أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Saturday 10th June,2000العدد:10117الطبعةالاولـيالسبت 8 ,ربيع الاول 1421

مقـالات

آفاق وأنفاق
بدويتان وحضريّة
د, محمد العيد الخطراوي
الحضريّة


اذا ما أصبنا كلَّ يوم مُذَيقةً
وخمسَ تُميراتٍ صغارٍ كوانزِ
فنحن ملوك الناس شرقاً ومغرباً
ونحن أسود الناس عند الهزاهز

(الهزاهز: مفردها هَزهَزةٌ، وهي الفتنة يهتز فيها الناس ويُبتلون، المذَيقة مصغر مَذقة، وهي: الطائفة من اللبن الممزوج بالماء، وأحسن اللبن غير الممزوج، قال الشاعر يذم قوماً بالبخل:


حتى اذا جَنَّ الظلام واختلط
جاءوا بمذق، هل رأيت الذئب قَط)

ويعتز البدوي بحياته رغم ما فيها من قسوة فيردد مع القطامي:


فمن تكن الحضارة اعجبته
فأي رجال بادية ترانا؟

ومع المتنبي حين يقول موازنا ومفاضلا بين الحياتين:


حسن الحضارة مجلوب بتطرية
وفي البداوة حسن غير مجلوب

ونجد الكثيرين من رجال الحواضر الأوروبية يحاولون الإخلاد إلى سكنى الأرياف وضواحي المدن، طلبا للراحة والهدوء، والسكينة، وتخلصا من التلوث بجميع أنواعه، ولو إلى أمد، مع مراعاة أن أريافهم تتمتع بكل معطيات الحياة الحديثة المحتفظة بالطابع الريفي الجميل، وليست كصحرائنا القاسية في البلاد العربية، التي لم تتخلص بعدُ من الطابع القديم، وها نحن في الأبيات التالية نقف امام تجربة معاكسة لما يمكن أن نتصوره إنها ليست نزوعا من البادية إلى الحاضرة، لكنها انتقال من المدينة بكل مافيها من مظاهر التحضر الى البادية بكل ما فيها من مظاهر الخشونة، نلتقي مع الشاعر جعتمة البكّائي، الذي استصدر أمراً قضائياً ضد زوجته حين رفضت الانتقال معه إلى البادية والعيش فيها، وألزمها بذلك الأمر بالحياة معه، وقال في ذلك شعراً منه:


وتذهل عن خزّ العراق، ونسجهِ
وتبدَلُ نسجا يغمرنها رياطُها
وتمسي على البيداء: بيداء يَصفُرٍ
إذا مازهتها الشمسُ: مُلقٌى بساطُها
ولا أنا حابيها بأصوُع حنطةٍ
من السوق مشدوداً عليها رباطُها
وظيفة قوتٍ كلَّ شهرِ، فإن أرُغ
يكن ريخة أخطا السبيل صراطُها
ولكن سأسقيها حليباًتجمُّهُ
لها ركوةٌ حِمرُّها وسُباطها
وأنحاء سمن لاتزال تصيبها
وقد غاب عنها مَدُّها وبِطاطُها
وأعضاء لحم لم تُرَطَّل بقريةٍ
ولم يُثن يوما للقديد مقاطها
هنالك ما عاشت تعيش بغبطةٍ
فإن هي ماتت، فالبقول حِناطُها

(أخبار القضاة 1/217/ الرياط: جمع رَيطةِ، وهي كل ثوب ليّن رقيق، يصفرٍ: يبدو انه اسم موضع، صرف للضرورة، فهو علم على وزن الفعل، كان حقه الا يصرف (أي لا ينوّن), أرُغ: أحيد, اما أراغ فبمعنى طلب وأراد، تَجمّه: تجمعه وتكثّره, الركوة: إناء صغير من جلد، يشرب فيه الماء ونحوه, الِحمرُّ, كفلِزّ: هو معظم الغيث وشدته, السباط: رحمة المطر، الأنحاء: جمع نحي، وهو وعاء السمن, المَدّ بفتح الميم هو السيل, البطاط: جمع بَطّة، كضَفّة وضِفاف، وهي إناء كالقارورة, يرطَّل: يوزن المِقاط: الحبل).
وظاهر أن الأبيات تمثل مقطّعة من قصيدة، وإلا فقد كنا ننتظر أن يعرّج على ذكر بواعث إيثاره سكنى البادية، وأن يحدثنا عن بعض مظاهر معاناته حين تورط بسكنى الحاضرة, فإن من أشد ما قد يصاب به المرء انتقاله من مجتمع إلى آخر، وهوغير مهيأ لذلك الانتقال، فكثيرا ما يصاب بصدمة تفقده توازنه، وربما أفقدته صوابه، وطارت بعقله، وسقط في بؤرة التفلت, وفي وقت مبكر، ربما كان في نيف وثمانين وثلاثمائة والف للهجرة، ناديت عن طريق الصحف والإذاعة بوجوب رعاية القرى والتجمعات البدوية، وبذل شتى الجهود لتقديم ما يمكن تقديمه لهم من التسهيلات وتطوير وسائلهم وحياتهم، مع الحفاظ عليهم في مواقعهم، حتى لايأتي يومٌ يتكدّس فيه الناس في المدن دون تعقل، وتخلو البادية من أهلها، وينشأ عن ذلك ما نشاهده من تخلخل سكنيّ، واجتماعي، واقتصادي، إلى غير ذلك من المشاكل التي تحل نفسها بنفسها بشكل غير سويّ، أو تستدعي منا جهوداً مضاعفة لحلها إن تولت حلها الجهات المسؤولة.
لا ننكر أننا نجد في بعض المناطق بعض مظاهر العناية بالقرية والتجمعات، حيث فتحت المدارس والمستوصفات، ولكن سوف تكون النتائج افضل لو عملت المؤسسات المسؤولة بشكل جماعي متضامن، يدعم بعضه بعضا، ويقدم التسهيلات التي تساعد أهل البادية والقرويين على الاستقرار في باديتهم وقراهم، وتغري أهل الحاضرة بالتبدي واستثمار الأراضي الشاسعة سكنياً وزراعياً, فليس كل الناس كشاعرنا (جعتمة البكّائي) قادراً على توطين نفسه والزام زوجته بسكنى البادية، ومفارقة لين الحياة في الحاضرة.
ونحن لاندعو الى التبدي المطلق، ولا إلى التحضر المطلق، ولكن نشير الى التفاقم السكني بمدينة كالرياض وجدة،وخلو القرى والهجر من أبنائها، بحيث لو كنا نعيش في سفينة لمالت بنا وغرقت أو كادت، ولو كنا في عمارة لسقطت او اخلولقت أن تميد بنا، فهل الى احداث توازن أو مايشبه التوازن من سبيل؟.
فإذا حصل هذا التوازن المنشود، وزالت مظاهر قسوة العيش في الصحراء بتوفير مجموعة من التسهيلات اللازمة لحياة اليوم، لم تبق هناك موانع تمنع الناس من التبدي، إلا ما يخشونه من التحول إلى بعض الصفات الجافية الخشنة، الناجمة عن إدراك الواقع ومما قد يفهم من امثال قوله صلى الله عليه وسلم: (من بداجفا) رواه أبوداود، والترمذي، والنسائي، واحمد، وحسّنه الألباني وقوله أيضا: (إن غلظ القلوب والجفاء والحوب في أهل الوبر والصوف)، يعني الأعراب منال الطالب في شرح طوال الغرائب لابن الأثير ص 79 والصحيح ان الأعراب يمسكون بطرفي الطباع، فإذا بدا الأعرابي في موقف جافيا، غليظا، بدا في غيره عطوفا رقيقا ذا حس مرهف وطبع شفاف، مما يدل على ان جفاءه طارىء وليس باصيل فيه، لأنه ناتج عن قسوة الحياة من حوله، فإذا لانت حياته لان، وهذا ما يدعونا إلى أن نبذل للأعراب مزيدا من التسهيلات، وإن نعمل على ترييف البادية وتليين حياتها وترطيبها بشيء من سعة الحياة.

أعلـىالصفحةرجوع

















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved