| الثقافية
لم تنقطع الكتابة حول الحداثة، منذ دخولها الساحة العربية في أوائل القرن العشرين حتى الآن، ولا اظنها ستنقطع، لأن مرحلة ما بعد الحداثة والعولمة التي داهمت الجميع، داهمت مجتمعات لم تتقبل الحداثة حتى الآن، اما لجهل او للمحافظة على مكتسبات مادية ومعنوية قد تسبب لها الحداثة قلقا أو ازعاجا أو هدفا او ازالة.
والذين كتبوا عن الحداثة واشتغلوا عليها، توزعوا بين ثلاث فئات مبدعون، ومنظرون، ونقاد واجمعوا في سياق رؤيتهم العامة الى الحداثة ان لها مفهومها وقضاياها وأبعادها ودلالاتها وأنساقها ضمن حيزها الزمكاني، في ضوء التواصل مع الجذور التراثية والاحتكاك بالعالم والتفاعل معه حضاريا وثقافيا* .
هناك منهم من تجاوز وأضاف وجدد، وهناك من لم يتجاوز هم التجاوز .
والحداثة اكثر ما تجلت لدى العرب في الشعر، ليس في هذا العصر، بل في كل العصور السابقة، حيث يحمل الشعر شعلة التقدم والوعي والثقافة، ولأن الشعر أكثر الفنون تفاعلا وتأثرا بكل محدث وجديد خصوصا ان معالم التجديد تبرز فيه بسرعة تفوق سيرورة تلك المظاهر فيما عداه من الظواهر الثقافية والحياتية، ولأهمية الشعر كميدان يقبل بابراز الجديد دائما في اجلى صوره وعلاقاته بالابعاد التراثية والعالمية لطبيعة الشعر دور في هذه الخواص، ولشهرته وذيوعه وكثرة متابعيه دور آخر، ولريادته وطليعيته دور، احتفظ بها منذ نشأ وما يزال، ولن يفقد من هذه الخواص والأدوار شيئا فهو بوصلة التقدم ، ليس بالنسبة للفنون والأنواع الأدبية وأعرافها، بل للانسان في علاقاته ورؤاه ومواقفه وجدلياته مع نفسه ومع الوجود.
والنقد الذي تناول ظاهرة الحداثة في الشعر العربي في القرن العشرين، لم يكن ذا اتجاه واحد، بل كان يصدر عن رؤية نقدية موزعة على عدة اتجاهات أدبية، من رومنطيقية ورمزية وواقعية وذات نزعات فنية وجمالية وخلفيات أيدلوجية محددة وغير محددة .
ومن أهم الموضوعات التي تناولها هذا النقد، مسألة قديمة متجددة، تناولها القدماء، وعاد اليها الجدد، كقضية من اهم القضايا التي تدخل في عملية الابداع الشعري ودراسته، وهي قضية الشكل والمضمون، جادلوها الى ان وصلوا الى ان كل فصل بين الشكل والمضمون هو فصل وهمي، وليس الا افتراضا تقتضيه الدراسة الأدبية .
والمسألة الثانية، والتي لا تقل اهمية عن الأولى هي وحدة النص، من الشعر القديم المتعدد الأغراض الى الوحدة الموضوعية ثم الوحدة العضوية الى ان بدأ يتم تناول النص ووحدته ودوره كأثر فني مجسد لتجربة او مجموعة تجارب شعرية .
وظهرت في الأفق النقدي والابداعي مفاهيم لم تكن موجودة أو دارجة في النقد القديم والتقليدي، كالرؤية والموقف وعلاقتهما بالموضوع كل نص يقوم على موضوع، وكل موضوع يعكس موقف ورؤية، والعلاقة بين الموضوع والموقف والرؤيا علاقة جدلية، لأن طرح اي موضوع انما يصدر عن موقف ازاء المجتمع والحياة والكون ثم يعكس ذلك الموضوع بدوره موقفا ذا رؤية تكشف الأبعاد المستقبلية لعوالم جديدة .
وانتهت عصور الانغلاق بالانفتاح على الشرق والغرب، وبالانفتاح الواعي الجديد على التراث ولم يعد بامكان الانسان سوى الانفتاح على كل التيارات شهد هذا القرن احداثا بدءا من الحرب العالمية الأولى ثم الثانية ثم ما رافق هذين الحدثين من تحولات في الخريطة العالمية والعربية سياسيا واقتصاديا واجتماعيا ومن زيادة التواصل والاحتكاك العالميين، هذا أعقب تطورا بارزا في مختلف اتجاهات الحياة، وأصبح على كل انسان ان يتلقى روافد الثقافة العالمية، لتلتقي مع مخزونه التراثي ثم يحاول تجاوز كل المصادر الممكنة .
بعضهم تمسك بالقديم، والبعض بالجديد الوافد، ونجح قلة في هضمهما وانتاج ابداع جديد لا يقلدهما بل يضيف اليهما من أصالته وفنه الخاص.
توزع الناس بين مقلد للقديم التراثي او مقلد للآتي من الخارج واما متجاوز لهما بعد هضمهما وما زالت الساحة الشعرية العربية تشهد حتى الآن حضورا للفئات الثلاث، وقد يلتقي في مهرجان واحد ثلاثة شعراء يمثل كل واحد منهم فئة مختلفة، فبعد ان كان الجديد والمحدث محل اتهام واستغراب من الجمهور، أصبح الشعر التقليدي في العقود الاخيرة من القرن العشرين محل استهجان بعد ان مله الناس وبعد ان بدأت ذائقتهم تتقبل وتستمتع به.
ومثلما كان للنقد دور ايجابي في التعريف بالتجربة الشعرية العربية الجديدة، وفي رصد تحولاتها وقراءة تجلياتها وانجازاتها وتحليل ظواهرها، فقد كان لبعض المناهج العلمية الصارمة دور سلبي مع هذه التجربة، ووصل الأمر ببعضها الى الاساءة الى الشعر وتحويله الى جسد ميت على طاولة التشريح، وبعض الشعراء نجا من مصيدة هؤلاء النقاد وبعضهم وقع فيها فمات .
* من كتاب الحداثة الشعرية لخليل أبو جهجه.
|
|
|
|
|