبير من الاستعمار البريطاني، الذي كان يهدف إلى محو الشخصية العربية الإسلامية في مصر، وغني عن الذكر أن أول قلاع هذه الشخصية هي اللغة العربية التي أراد طمسها وإبعادها عن الحياة وتمكين اللغة الإنجليزية من السيطرة على جوانب الحياة المختلفة, فأصبحت اللغة الدخيلة سيدة الموقف في دواوين الدولة والقطاع الخاص، وتعذر على المواطن المصري الحصول على عمل مناسب ما لم يتقن اللغة الإنجليزية, لكن المخلصين من أبناء مصر تصدوا لذلك القرار الجائر، فأخذوا يطالبون بعودة اللغة العربية إلى مجال التعليم، بل إن بعض المواطنين امتنعوا عن إرسال أبنائهم إلى المدارس التي لا تعلم أبناءهم بلغتهم العربية، وبعد أن مضى على تطبيق هذا القرار مايقارب ثمانية أعوام تقدم مجموعة من الرجال المخلصين الأعضاء في الجمعية التشريعية سنة 1907م باقتراح يطالبون فيه بإرجاع اللغة العربية إلى المدارس، وإبطال التعليم باللغة الإنجليزية، وأن يبدأ ذلك من العام القادم 1908م.
لقد نظر كثير من الناس ذوي النظرات الضيقة والحاجات الآنية المؤقتة إلى هؤلاء المطالبين بعين الدهشة، وظنوا أن في العودة عن قرار التعليم باللغة الإنجليزية كارثة محققة ستحل بالناس الذين يحتاجون للوظائف المحتكرة من قبل قوى الاستعمار (بشقيه السياسي والثقافي) ووفق توجهاته، ويصور لنا هذا الهلع سعد زغلول الذي كان آنذاك يتولى منصب نظارة المعارف فقد ألقى خطابا في الجمعية التشريعية طالب فيه الاعضاء بعدم الموافقة على إعادة اللغة العربية إلى المدارس لما يسببه ذلك من ضرر على حد زعمه وكان مما قاله الحكومة لم تقرر التعليم باللغة الإنجليزية الا ليتقوى التلامذة فيها، ويمكنهم الاستفادة من المدنية الاوروبية، ويفيدوا بلادهم، ويقدروا على الدخول في معترك الحياة، حياة العلم والعمل,, إذا فرضنا أنه يمكننا أن نجعل التعليم من الآن باللغة العربية، وشرعنا فيه فعلا، فإننا نكون قد أسأنا إلى بلادنا وإلى أنفسنا إساءة كبرى، لأنه لا يمكن للذين يتعلمون على هذا النحو أن يتوظفوا في الجمارك والبوسطة والمحاكم المختلطة والمصالح العديدة المختلفة التابعة للحكومة، التي يقتضي نظامها وجود كثيرين من الموظفين العارفين بإحدى اللغات الأجنبية حق المعرفة، ولا أن يستخدموا في بنك او مصرف، ولا أن يشتركوا في شركة من الشركات الأجنبية التي كثر تأسيسها الآن في بلادنا، ولا أن يكونوا محامين أمام المحاكم المختلطة، ولا مترجمين، ولا غير ذلك من كل ما يحتاج إلى البراعة في لغة أجنبية وهو كثير جداً في بلادنا (1) .
هكذا صور سعد زغلول الحالة المظلمة التي كان يعيشها المواطن المصري في ذلك العصر، تلك الحالة الشاذة التي تغلبت فيها اللغة الدخيلة على المواقع المهمة في الحياة المصرية، فأصبح المواطن محارباً في بلده مدفوعاً عن فرص العمل مالم يتقن لغة أجنبية، ويتوسل بها الى قضاء احتياجاته الرسمية والخاصة، لكن سعد زغلول لم يوفق إلى الحل الأمثل الذي يحفظ للبلد شخصيتها فيبعدها عن التبعية والسير في ركب المستعمر، وإنما اختار الحل الاسهل والوقتي الذي يتعلق بتوفير الوظائف لطالبيها دون النظر إلى ما يترتب على التعليم باللغة الإنجليزية من مخاطر فادحة على مستقبل الأجيال القادمة التي سوف تهدد بضياع أصالتها، وتعاني من فقدان هويتها, غير أن الجمعية التشريعية المصرية في ذلك الوقت كانت أبعد نظرا من النظرة الضيقة، فصدر قرارها مؤيدا ان يتحول التعليم من اللغة الإنجليزية إلى اللغة العربية، وأن يكون ذلك ابتداء من السنة التالية 1908م، وفعلاً تحول التعليم في مصر منذ ذلك الوقت إلى اللغة الأم، ولم يأت عام 1912م حتى اكتمل التدريس في جميع المدارس الابتدائية باللغة العربية , (2)
ترى لو استسلم المصريون للواقع بحجة سوق العمل والمنافع الآنية أكانوا يستطيعون التخلص من هذه المحنة ؟ فيستعيدون لغتهم التي هي عنوان ثقافتهم بسهولة, بل أكانوا يستطيعون الإبقاء على أصالتهم وانتمائهم العربي الإسلامي، وما يتبع ذلك وينبني عليه من تماسك شعبهم أمام تحديات الفرقة التي يحاول الأجنبي أن يبذرها ويغذيها لكي يحكم السيطرة على مقدرات هذا البلد العربي أطول وقت ممكن؟, ومن حيث التقدم والرقي هل تقارن اي دولة افريقية استعمرت وخلف المستعمر فيها لسانه الأجنبي يتحدث به الناس ويكتبون بمصر المحتفظة بلغتها العربية، التي حققت عبر تاريخها الحديث تقدما يفوق كثيرا ما حققته تلك الدول الناطقة بالإنجليزية او الفرنسية، التي خلف المستعمر فيها مع لغته الفرقة والحروب والجوع والتخلف,؟
لقد ضربنا المثل بهذا الوضع الذي عاشته شقيقتنا الكبرى مصر وأفادت فيه من يقظة أبنائها المخلصين، الذين لم يحنوا هاماتهم لإغراءات الوضع الاقتصادي الطارئ، ولم يرضخوا لآليات السوق التي يستند إليها كثير من المفكرين ذوي المنحى الاقتصادي البحت، فينظرون من خلالها إلى قضايا التنمية دون استشراف للمستقبل، أو نظر إلى الانعكاسات السلبية على الاساسيات التي لا يجوز التفريط فيها لقاء أي مكسب وقتي.
وهو أمر يذكرنا بما يدور الحديث حوله هذه الأيام في كثير من المناسبات من ضرورة تدريس المواد العلمية للطلاب من المرحلة الابتدائية باللغة الإنجليزية، وافتخار بعض الكليات الحديثة النشأة بتدريس جميع العلوم فيها باللغة الإنجليزية بحجة أن سوق العمل يتطلب ذلك وهي حجة بينا زيفها في مقال سابق، وكأن الداعين الى تدريس العلوم في مراحل التعليم المختلفة بهذه اللغة الأجنبية يريدون العودة بنا إلى العهود الخالية للتسلط الاستعماري على بعض البلاد العربية حين فرضت اللغة الأجنبية على المواطنين العرب بحجج شبيهة بمايقال لنا الآن، فما أشبه الليلة بالبارحة، وما أشبه الأجواء الثقافية لعهد العولمة الحاضر بالأجواء الثقافية لعهد الاستعمار الغابر، من حيث تسويغ الاستلاب الثقافي عن طريق الهجوم الشرس على اللغة العربية، ومحاولة زعزعتها عن مكانها الطبيعي في حياة أبنائها وإحلال اللغة الأجنبية مكانها بمسوغات بالية أثبت الزمن عدم جدواها.
إن الحديث عن المصلحة الوطنية يقودنا إلى التساؤل الآتي: هل معرفة اللغة الأجنبية منفردة سبب لتقدم الأمة؟ وهل إجادتها من قبل مواطني دولة من الدول يدخل هذه الدولة في عداد الدول المتقدمة؟ وبعبارة أخرى: هل اللغة الأجنبية هي المفتاح السحري لولوج عالم الحضارة المعاصرة؟ والإجابة على هذه الأسئلة وأمثالها تقتضي منا أن نستقرئ أحداث التاريخ القريب، وواقع الأمر بين الدول, ولعلنا لا نعدو الحقيقة إذا قلنا إنه لا تلازم بين إتقان اللغة الأجنبية والقدرة على الإبداع والابتكار والمشاركة في بناء الحضارة، وجدنا ذلك ظاهراً في التاريخ القديم لأمتنا العربية وللأمم الأخرى التي قطعت أشواطا بعيدة في مضمار التقدم, صحيح أن هذه الأمم افادت من النتاج الحضاري للأمم التي سبقتها في كثير من المجالات بالاطلاع على إنجازات تلك الأمم بلغاتها الأصلية، ولكنها لم تجعل اللغة الأجنبية مفروضة على مواطنيها جميعا ولم تنظر إليها بعين المنبهر الذي يعميه الإعجاب عن إدراك حقيقة الحجم الذي يجب أن تأخذه هذه اللغة في حياته، ولذلك كان استمدادها من إنجازات ما سبقها من حضارات يتحول بعد أن ينقل إلى اللغة المستفيدة إلى منتج وطني صادر عن الذات يمتزج بفكر الامة التي اقتبسته ويصدر عنه فيكون بذلك تطويرا واضافة إلى الرصيد الحضاري لا تقليداً وتبعية لفكر الآخر.
إن عدم تلازم التقدم من معرفة اللغة الأجنبية وانتشارها بين الناس نجد له سندا ايضا في الواقع المعاصر لدى بعض الأمم التي أحرزت التقدم دون ان يكون للغة الأجنبية تأثير واضح في حياتها, فهي لم تتخذها لغة للتعليم ولا لغة للسوق والتجارة، ولم يعرف عنها هذا الاهتمام باللغة الأجنبية كما يحدث عند بعض الأمم النامية، تلك التي لم تزدها اللغة الأجنبية إلا تخلفا وارتباطا بالآخر، وانقيادا ثقافيا للأجنبي، لقد حصرت هذه الدول النامية المقلدة جهودها في اتباع طريق التغريب القائم على استيراد المقومات الاساسية من لغة وقيم ونظم اجتماعية وغيرها ومحاكاة الآخر في كل شيء، بدلا من سلوك طريق التحديث النابع من الاعتماد على الذات وأخذ ما يناسب الثقافة المحلية من الخارج، دون التفريط في الأسس المكونة للشخصية الخاصة, ونحن في هذا الصدد لا نمل من التمثيل باليابان، تلك البلاد الآسيوية العجيبة التي بدأت نهضتها في وقت مقارب لمحاولات النهضة في البلاد العربية ممثلة في مصر على وجه الخصوص، ففي مقال نشرته صحيفة أساهي شيمبون اليابانية وترجمته ونشرته جريدة الشرق الأوسط يوم الثلاثاء 7/3/2000م بعنوان اليابان إنجليزية ضعيفة وجهل بالعالم جاء ما مفاده أن كبار المسؤولين السياسيين في اليابان لا يحسنون الإنجليزية، وأن الشعب الياباني لا يعطي أهمية كبيرة لتعلم اللغة الإنجليزية، بل إن اليابانيين يعانون من ضعف شامل في اللغة الإنجليزية، وأن مصلحة الامتحانات التربوية في الولايات المتحدة قد بينت أن ترتيب اليابان يأتي في المركز الثامن عشر بين الدول الآسيوية التي اشترك رعاياها في امتحانات اللغة الإنجليزية التي بلغ عددها 21 دولة.
ولسنا ندري أي دولة آسيوية احتلت المركز الأول بين هذه الدول، ولكن من المؤكد انها لا يمكن أن تقف ندا لليابان من حيث التقدم العلمي والتقني وما أنجزته هذه الدولة من فتوح حضارية أذهلت العالم وجعلته يحسب لها ألف حساب, ومعنى هذا أيضاً أن اللغة الاجنبية لم تكن عاملا رئيسا في نهضة اليابان الحضارية، فقد اختطت هذه الدولة لنفسها خطا مستقلا يأخذ من ثقافة الآخرين وعلومهم، لكنه لا ينفصل عن لغته وتراثه وقيمه الثابتة،
***
وأخيراً ونحن نصل إلى ختام هذه السلسة من المقالات التي تناولت علاقتنا باللغة الأجنبية، لابد من القول إن الهدف من كتابتها ليس التقليل من فائدة اللغة الأجنبية، ولا الدعوة الى التوقف عن تعلمها بوصفها لغة، كما ان هذه المقالات ليست بكل تأكيد دعوة لتجاهل اهمية اللغة الاجنبية في كثير من المجالات، وإنما هي كما ذكرت سابقا دعوة لتنظيم علاقتنا بهذه اللغة بحيث لا نعطيها من الحجم ما يجعلها تطغى به على لغتنا الأم أو تكون بسببه معطلة لنا عن الابداع والابتكار، او تمثل حجر عثرة امام شبابنا للحصول على لقمة العيش تمكينا للوجود الوافد، او تكون اداة من ادوات هدم الثقة بلساننا العربي، وبالتالي تكوين الشعور بالنقص امام الأجنبي، مما يسهل ابتلاعنا في خضم التحديات المعاصرة، إنها دعوة لجعل اللغة الأجنبية وسيلة في حياتنا لا غاية لنا، نستخدمها عند التعامل مع الآخر، نتحادث بها معه، ونترجم بها عنه، ونطلع عن طريقها على ثقافاته وعلومه، لا أن تتحول إلى لغة للتفاهم بيننا، أو لغة لتعليمنا أو شؤوننا العامة, إنها سلاح ذو حدين يمكن أن تتحول بين أيدينا الى آلة نافعة لنا ويمكن أيضاً ان تكون آلة تساعد على الانتحار, وإذا كنا ندخل كل يوم صراعا حضاريا برغبتنا او بعدم رغبتنا، ونتحدث كثيرا عن مخاطر عصر العولمة، أو بعبار أخرى عصر الهيمنة الجديدة بوجوهها المتعددة، فإن من الواجب علينا أن نحصر مواقع الخطر على وجودنا، وأن نناقش بصراحة أوجه الخلل التي يمكن ان نؤتى منها، ونضع الحلول والاستراتيجيات التي تصب في صالح حماية الذات، دون إيغال في التقوقع او انعزال عن مجرى الحياة المعاصرة بمعطياتها الإيجابية الكثيرة, ولا شك ان الشأن اللغوي من اهم المواقع التي بدأ الخطر يتسرب اليها عن طريق الغفلة عن هذا الخطر، وعدم وجود وعي لغوي لدى العرب يدفعهم إلى الحفاظ على لغتهم، وإدراك ان ضياع اللغة يمثل ضياعا للهوية وما يرتبط بها من اساسيات الوجود فاللغة العربية هي لسان ديننا وحصن ثقافتنا، واهم ملمح من ملامح شخصيتنا، ولاشك ان إحلال اللغات الأجنبية محلها في التعليم والسوق وشؤون الحياة الأخرى يمثل اعتداء على وجودنا وعبثا بكرامتنا، وتنكرا لثقافتنا الاصلية، فما احوجنا الى امن لغوي نحصن به امننا الثقافي، الذي تحاول ثقافة العولمة ان تخترقه وتقوضه.
* عضو مجلس الشورى
الهوامش
1- عمر الدسوقي: في الأدب الحديث ، ط3، القاهرة مط, الرسالة، بلا تاريخ، 2/47.
2- نفسه، ص 48.
|
|
|
|
|