| العالم اليوم
الخلافات حول مستقبل اوروبا قديمة قدم ذات القارة, والمناقشات بشأنه لم تتوقف في يوم من الايام، والجديد في الأمر ان المناقشات التي تحتدم الآن بعثت الماضي من مرقده وعادت بالمواقف الى ما كانت عليه قبل قيام (الوفاق) بين فرنسا والمانيا الاتحادية بتصريح (روبرت شومان) وزير خارجية فرنسا، في 9 مايو 1950 المفتوح لأية دولة أوروبية اخرى ترغب في الانضمام اليهما بوضع مواردها من الفحم والصلب في مجموعة اوروبية، الاولى من نوعها، تشكلت لذلك في عام 1951 من ست دول: ايطاليا ودول البنيلوكر الثلاث (هولندا وبلجيكا ولوكسمبورغ) بالاضافة الى المانيا الاتحادية وفرنسا وهذه المجموعة هي نواة ما يعرف الآن بالاتحاد الاوروبي.
كان الاتحاد الاوروبي في ظروف الحرب الباردة والرعب النووي يستعد لتعميق كيانه احتسابا للطوارىء وكانت العلاقة بين فرنسا والمانيا الاتحادية علاقة حياة اوموت وكان محور باريس بون قاطرة عملية الاندماج الاوروبي دون منازع حتى بعد دخول بريطانيا في عضوية الاتحاد الاوروبي عام 1973، وفجأة,, انتهت الحرب الباردة وسقط حائط برلين وتفكك الاتحاد السوفيتي وتبخرت الشيوعية وانقلب ميزان القوى، كل ذلك في اقل من عام، عام 1989 واسقط في يد الغرب ودول الاتحاد الاوروبي بوجه خاص وتوقفت عملية التعميق لمواجهة عملية أخرى عملية توسيع لدول ما كان يعرف بالاتحاد السوفيتي ولدول أوروبا الشرقية واوروبا الوسطى ودول البلطيق وحتى لتركيا لدول يترواح عددها ما بين 30 و35 دولة تدق بشدة واصرار للدخول في عضوية منتدى الاغنياء, وقد انقسمت دول الاتحاد الاوروبي الحالية على نفسها ولاتزال منقسمة ازاء التطورات التي لم تكن ابدا في حسبانهم وكل في هذا يغني على ليلاه, فرنسا تريد التعميق للاحتفاظ بنفوذ، والمانيا وخاصة بعد توحيدها تفضل التوسيع لزيادة نفوذها، وبريطانيا ترغب في التوسيع ايضا ولكن لاسباب أخرى، لتجعل من الاتحاد الاوروبي مجرد منطقة تجارة حرة لا نفوذ فيها لاحد والبقية لا رأي لها أحياناً تقول بالتعميق والتوسيع في وقت معا وهكذا اضطرب حال الاتحاد الاوروبي الذي كان مستقبل اوروبا بانتهاء الحرب الباردة وتوترت العلاقات بين فرنسا والمانيا الموحدة الذي لولاهما ما قامت للاتحاد الاوروبي قائمة وكان ولابد من عمل شيء وبسرعة لانقاذ الموقف.
فيدرالية أوروبية قبل التوسيع
وفي تحد مباشر للدول القومية في اوروبا اقترح جوشكا فيشر وزير خارجية المانيا انشاء اتحاد اوروبي برئيس منتخب مباشرة وبرلمان مشارك في سلطات حقيقية تنفيذية وتشريعية لأن البديل لذلك في اتحاد اوروبي موسع هو الشلل بعينه على حد تعبيره كما اقترح ان تتحرك المانيا وفرنسا صوب اندماج سياسي كامل بدول اخرى تحذو حذوهما على راحتها على نحو ما فعله روبرت شومان في عام 1950 في بداية الوفاق وتلك عودة لنقطة البداية ولكن بفارق، فارق هام، هو ان هذه العودة قد تستتبع قيام اوروبا بسرعتين بأولئك الاعضاء المستعدين لمعظم الاندماج يتحركون قدما وغيرهم باقون في حلقة خارجية ولكن وزير خارجية المانيا قال بانه يتعين على الدول الفيدرالية ان تظل مفتوحة لأي عضو في الاتحاد الاوروبي رغم ان دولا كبريطانيا تقاوم أي مساس بسيادتها لان الفيدرالية الاوروبية لا تعني اقل من ان تمارس حكومة اوروبية وبرلمان سلطات تشريعية وتنفيذية فعالة في داخل الفيدرالية.
فيدرالية ألمانية لأوروبا
وكان رد وزير خارجية فرنسا جان سبيير شفمنت على اقتراح جوشكا فيشر بهيكل فيدرالي للاتحاد الاوروبي انه ثمة ميل في المانيا لتصور هيكل فيدرالي لاوروبا يتوافق ونموذجها وانه في اعماقها لاتزال تحلم بالامبراطورية الرومانية المقدسة، ولم تشف نفسها من ماضي انحدارها للنازية وان الالمان لم يدفنوا بعد الفكر الذي دفع الى النازية واعرب عن الانفة لماض سابق للامبراطورية الرومانية المقدسة.
وكان شارلمان قد انشأ تلك الامبراطورية في عام 800 ميلادية عندما تطلب الامر نظاما سياسيا مركزيا لم يغير في الواقع كثيرا من قوة الزعماء والعادات المحلية وكان فولتير قد وصفها بأنها لم تكن لا مقدسة ولا رومانية ولا امبراطورية وقد مكن هذا الهيكل الامبراطورية من أن تعيش ألف سنة فترة من الوقت لا يمكن للاتحاد الاوروبي الذي لا يتجاوز عمره نصف قرن ان يقلل من شأنها كما انه حمى الدول الصغيرة من (التحكم الاميري) وان هيكل الامبراطورية المرن ناسب لدرجة ما روح شعوبية القرن الثامن عشر, وكان نابليون بونابرت قد اسقطها آخر الامر في عام 1806 رغم انها ليست أسوأ نموذج لاوروبا, ولكن الخوف من المانيا وخصوصا بعد اعادة توحيدها في 3 اكتوبر 1990 كان ولايزال وقد يظل لوقت طويل في الذاكرة الواعية لكل اوروبي.
وكان جوهان وولفجانج فون جوته وهو يقترب من نهاية عمره قد افزعه توحيد المانيا بسيطرة بروسية وآثاره على الرشد والتحرير والثقافة ونعي الاحداث فقال: المانيا توحدت ,, لان الصالح والطالح له ذات القيمة في كل انحاء الامبراطورية ولأن حقيبتي يمكنها المرور عبر كل الدول ال36 دون ان تفتح انها موحدة لان وثائق السفر الصادرة عن البلديات لمقيم في (ويماز) مقبولة في كل مكان على قدم المساواة مع جوازات السفر للمواطنين من عتاة الجيران الاجانب وفيما يتعلق بالولايات الالمانية لم يعد ثمة كلام، اي كلام عن دول محلية واجنبية.
الفعل وردود الفعل
هذا ولم تتوقف بعد ردود الفعل على اقتراح وزير خارجية المانيا ولاتلك التي تتعلق بموقف وزير داخلية فرنسا منه وقد رحب رومانو برودي رئيس اللجنة التنفيذية للاتحاد الاوروبي بمبادرة جوشكا فيشر وذكر ان المناقشة حول مستقبل اوروبا لها عاليها وواصيها وان كلمة (فيدرالية) بتفسيراتها المختلفة من بلد لآخر تهدف في اقتراح وزير خارجية المانيا الى استئناف مبادرة فرنسية المانية حول مستقبل اوروبا نحن في حاجةاليها لانه لا توجد اوروبا بدون مبادرة قوية من هذين البلدين وهي ليست كافية ولكنها ضرورية وان الوقت قد حان للتفكر في المستقبل وقد يتطلب الامر مرونة جديدة بإعطاء امكانية لعدد معين من البلاد لاقامة علاقات فيما بينها اكثر قوة.
والواقع ان المركزية والقومية كانتا على الدوام شرا اوروبا التوأم وسببا دائما في ظهور قوي كثيرا ما أنتجت أنظمة مناضلين وعسكريين ومنذ قيام الاتحاد الاوروبي كان ثمة أحياناً توتر بين اولئك الذين يفضلون قيام (ولايات متحدة أوروبية) كاتحاد حقيقي اولئك الذين يريدون ان يبقى الاتحاد الاوروبي مجرد تحالف تجاري واقتصادي بتعاون مكثف دون ان يؤدي ذلك الى تفتيت الدولة القومية الاوروبية بعبارة اخرى ان يظل على ما هو عليه مجرد اتحاد جمركي اوروبي.
وقد ساند الرئيس الفرنسي جاك شيراك موقف وزير داخليته من اقتراح وزير خارجية المانيا ووصف المبادرة بأنها مجرد سابق لاوانه ومفرق وان نوعا ما لاوروبا اكثر توحدا قد يبزغ خلال القرن الواحد والعشرين ولكن لا ينبغي فرضه من اعلى, وهكذا كل يريد ان تكون اوروبا على شاكلته فرنسية كفرنسا او المانية كالمانيا وقد فتح الجدل القائم حول هذا الموضوع جروحا قديمة عبر اوروبا وخصوصا بين قطبي الرحى بين طرفي محور فرنسا المانيا وأثار خلافات جديدة.
أي أوروبا يريدون؟
وتتنافس ثلاثة نماذج دولية لتكون نموذج المجتمع الاوروبي ككل: النموذج الفرنسي القائم اساسا على التعقيدات المكتبية، والنموذج الالماني على القطب الآخر مستلهما الفيدارلية الامريكية والتنوع في المانيا قبل التوحيد القائم اساساً على السلطة، والنموذج الثالث النموذج البريطاني يتميز بالعرف والسوابق والعادات، وتتحكم العادات فيه،, ورغم الاعتراضات البريطانية والتحفظات التي تبديها المانيا يبدو ان المشروع الفرنسي لاوروبا على وشك السبق لماذا؟ لأن اوروبا الجديدة هي اساساً تصميم فرنسي، ولكن الطبقة السياسية في فرنسا تجد نفسها الآن في ورطة لانه ليس في مقدورها ان تقول لقومها بأن المشروع الفرنسي هو الأفضل خشية أن يسمعها الجيران في اوروبا وخصوصا المانيا وبريطانيا.
لطفي شلش |
|
|
|
|