| مقـالات
مقدمة :
فقد الإعلام العربي يوم السبت 15/1/2000م في جدة، الإعلامي الفلسطيني الأصل، الأمريكي الجنسية، صاحب الصوت الذهبي، عيسى صبّاغ، أحد أقدم الإذاعيين اللندنيين، الذي تحول فيما بعد إلى صوت أمريكا، ثم أصبح أحد أركان العمل الثقافي والإعلامي العربي في وكالة الإعلام الأمريكية، وأحد أبرز أعمدة العمل الدبلوماسي العربي في السفارات الأمريكية في جدة والكويت ولبنان .
قد لا يفي هذا المقال عيسى صبّاغ ما يستحق، لكنه مشاركة في حق زميل أحب بلادي وعمل فيها وعرف قادتها، للتعريف بإيجاز بسيرته وبمشواره الطويل في درب الأدب والإعلام والدبلوماسية، تأتي بعد أشهر قليلة من نوبة قلبية، اختارت أن تحلّ به وهو في إجازة قصيرة في جدة زار خلالها ابن زوجته الثانية (سمير) وأسرته،والذي يعمل طياراً في الخطوط السعودية ، فتوفي عن (82) عاماً.
الأستاذ صبّاغ، إعلامي عملاق، يستحق أن يكتب عنه أكثر من مقال، فهو من قدامى المدرسة الإذاعية الكلاسيكية ورموزها،وهو معلق سياسي، ورائد من رواد الإعلام العربي، وأديب لامع، أصدر (من جزأين) كتابه المعروف (كما قالت العرب As the Arabs Say) وقد كتبه بالإنجليزية، لكن الأمثال الواردة فيه كتبت بخط عربي جميل مزخرف ،وكان وعد القراء بجزء ثالث.
سيرته الذاتية:
ولأن كاتب هذا المقال لم يكن يمتلك سوى معلومات متناثرة عن الفقيد الراحل، لا يمكن الاستناد إليها في مقال بهذا الحجم،فقد استنجد بأخيه غسان، الذي يعمل في إذاعة صوت أمريكا بواشنطن، وبابنه خليل (كارل) المقيم في لندن، كما حصل على نسخة من كتاب للفقيد بعنوان: من بين أوراقي ، صدر عام 1991م عن دار الهاني بلندن، متضمناً مذكرات سبق نشرها في شكل مقالات، وقد جمعها في هذا الكتاب بعد تقاعده واستقراره في واشنطن، وقد تلطف الزميل في مجلس الشورى د, يحيى الجنيد أمين عام مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية بالرياض بتزويدي بنسخة منه مشكوراً ، والكتاب من تقديم ناصر النشاشيبي.
الأستاذ صباغ من مواليد عام 1917م ،وهوزوج أولا، ووالد خليل (كارل) وعيسى الابن، وكريم ،وشقيق غسان ود, عدنان وأختهم تكلا، درس في بريطانيا، ثم التحق بإذاعة لندن العربية خلال الحرب العالمية الثانية،وفي عام 1948م انتقل للعمل في إذاعة صوت أمريكا بواشنطن ،وفي الخمسينيات حصل على الجنسية الأمريكية، ثم التحق بوكالة الإعلام الأمريكية (U.S.I.S) ، ثم بوزارة الخارجية الأمريكية، وكان مشتشاراً إعلاميا ومترجماً للرؤساء جونسون ونيكسون وفورد وكارتر،وساعد في بعثات السلام في الشرق الأوسط إلى كل من الملك فيصل والرئيس الأسد ثم الملك خالد والملك فهد.
وقد نال وسام الملك عبدالعزيز، وتلقّت اسرته رسالة مواساة رقيقة من الأمير سلمان بن عبدالعزيز (أمير منطقة الرياض) بتاريخ 27 يناير 2000م.
وقد رافق كيسنجر كثيراً، أثناء رحلاته إلى الشرق الأوسط،وترجم بينه وبين الزعماء العرب، وأشاد كيسنجر به بقوله:
لابد من قول كلمة حق عن إنسان قام بترجمة اجتماعاتي في دمشق والرياض ، يؤكد العرب بالثناء على دقة نقله، وعلى ترجمته بصياغة عالية الجودة وعبارة أدبية رفيعة، وهو الفلسطيني الأصل، صاحب الشَّعر الرمادي الجميل، ويتقاعد مع نهاية القرن العشرين، بعد أن أصبح مواطناً أمريكيا مخلصا لعمله، ولرؤسائه من السفراء الذين عمل معهم، فلقد كان قلبه مع وطنه (فلسطين) دون أن يؤثر ذلك على تفانيه لعمله,, .
مذكراته:
يضم كتاب (من بين أوراقي) مجموعة مقالات مختارة كتبها الأستاذ صباغ بين عامي 1946م وأواخر الثمانينيات، يغلب عليها الطابع السياسي، فلا يجد فيها القارئ كثيرا عن تجربته الاذاعية ، وقد أذيع بعضها من إذاعة جدة ولندن وصوت أمريكا، ونشر البعض الآخر في مجلة المستقبل والمجال، وجريدة عكاظ السعودية.
وفي هذه المقالات التي لا ينتظم ترتيبها تسلسل تاريخي تحتل القضية الفلسطينية ومداولاتها في أروقة الأمم المتحدة وذكرياته في جدة، حيزاً كبيراً فيها، ثم يختمها بمجموعة من الصور التي تتصل بموضوعاتها، ومن بينها صور تجمعه مع عدد من الزعماء العرب والرؤساء الأمريكيين.
هجرة الطيور:
يقول عنه ناصر الدين النشاشيبي في مقدمته للكتاب المؤرخة في 12/6/1991م:
عرفت عيسى منذ أن كان تلميذاً في الكلية العربية بالقدس، شدّني إليه خلق رضيّ وكرامة وطنية ,, وعندما كان يطل على ملايين العرب بصوته من إذاعة لندن، كنت أشعر بقرب ذلك الصوت من بلدي ومن آلامه، ومن آماله,, كان عيسى ، ابن طولكرم وابن صفد معاً ، حريصاً على أن يجعل نبرات صوته الممزوجة بأحاسيس الشوق للوطن ، تنوب عنه في الإعراب عما كان يجيش في صدره من حب وتشجيع على الصمود,, .
وكما تنتقل الطيور من سماء إلى سماء ، كان قدر عيسى أن ينتقل إلى إذاعة صوت أمريكا وأن يغزو بصوته الجهوري الأصيل مستمعيه في العالم الجديد، وكنت يومذاك مديراً للإذاعة الأردنية من القدس أطلب من زملائي الاستماع إلى صوته والاستفادة من أسلوبه في الإلقاء وطريقته في الأداء، إذ كان مدرسة إذاعية قائمة بذاتها في لندن وفي واشنطن,, .
,, وعندما التحق هذا الشاب العربي الفلسطيني المثقف بالسلك الدبلوماسي الأمريكي دبلوماسياً وإعلامياً كانت الخسارة في الحرمان من صوته لايعوّضها إلا مكسب وجوده بالقرب من صناعة القرار الأمريكي ، وكانت فرحتنا صادقة عندما انتقل إلى الشرق الأوسط ليتبوأ عمله في السفارة الأمريكية بجدة، فلقد أحسسنا بأنه قد أصبح سفيراً من القدس في السعودية ، وكان عمله في جدة مزيجاً رائعاً وجهداً بارعاً في ميدان السياسة والإعلام والأدب,,.
كما اكتسب صداقة الآلاف في أرض الجزيرة العربية ,,
وشعر عيسىوهو العربي الغسّاني المنبع، الذي يحفظ القرآن الكريم وديوان المتنبي ، أنه ليس غريباً عن أرض القداسات والمروءات والتاريخ الإسلامي العظيم,,
ومن خلال عمله الدبلوماسي في جدة ، استطاع أن يكون موضع ثقة الذين يعمل معهم أو من أجلهم ، حيث كان المترجم الدقيق بين عدد من ملوك العرب وبين الرؤساء ، كينيدي ثم جونسون ، ثم نيكسون، ثم فورد وكارتر ووزرائهم ,.
والآن يبادر عيسى صباغ إلى كتابة مذكراته في هذا الكتاب،بعد أن أهدى المكتبة العربية أكثر من كتاب وبحث،وإن حياته الإعلامية والسياسية تؤهله لكي يكون مرجعاً للعشرات من القضايا,, .
,, في الماضي، أحب الناس عيسى صباغ، وهم يسمعون صوته، كما أحبه الملك الأردني عام 1949م عندما قال : إذا جاء إلى عمّان أريده أن يبقى معنا ويصبح وزيراً للإعلام,, ولما التقينا في السعودية بعد عشرين عاماً كان عيسى صباغ قد أصبح أكبر من اسم الوزير ومن حدود الأردن,,
,,, هذه مذكرات عيسى صباغ ، الفلسطيني العربي، بالجواز الأمريكي، والزوجة السويدية الناطقة بالعربية، الذي عاش كالنسيم وسط الأعاصير,, .
عيسى صباغ في جدة:
يذكر عيسى في مذكراته، أنه توجه من بيروت إلى جدة لأول مرة عام 1952م على طائرة داكوتا عن طريق الظهران ثم الرياض.
وعندما توقفت الطائرة في الظهران حل ضيفاً على أرامكو، وعندما نزلت في الرياض استدعي للسلام على الملك عبدالعزيز،وقد تضمن مقاله المنشور في جريدة عكاظ (1982م) بعنوان: :(عجيب أمر المملكة العربية السعودية بمناسبة يومها الوطني) ذكرا لفضائل أبناء الملك عبدالعزيز والأسرة السعودية المالكة، التي أسماها (أسرة الخير) كما يتحدث هذا المقال الذي نشره بعد مضي (30) عاماً على زيارته الأولى لجدة عن طبائع الشعب السعودي،وعن لقائه بالملك عبدالعزيز.
كما يشير المقال إلىعلاقته بالملك فهد، وإلىمراسلاته مع ولي العهد الأمير عبدالله بن عبدالعزيز ،وإلى لقاءاته بالأمير سلطان أثناء زيارة الرئيس كارتر، ويفرد مقالاً للحديث عن ذكرياته مع الملك خالد،لكنه يسهب في مقاله، في الحديث عن مواقف ولقاءات تمت مع الملك فيصل أثناء عمله معه في جدة.
ويتحدث في مقال نشر في مجلة المستقبل في 7/7/1985م عن تجربته في متابعة التغطية الإعلامية لرحلة الأمير سلطان بن سلمان بن عبدالعزيز، حيث اختير (صباغ) من قبل السفارة السعودية في واشنطن للإشراف على الرحلة من الناحية الإعلامية، وقد أورد فيه حواراً طريفاً، كان قد تم بين والده الأمير سلمان (أمير منطقة الرياض) عند التقائه عدداً من رواد الفضاء الأمريكيين الذين زاروه في مكتبه قبل عشر سنوات من رحلة نجله، فقد انبهر من معلومات قدموها عن رحلات الفضاء، وطالبهم مازحاً ان يسجلوا اسمه ضمن أول رحلة تضم مسافرين.
ويتضمن كتابه مقالا بعنوان: حديث الوداع، كان آخر حديث له في الإذاعة السعودية بجدة (1964م) مختتما به سلسلة بعنوان (حصاد الأسبوع) ومودعاً به أهل المملكة ، الذين عاش بينهم مستشاراً خاصاً للسفير الأمريكي، معنياً بالنواحي الإعلامية والثقافية ،وقد ضمّنه مشاعر جيّاشة تجاه المجتمع الذي عاش فيه عدة سنوات، وتجاه الشعب الذي بادله المودة ،وتجاه البلاد التي احتضنته.
* حفظ القرآن الكريم وشعر المتنبي،وألف كتاب: (كما قالت العرب) بالإنجليزية من جزأين.
* شارك في أول استفتاء أجرته الإذاعة السعودية (1962م) وترجم بين الملك فيصل وخالد وفهد وبين رؤساء أمريكا وكيسنجر.
رسالة يعتزّ بها:
سبقت الإشارة إلى رسالة خاصة تلقاها عيسى خليل صباغ من ولي العهد الأمير عبدالله بن عبدالعزيز، ونظرا لأهمية الرسالة ومقدمتها، فإن هذا المقال يوردهما بنصّهما، كما جاءتا في كتابه ،يقول الأستاذ عيسى:
هذه رسالة عمرها خمس سنوات ،أرسلها رداً على رسالة مني إليه، بعد أن تقاعدت من الخدمة الدبلوماسية في وزارة الخارجية الأمريكية، ونصبت خيمة الاستقرار في واشنطن، أنا فخور بهذه الرسالة، لا لمصدرها فقط، بل لما احتوته من نظرات تفحصية حكيمة في الشؤون الإنسانية والعالمية، لطالما سمعت شبيهاتها في جلساته مع الوافدين على بلاده من الولايات المتحدة ، متزلّفين أو مستنصحين.
وإذ ينتهي القارئ الفطين من تمعّن هذه الرسالة ، سيدرك دون شك لماذا طرت فرحاً عندما عثرت عليها بين أوراقي، التي أعود إليها كلما حاولت إقصاء شبح الضجر والملل عن محيطي الوادع المليء بالحنين إلى ذوي القدرة على الإعراب عن الرأي المنير مثل صاحب الرسالة التي تقول:
صديقنا العزيز الأستاذ عيسى خليل صبّاغ:
بعد إطلاعي علىخطابكم الذي حمل إليّ تساؤلات كثيرة حول مشاكل الساعة وحول تفكيري الخاص، وماذا ينبغي للغرب أن يفعله تجاه المنطقة بصفة عامة، والمملكة بصفة خاصة، وما ينبغي على العرب أن يفعلوه لاستعادة مكانتهم في هذا العالم.
إن لتساؤلاتكم هدفاً نبيلاً ، والمشكلة التي تواجه العالم أجمع، ونحن من هذا العالم ، هي أكبر من كل تفكير ومن كل المقاييس ، فلنا عشرات السنين ونحن نرصد الأحداث ونعيشها وجدانا وفكرا وممارسة ، ولكن ومع الأسف، أستطيع أن أقول وبكل تجرد : إن الإنسان اليوم الذي هو أنا وأنت وكل البشر ، صار أرخص ما في اكلون، ولقد ضاعت المقاييس، وهبطت الأخلاق، وصار الفكر والعقل اللذان أراد الله للإنسان أن يعيش بهما في أمان ، بوحي من وجدانه ، وبتجرد من عقله، خاضعين للقوة المتوحشة وهنا يتباطأ الجواب على كل سؤال، طرح أوسيطرح من قِبَلك أومن قِبل الآخرين ، لا لشيء إلا لأن المقاييس والقيم أصابها الخلل الرهيب، اما تفكيري ورؤيتي للأحداث ، فهما يعذَّبان أشد العذاب، ويحاصران استقرار مأمني الداخلي، ذلك، أننا حين نرى ما يجري في عالمنا الخاص أو عالم الآخرين، يصيبنا الرعب على الإنسان المظلوم الذي ظلمته ، ولا تزال تظلمه القوى الكبرى ومنها أمريكا.
في تصوري ، أن العالم، إذا لم تتداركه رحمة الله ، مُقبلٌ على كارثة لا تُبقي ولا تذر، لأن الإنسان الانفعالي والغضوب ، الذي لا تملك غضبه أخلاقه وإرادته، لابد أن يعبر عن هذا القلق، بانطلاق أسلحة الدمار.
والولايات المتحدة ، لا نسيء فيها الظن ،وتحفظاتنا على السياسة ، لم تكن عداء، ولا انحيازاً لعدوآخر، ولكن الولايات المتحدة وهي الدولة العظمى، والتي تملك من القوى المادية ما لم يملكه إنسان، من حين وجد الإنسان على هذا الكوكب ، هذه القوة خطرة جدا، إذا لم تعقِلها الروح والأخلاق والقيم.
على العموم ،ليتني أستطيع أن أشد تفكيري، ولو لحظة واحدة ، بحيث يستقر باستقرار حدث أو أحداث، ولكن فكري وفكر سواي اليوم، تتجاوز به الاحداث لحظة بلحظة ، ما يفكر به ساعته إلى ساعة آتية ، وختاماً لك تحياتي.
عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود
27/3/1406ه (9/12/1985م)
عيسى خليل صباغ والإعلام السعودي:
استفادت الإذاعة السعودية من وجود عيسى صباغ مستشاراً ثقافيا وإعلاميا في السفارة الأمريكية بجدة (1957 1964م ) وقد اختارته الإذاعة مع مجموعة من الأدباء السعوديين (عبدالكريم الجهيمان، عبدالعزيز الرفاعي، عبدالله شباط، عزيز ضياء، شكيب الأموي، سعد البواردي، ومحمد علي موسى) للإشراف على اول استفتاء من نوعه اجرته الاذاعة سنة 1962م، وقد نوهت عنه مجلة الإذاعة السعودية في عددها (94) محرم 1383ه، ونشرت نتائجه فيا بعد،كما قدّم في الإذاعة حديثا اسبوعياً باسم (حصاد الأسبوع).
وبعد:
هذا هوعيسى خليل صباغ، الذي خسره الإعلام العربي، وقد عرف بالاعتدال والوطنية، وبثقافته العربية والإسلامية الواسعة ، عمل عشر سنوات في هيئة الإذاعة البريطانية ، وثماني سنوات في صوت أمريكا ،وربع قرن في وزارة الخارجية الأمريكية.
|
|
|
|
|