| مقـالات
كثيرٌ يستخدم مصطلح الإجازة مراداً بها المدة الزمنية التي تعقب الدراسة أو العمل ويخلو فيها الشخص منهما، مع أنه لم يرد هذا المصطلح عند العرب بهذا المعنى، وإنما ورد لفظ: العُطلَة,, يقول الجوهريّ: وتعطّل الرجل، إذا بقي لا عمل له، والاسم العُطلة .
وإذا دققنا في المعنى اللغوي لهذا المصطلح فسنجد أنها تدلّ على أن الرجل يبقى خالياً من العمل، بعد أن كان ذا عمل، ولا دلالة لعودته إلى عمله مرة أخرى، ولقد نقل هذا الاسم ليصبح مصطلحاً على الفترة التي لا دراسة فيها، أو تلك التي لا عمل للرجل فيها مع أمله في العودة إلى الدراسة أو العمل بعد انقضاء هذه المدة الزمنية المحددة، ومعلومٌ أن المصطلحات تنتقل مفاهيمها مع انتقال الزمان والمكان غير أنها تحافظ على العلاقة بين معناها اللغوي والاصطلاحي.
هذه المقدمة أسوقها لأبيّن أن العطلة كانت عند العرب عبارةً عن خُلوّ الرجل من العمل الحسي المادي، أما ان يتفرغ الرجُل حتى من هُموم الروح والعقل والقلبِ فلم نجد له مُصطلحاً عندهم، ولعلَّهم لم يكونوا بحاجةٍ إليه.
والذي أريد ان أصِلَ إليه هو ان هذه العطلة ليست مُجرد لهو ولعب، وليست مجرد فراغ وخلوٍّ من كل شيء، وليست تمرداً على الأصول والثوابت، وإنما هي في حقيقتها تغيير لنمط الحياة، وكسر لرتابة العمل والروتين، ولهذا فإنه ينبغي ان تستغل أمثل استغلال، وان يملأ وقتها بالنافع والمفيد، وأن تكون محطة تقوية لما بعدها، لا ان تكون بمثابة الحبوب المهدئة والمثبطة، إذ انه ينبغي ان يكون الإنسان بعد هذه العطلة قويا وافضل مما كان عليه قبلها، ومعلوم ان النفس البشرية تكل وتملّ، وتحتاج إلى ساعات من الترويح الهادىء المباح الذي يعيد إليها نشاطها وقوتها.
ومما ينبغي ان ينظر إليه في هذه العطلة: القراءة، إذ هي تنمية عقلية مهمة، إن توقف العقل فيها خمد، وكسد، وركد، ومعلومٌ أن خمود العقل وكساده يصيب الإنسان بعاهةٍ ثقافية مستديمة، يصعبُ على الإنسان النهوض والخلوص منها.
فالقراءة من أهم وسائل نقل ثمرات العقل البشري الذي فكر، وأبدع، واخترع وأنجز، والقراءة هي ديدن الشعوب المتقدمة والمتحضرة، وبدونها يبقى الشعب حبيس نظراته القاصرة، وإنجازاته المتخلفة، وتفكيره البليد.
والقراءة لا شك مرتبطة بالكتاب الذي قال فيه الجاحظ: الكتابُ نعم الجليسُ والعدّة، ونعمَ النشرة والنزهة، ونعمَ الأنيس ساعة الوحدة، ونعم المعرفة ببلاد الغربة، والكتاب وعاءٌ ملىء علماً، وظرفٌ حشي ظرفاً، وإناء شحن مزاحاً وجدا, ينطق عن الموتى، ويترجم عن الأحياء,,, لا ينام إلا بنومك، ولا ينطق إلا بما تهوى، آمن من في الارض، وأكتم للسر من صاحب السر .
ولو نظر احدنا في سير العلماء وتراجمهم لرأى عجباً من أحوالهم في شغفهم بالكتاب والقراءة؛ وقد عدوا الكتاب، ثروة هائلة، بل روت كتب التراجم عن بعض العلماء انه باع بيته ليشتري بثمنه كتباً، فقد ذكر ابن رجب ان كتب ابن الجواليقي بيعت، فحضرها الهمذاني ليشتريها، فنادوا على قطعة منها: ستين ديناراً، فاشتراها الهمذاني، والإنظار من الخميس الى الخميس، فخرج إلى دار له في همذان فنادى على بيعها، فبيعت بستين ديناراً، فوفى ثمن الكتب, وغيره كثير.
ولم يكن الكتاب عندهم مظهراً ، أولزوم تزيين للدار، وإنما كانت رغبتهم فيه، وشغفهم بحبه للقراءة والاطلاع، ولهذا لزم الكتاب، صاحبه حتى في منامه.
قال الجاحظ في الحيوان: سمعت الحسن اللؤلئي يقول: غَبَرتُ أربعين عاماً ما قِلتُ ولا بِتُّ ولا اتكأتُ إلا والكتابُ موضوعٌ على صدري .
ولا يفهم من هذا ان الكتاب عندهم كان جالباً للنوم والنعاس، بل لشغفهم بالكتاب وتعلقهم بالعلم كانوا يستغلون حتى وقت نومهم، ومِمّا يدل على ذلك مارواه الجاحظ في الحيوان: قال ابن الجهم: اذا غشيني النعاس في غير وقت نوم وبئس الشيءُ النومُ الفاضل عن الحاجة قال: فإذا اعتراني ذلك تناولت كتاباً من كتب الحِكم، فأجدُ اهتزازي للفوائد، والأريحية التي تعتريني عند الظفر ببعض الحاجة، والذي يغشى قلبي من سرور الاستبانة وعز التبيين أشدّ إيقاظاً من نهيق الحمير وهَدة الهَدم , وهذه قصة نضعها أمام طالبي العلم اليوم ليقارنوا ويحكموا.
ولئن ارتبطت القراءة في أصلها بالكتاب، فإنها ترتبط اليوم مع الكتاب وهو الأصل، ولا يغني عنه شيء بالمجلة الواعية، التي تعي وتدرك ما تقول، والتي تنظر الى قارئها نظرة احترام وإجلال وإكبار، والتي تحترم نفسها، وتقدر رسالتها.
والقراءة مرتبطة بالصحيفة اليومية التي تقدّم لقرائها المعلومة القصيرة، والتحقيق الهادف، والخبر المفيد، والمقال النافع، والرأي الصائب.
ولهذا فإن تخصيص جزء من العطلة للقراءة دليل وعي، وبرهان معرفة، كما انه لا يخفى ان القراءة أنواع: قراءة سريعة صامتة، وقراءة متأملة متأنية وقراءة جهرية، وينبغي ان يعطى كل علم ما يستحق من القراءة، فما يناسب الصحيقة والمجلة قد لا يناسب الكتاب، وما يناسب كتب الفقه والأصول قد لا يناسب التراجم وكتب التاريخ والسير وهكذا.
وموضوع القراءة يحتاج إلى حثٍّ للأبناء، وتوجيه للطلاب، وما ذلك إلا لان القراءة هي الوسيلة الناجعة لطلب العلم ومدارسته، وقد أهتم علماء الأمة في القديم والحديث بها، وما وصلوا الى ما وصلوا إليه إلا بعنايتهم وتعلقهم بالقراءة، تلك القراءة التي أنتجت لنا علماً كبيراً ضاقت به المكتبات, ومع هذا، فالسؤال يتجدد الآن مع ظهور مغريات وملهيات تبعد عن القراءة وتحول عن الكتاب، وهو: هل نحن أمة لا تقرأ؟ فقد قيل: اطمئنوا فان العرب لا يقرءون!! فهل هذا صحيح؟!
د, مهدي بن علي العربي
|
|
|
|
|