|
| الثقافية
إذا كانت التيّارات الأدبية الجديدة ذات الطابع المحليّ أو الاقليمي تنشأ عن مستجدات طرأت علىحياة الأمة أو المجتمع، فإن انتشار هذه التيارات واكتسابها الطابع العالمي مرهون بقدرة هذا المجتمع أو الأمّة على الاحتكاك الثقافي والحضاري بالمجتمعات والأمم الأخرى، سواء جاء هذا الاحتكاك وتكريس ماينتج عنه عن طريق المثاقفة أو الغزو، عسكرياً أو اقتصادياً أو فكرياً.
ربما، لذلك، اصبحت التيارات الأدبية الحديثة في الغرب، والتي نشأت في عصور مابعد النهضة، عالمية إلى أقصى حدود العالمية.
وما ساد المجتمعات الغربية في العصور الحديثة من عودة إلى عالم الإنسان الداخلي البريء، الذي يمارس فيه الانسان علاقة مباشرة مع نفسه ووجدانه، رافضاً الحلول الجاهزة، متحرراً من قيودها، مع شعوره بإشكالية مستقبله وغربته.
كل ذلك، وما نتج عنه من فلسفات ونظريات وأعراف وأنساق وسياقات، فكرية وفنية وأدبية جديدة، أصبح عالمياً، بفضل الغزو الغربي لبقية الأمم والشعوب، هذا الغزو الذي بدأ عسكرياً ثم فكريا ثم اقتصادياً، وهو يقترح أشكالاً للحديث والجديد والمتطوّر، تعكس بالضرورة، حداثته وجدّته وتطوّر مضامينه.
وأيّاً كانت الأهداف والدوافع، فإن النتائج جاءت لتُثبت أن العالم بأجمعه، يمضي نحو اتحاد عالمي تمليه عليه وحدة المصير والقضايا والهموم والطموحات والأحلام الانسانية المشتركة.
هذه الوحدة الفكرية العالمية لن تنجو منها الاصالة، فالأصالة الهشّة أو الدعيّة أو المزوّرة سوف تذوب في مختبر أحماض هذه الوحدة، دون أن تترك من خلاياها الوراثية أثراً في هذا المزيج، أما الأصالة الحقيقيّة الواعية فسوف تستفيد من اتحادها مع مركبّات هذا المزيج، في أن يتشكّل وفق نظام الاتحاد والتكامل لا نظام الاذابة والإلغاء.
في الاصالة الحقيقية الواعية ترتقي الذات بذاتها، وهي تنمّي امكاناتها للإفادة، إلى الحد الأقصى من الآخر، ضمن استراتيجية عارفة، واعية، هاضمة لتراثها، متمسكّة بأمتها وقضاياها، متفاعلة مع الآخر، وهي تفيده وتستفيد منه وهما في مراحل المزج والتركيب والاتحاد من الخبرات والتجارب والانجازات، في الأشكال والأساليب والمضامين.
ولأن أي اصالة، مهما بلغت قوتها، واعتدادها بذاتها، لا تخلو من نقاط ضعف ما، سواء في تكوينها وامكاناتها، أو في قدراتها، أوفي استعدادها الذاتي للالتقاء بالآخر، فقد واجهت الحداثة العربية الجديدة والشعرية، بخاصّة مآزق وتحديّاتٍ لعل أبرزها، كان على مستوى اللغة والأساليب التعبيرية والأشكال.
ربّما، كان بعض الجدد يسعى الى الاختلاف للاختلاف فقط، وبعضهم، ربما حاول أن يوفّق بين اختلافه وبين الائتلاف المحيط داخل الائتلاف العامّ، وبعضهم، ربّما استعاد آلية المثاقفة الواعية مع الآخر، سواء كان هذا الآخر من الداخل أو من الخارج، فأنتج حداثة شعرّية أصيلة وجديدة في آن.
ولكن، أول ما واجه التقليديّون به هذه الحداثة، هو التمسك بالقديم، مهما كانت قيمة هذا القديم،فنياً وفكرياً، لأنه قديم فقط، ولأنه قديم فقط، فقد اصبح عند التقليديين هو القاعدة والمعيار، واصبحت أعرافه وأنساقه وسياقاته، هي الأعراف والأنساق والسياقات، وما خرج عنها فهو خارج عن الإجماع الفكري والفني والأدبي والاجتماعي، الذي هو معيار المعايير وسيدّها، على الرغم من كونه، وبكل المعايير ، معيار سقوط الابداع وعدوّه الأول.
ولأن النقد العربي التقليدي يقوم على الانفعال والاندفاع، تحت تأثير العواطف الفكرية والاجتماعية الراسخة، فقد نسي أن المثقفين من قدامى النقاد العرب كانوا يعرفون ويقررّون بأن السبق الزمني لأي أثر فنيّ أو أدبي لايعطيه ميزة عن الجديد، وأنهم كانوا يشكّون في عقل وذائقة وثقافة ووعي من يستحسن القديم لانه قديم فقط، ولا يستحسن الحديث ولو كان عظيماً لأنه قيل في زمانه أو رأى قائله فوجده إنساناً عادياً ومتناسياً أن القديم كان حديثاً في زمنه، وأنه واجه من اسلافه ما يواجه به هو الجديد، وأن هذا الجديد سوف يصبح قديماً بعد مدة من الزمن، وسوف يكتسب مكانة مماثلة لدى التقليديين المماثلين، والذين لن تخلو منهم العصور القادمة.
ولأن الجدد، من شعراء ونقاد، لم يلتفتوا إلى مايضعه التقليديون في طريقهم من عقبات، فقد ساروا في طريقهم، دون أن يفقدوا أصالتهم، ودون أن يستعيروا مواقف التقليديين الجدد الذين يحاربون الجديد، لأنه جديد فقط فيحاربوا القديم لأنه قديم فقط، ودون أن يخضعوا له أيضاً.
ولا أن يصبحوا مجرّد تابعين مقلدين له، حتى ولا أن ينسجموا مع شيء لا ينسجم مع حياتهم المعاصرة، بل حاولوا بعد هضم تراثهم وتمثّله ودراسته تجاوزه وتخطيه وإغناء قواعده وقيمه.
بإضافاتهم وتجاوزاتهم وتجديدهم، لا بإكمالها، بل بالاختلاف عنها، بالفروقات والطاقات الجديدة المغيّرة، بالاختلاف عن كل أثر سابق،وبإغناء الحاضر والمستقبل، وفتح آفاق ودروب جديدة للإبداع.
|
|
|
|
|
