| شرفات
بدا شديد الكآبة والغباء لا يحسن تلاوة الحروف الهجائية، بل بلغ من شدة غبائه أن المدرسة التي كان أبوه الراحل يعمل بها مدرساً فصلته لأنه لا يصلح تلميذاً بها، وكل جهد لتعليمه هو جهد ضائع لن يثمر.
وظل الطفل توماس في البيت لا يفعل أي شيء، يعيش فريسة لنوبات طويلة من شرود الذهن والبكاء لغير ما سبب ظاهر, وكانت الأم والجدة تعتقدان أنه أبله تماماً.
إن الأم تندب حظها المنكود الذي رماها بطفل معتوه، لا يبدي ميلاً إلى شيء سوى حب السيطرة والرياسة، حين يلعب مع رفاقه ويتمثلهم خُدّاماً مأجورين!! لكن في مصادفة غريبة وقع في يده نسخة من أحد الكتب، مكتوبة بحروف ضخمة كبيرة، فراح يقرأ بنهم وشغف، إذ تبين أن عُقدته كانت في كتب المدرسة صغيرة الحروف, أي أن بلاهته التي تراءت للمدرسين كانت مجرد عيب في الإبصار,, وربما كانت نوبات الشرود بسبب خياله الجامح.
وبشعور داخلي أراد توماس أن يعوض ما فاته من قراءة واطلاع، فاتخذ لنفسه غرفة أعلى البيت يأوي إليها للمطالعة والكتابة، ورسم صور الفرسان ولا تزال هذه الرسوم في المتحف البريطاني إلى الآن ربما يصبح ذات يوم فارساً,, أو مثقفاً مشهوراً!!
لقد بدأ توماس يصنع أسطورته الشعرية على نحو بالغ الغرابة,, كان الخيط الأول في تلك الاسطورة حين اكتشف في البيت ضمن ما تركه أبوه من اشياء مجموعة كبيرة من الصناديق والوثائق الخاصة بكنيسة سانت ماري ردكليف، التي كان الأب يعمل في فرقتها الموسيقية,, وجاء الابن لينهمك في قراءة تلك الكتب والذخائر وما تتضمنه من أشعار قديمة كتبت منذ عشرات السنين.
وكان الخيط الثاني في أسطورته الشعرية أن يكتب توماس قصائده الشعرية على غرار الاشعار القديمة، يسبغ عليها ثياب اللغة العتيقة وينسبها إلى شعراء من القرن الخامس عشر، مستغلاً ما يسود في عصره من جهل وبعد عن الاستقصاء والتعمق.
إن الأمر بسيط للغاية!! يكتب توماس القصيدة في لغة عتيقة على قطع من الرق، ثم يذهب إلى صديقه برجام أو صديقه كاتلت، وهما من باعة الأواني البسطاء الذين لا يعلمون شيئاً من الأدب أو التاريخ, وبالفعل يتلو توماس قصيدته القديمة المنسوبة لأحد الشعراء، فتجوز الخدعة على صديقيه وينشران نبأ عثور توماس الصبي على قصيدة نادرة.
لقد استغل توماس نقطة ضعف صديقه برجام الذي يمتهن بيع الأواني، ويتسم بالسوقية والفظاظة، فهو كسائر الناس يحب أن يظهر بصورة المثقف المتعلم، لذلك كان ينتظر بفارع الصبر صديقه الصبي توماس الذي ينقطع أياماً ثم يظهر وتحت إبطه مخطوط كبير يحمل طابع البلى، لينشر على صديقيه أسراره الخطيرة عن الفتح النورماندي وملفات الفروسية والسجلات الصفراء وحكايات عن فارس مغوار يدعى سيمون دي سينكت.
خيال في خيال ينسجه توماس ببراعة فيختلق القصص وشجرة الأنساب والاسماء، نظير شلنات قليلة من البائع المغتبط باكتشافاته، وينضم إلى زمرة المعجبين بتوماس الجراح باريت وزميل توماس في الدراسة ويدعى بيكر الذي كان يذهب إليه كي يقرض له قصائد غرام موجهة إلى الفتاة التي يحبها، على غرار القصائد التي كان يكتبها سيرانودي برجراك لحبيبته كريستيان فيذهب بها صديقه إلى حبيبته روكسان!!
وفي دائرة ضيقة ظل أمر قصائد الصندوق قاصراً على بضعة افراد معجبين بذكاء الصبي توماس, على حين لم يشاركهم المحامي جون لامبرت الذي يعمل توماس في مكتبه، هذا الإعجاب بالصبي، بل كان يتبرم به معلناً سخريته من تلك الاشياء التي ينشغل بها وهي لا تمت بصلة إلى مهنة المحاماة.
ثم أراد توماس أن يصبح مشهوراً كما وعد أمه وجدته وأن يوسع دائرة المعجبين به، فاستغل افتتاح جسر جديد على نهر إيفون، وانسل في سكون لمقابلة رئيس تحرير جريدة فلكس فارلي التي كانت تصدر في برستول, ودفع إليه بقصيدة غريبة الهجاء، تتخللها كلمات غير مألوفة، وتصف مجموعة من الرهبان يعبرون الجسر القديم, ولم تكد هذه القصيدة تظهر حتى أثار اللغط الشديد بين هواة المخطوطات في برستول، فأخذوا يتساءلون عن مصدرها,, وهل هناك وثائق أخرى تماثلها؟! وألح هؤلاء على توماس الذي أبي ان يتكلم عن مصدر المخطوط ثم راح يراوغهم بقصص غريبة لا تؤدي الى شيء.
وفي عام 1769م كتب عنه أحد الناشرين المشهورين ويدعى دودزلي: إن باستطاعته الوصول إلى مخطوطات تحتوي قصائد قديمة ومقطوعات تمثيلية، لعلها اقدم ما عرف من الشعر التمثيلي , اي ان المثقفين وغير المثقفين انخدعوا بأسطورة توماس إلى حد كبير,, وربما يرجع السبب في انهم لم يتخيلوا ان ينتحل توماس هذه الأشعار، أنهم كانوا يرونه ينشر بعض المقالات والقصائد باسمه الحقيقي في مجلة المدينة و الريف وبالتالي ليس لديه ما يدعوه للانتحال!
ومرة أخرى يوسع توماس دائرة المخدوعين باكتشافاته لتضم واحداً من سراة الانجليز وأكثرهم تعاطفاً مع الأدباء وهو هوريس ولبول الذي كان مولعاً بالمخطوطات القديمة، فتوثقت بينهما علاقة طيبة رغم حذر ولبول تجاه ما يرويه توماس من معلومات وحكايات, بل سرعان ما عرض تلك المخطوطات على بعض الخبراء الذين أكدوا زيفها وأنها منحولة، فأصابه حنق شديد على هذا الشاب الذي يعرض سمعته لقدح القادحين, فما كان من توماس إلا أن طلب منه في هدوء رد المخطوطات إليه، لكن لبول تجاهل الرد على رسائله، ثم أعادها إليه بعد عدة اسابيع دون كلمة واحدة.
اصيب توماس بمشاعر متضاربة من الخزي والهوان والشعور بالفضيحة,, وكأن اللعبة قد انتهت,, والخديعة مهما بدت بريئة لا بد أن تُكتشف يوماً ما، لأنه لايمكن لأحد من البشر أن يخدع كل الناس، كل الوقت,, وفي اشد حالات الضيق والاضطراب الذهني بدأ توماس يفكر في الخلاص,, في الانتحار,, وحين عثر المحامي لامبرت على قصاصة بهذا المعنى بادر بإعفاء الصبي من العمل بمكتبه.
اصبح حراً,, وحزيناً ايضاً!! ليس أمامه سوى أن يسافر إلى لندن ويجرب حظه في الصحافة هناك، فنزل عند عمة له تُدعى مسزبالانس، رأت غرابة اطواره وكيف أنه يرفض أن تكنس غرفته بدعوى أن الشعراء يكرهون المكانس كما نهرها عن أن تناديه تومى قائلاً: هل سمعت في حياتك عن شاعر يسمى تومى؟! ومضت الأيام وهو ينتقل من جريدة إلى أخرى بحثاً عن فرصة عمل فلايلقى إلا التشجيع بالكلمات,, وتبلغ به الأنفة حين كان يعيش عند سيدة تدعى مسز إينجل أنه يرفض دعواتها للعشاء رغم جوعه الشديد، يرفض هذا التسول وإن كان بصورة مستورة, إن باستطاعته أن يعود إلى برستول، لكن بأي وجه يلقى أمه وأخته الصغيرة ماري، وهو الذي جاء إلى لندن كما الغزاة الفاتحين، ولن يتحمل نظرات مواطنيه الساخرين، يرسلها برجام وكانكت وغيرهما حين يرون فشله وافتضاح أمره,, إنه لن يطيق أن يسمع أو يرى شيئاً من هذا,,
ولن يكلف أمه وأخته احتمال هذا الذل والهوان,, ما الداعي لكل هذا وجرعة من الزرنيخ تكفي كنهاية مريرة لشاعر شاب,, أوصد باب الغرفة وأقبل على مخطوطاته أسطورته الشعرية فمزقها ونثرها في الغرفة, في 24 أغسطس وضع توماس تشاترتون حداً لحياته، مفضلاً جرعة من الزرنيخ على مشاعر الذل والهوان وأهوال السخرية والجحود, وكأنه لم يكن ثمة اختيار آخر.
شريف صالح
|
|
|
|
|