| الثقافية
أجدادنا الطيبون كانوا يتميزون عنا بالجدية والصبر، كانوا ينفقون العمر كله سعيا الى انجاز صغير، ويذرعون الارض إلحاحا في سؤال، او يجوبونها، من مشرقها العربي الى مغربها على ظهر حمار طلبا للتوثق من خبر او طمعا في نسخة من كتاب ينقلونها بخط اليد!,, اجدادنا الطيبون حين نتمثل جهدهم ونقارن منجزهم بادعاءاتنا لا نبدو الى جوارهم الا مجرد هواة للفن او الادب بكل ما في الهواية من ارتجال وتخبط وادعاء,.
اديب كبير - يرحمه الله - منذ نصف قرن كان ينعي على ادباء عصره في خمسينيات القرن الماضي انهم متعجلون يفتقدون الجدية والمثابرة ومن عجلة هؤلاء خرجت اعمال اعطت لعصرهم اسماء عصر التنوير والنهضة الجديدة وانتقلت الينا معطياتهم في الفكر والنقد والفلسفة لتشكل اساسا في ثقافتنا ومنطلقا لرؤانا الفكرية والنقدية، من احمد امين الى زكي نجيب محفوظ ومن الزيات وامين الخولي الى العقاد وطه حسين ومندور ورشاد رشدي وغنيمي هلال وغيرهم، كان الرجل ينعي على هؤلاء افتقادهم للمجالدة، فما باله لو رأى ابناء عصرنا يلبسون اقنعة الاهمية حين يجيبون على سؤال عابر: ماذا تقرأ الآن؟ ليس لدي متسع من الوقت للقراءة!, ربما لا تكون الظاهرة عربية خالصة، فالذين يتابعون نشأة مناهج النقد ومدارس الفن وتيارات الادب في مختلف بلدان اوروبا على امتداد فترة كتلك التي تقع في منتصف القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين، ويقارنون استماتة الفرسان والرواد وضراوة المعارك التي خاضوها يبشرون بحساسية جديدة تتجه اليها الذائقة العامة، او يحطمون تقاليد للفن بليت واصبح العصر يطالب بتعبير آخر، يفتحون صدورهم للريح وضميرهم للتاريخ، الى ان فرضت رؤاهم الفكرية والنقدية نفسها بقوة قادرة على مجابهة كل العصور وما تأتي به من متغيرات، الذين يتابعون سيرة هؤلاء الرواد قد يرون فيما تنتجه مدارس النقد الحديثة بعضا من التسلية وممارسة الهواية فحسب,,!
هل يمكن ان يكون الادعاء بالقدرة على جلاء المعنى في نص ادبي من خلال مواجهة مباشرة للنص معزولا عن صاحبه وظرفه، عن سياقه التاريخي والاجتماعي الا حصرا للجهد في اقل مساحة من البحث واضيق حيز من الوقت؟ رغم القناعة بأن الكاتب او الفنان لا ينتج الا في غمار اشتعال المواجهة بينه وبين ظرف ضنين، للزمان او المكان، يتأجج عبر العلاقة مع الآخرين، فحتى فنان مثل رمبرانت، حين تقطعت كل الاواصر في صلاته بعصره ومجتمعه، وانكب في عزلته على وجهه يصوره الف مرة، كئيبا او محبطا او هرما او حزينا، لم يكن يرسم في معزل عن الظرف الاجتماعي، ولم تكن لوحاته لوجهه مخرجات حالات نفسية خاصة كما فسرها اصحاب التحليل النفسي للفن والادب، وانما هو قد نسخ من وجهه الف وجه، ليصوغ منها جميعا مجتمعا ممثلا لكل تشوهات العصر، وحاملا لكل دمامته,.
هذه محصلة قد يصل اليها الذين يتوفرون على دراسة عصره بكل ظروفه السياسية والاقتصادية والاجتماعية وفق منهج عتيد في النقد، هو المنهج التاريخي والاجتماعي، وانما ذاك نوع من التحدي لا ينهض به الا جهد الاقدمين، ويلوذ منه بفرار مهين ارباب الهواية والغواية!.
على المرء ان يتأمل الآن كيف سيواجه عصرنا بهذه البلادة هجمة تأتي بالوعود كي تخونها، اعني انفتاح الفضاء واندياح الحدود بين خصوصية المكان بظرفه الاجتماعي في ظل عولمة تحل المجتمع الإنساني كله، الفاقد لوحدة الملامح واصالة الهوية، والمفعم بالتنافر والتناحر، محل عراقة الجنس واصالة العرق، وعدالة الخضوع لظرف تاريخي واحد يعلي من شأنه مهما كان معنى الانتماء، وان يرثى للذين افنوا حياتهم في التأصيل لنظرة فلسفية جمالية، او لمنهج نقدي عتيد، واخرجوا اسفارا خرافية من مثل مؤلف هاوزر الفن والمجتمع عبر التاريخ بعد ان يفقد الفن خصوصية الانتماء، ويفقد المجتمع خصوصية الظرف والمكان، ولا يجد الهواة ما يقال عن الفن والمجتمع عبر الفضاء ,,!
|
|
|
|
|