| الثقافية
الجزء الأخير من هذه الشهادة، والذي لا استطيع القفز عنه، هو الحديث بدقة أكبر عن تلك العلاقة القائمة بين الكتابة، كتابتي والسينما، وفهمي لكلا النوعين في ضوأي بعضهما، فبعد معايشة طويلة لهما ولسواهما من الفنون الأدبية والمرئية تبين لي ان شكلا ما، لن يستطيع ان يلعب دور الأشكال الأخرى، فكلما شاهدت فيلما جميلا عن رواية جميلة انتابتني رغبة العودة للرواية الأصلية، وفي ظني ان ذلك عائد لمكر الأنواع الابداعية نفسها، حيث لا يمكن ان يبوح نوع ما بكل أسراره للشكل الذي يحتله، أو يسعى لتحويله الى كيان آخر، انها نوع من عبقرية الدفاع عن النفس التي تمتلكها هذه الانواع، كما لو أنها البشر أنفسهم وهم يدافعون عن جوهر ذواتهم الخاصة, ولعل الامر نفسه سينطبق، مثلا، على فيلم تم تحويله الى رواية بعد نجاحه، اذ ان الرواية المأخوذة عنه لن تستطيع دفعه للخلف كي تحتل المقدمة.
لاشك ان السينما قادرة على فعل أشياء كثيرة، وقادرة على الجمع بين اللغة عبر الحوار والتعليق القادم من خارج الشاشة، والموسيقى والصورة المصعدة الى لوحة جارية، كلغة اولى للسينما، لكنها ليست اللغة كاملة ولا الموسيقى كاملة، ولا القصة كاملة.
وربما ما يلفت الانتباه ان في اكتمال السينما ما يشير الى قصورها أيضا، فهي حين اتخذت من الصورة مفردة لها، لم تستطع ان تكتفي ذاتيا بها، ولذا رأيناها مضطرة ان تخرج للأنواع الأخرى لكي تكمل وجودها.
لقد بدات السينما حين تم التمكن من تحريك الصورة الفوتغرافية بمشاهد من الحياة، تلتقط في شارع مزدحم أو ميناء او حديقة، وحين أحس المصورون، الذين لا نستطيع ان نطلق عليهم صفة مخرجين، ان لابد من وجود رابط بين هذه المشاهد، التجؤوا الى القصة التي هي عنصر الرواية البارز، لكنهم رغم هذا أحسوا بأن ما يلزمهم اكثر، اذ لابد من الكلمات التي هي جذر الأدب وقامته، فكتلوا هذه الكلمات على الشاشة فوق المشاهد المصورة، ولم يلبث العلم ان قدم لهم هديته الكبرى، حين أتاح لأصوات الممثلين ان تسمع، وحين بلغ الفيلم اوجه، لم يجد صفة تطلق عليه أفضل من فيلم روائي او ملحمي,,!! .
ان سحر السينما قائم على هذه القدرة الفائقة للظهور بمظهر الكمال، في حين انها في جوهرها الحالي على الأقل اكثر الفنون حاجة لسواها, وهذا يدفعني للبحث عن الفنون الأخرى انطلاقا من عدم الكمال سعيا لكتابة غير مستعدة لأن تفقد شهية احساسها بأنها ناقصة، لأنها بغير هذا الحس لن تحقق شيئا، فعظمة البشر لا تكمن في يقينهم بأنهم اكتملوا، بل في يقينهم بأن طريق كمالهم ليس له نهاية، ولأنهم يشعرون دائما ان البدايات اكثر انسانية من النهايات، ولذا فهم يتجرؤون على ابتكار بدايات جديدة باستمرار، لا كالسؤال الكبير الذي يموت بمجرد اقتناعه باول اجابة.
تحتم عليك السينما الكبيرة ان تستفيد من حنكتها، وذلك الدهاء الرهيب الذي تتمتع به وهي تسخر الفنون كلها لخدمتها، وتسخر منها، لكي تكون هي في النهاية: السينما، التي تثبت يوما بعد يوم انها ليست الفن السابع، بل هي الفنون السبعة، وهذا درس كبير للرواية والقصة والقصيدة، كي تحاول ان تسترد ما أخذ منها وتبقى الرواية في النهاية هي الرواية، والقصيدة هي القصيدة, تحتم علينا السينما ان نتعلم منها كما تعلم المخرجون الأوائل الكثير من الأدب، ومن الروايات بالتحديد وان نمتلك القدرة التي تؤهلنا للوصول الى البشر، دون ان نتحول الى سلعة، تماما كالأفلام التي لا تنتهي، أي ألا نكتفي بأن يكون النص جميلا فقط، بل عميقا أيضا، متشعبا، وعصيا على نظرة واحدة ان تلم به، لأن كل عمل تستطيع الاحاطة به من المرة الأولى هو بالضرورة مادة لملء أوقات الفراغ.
تسرد الأمهات على أسرة ابنائهن قصصا قبل النوم، لانه ليس لديهن ما يقال في لحظة كهذه، لكننا لا نستطيع ان نقوم بالشيء نفسه حين نكتب، اذ يجب ان يكون لدينا القصة الجميلة، وما نقوله أيضا ونحن نسردها، لا على المستوى الفكري فحسب، بل على المستوى الفني, وفي وقت يبدو الروائي فيه حرا، وقادرا على ابتكار ما لا يحصى من الأشكال، كأي مهندس حقيقي، فان السينما تمد له يدها لتقدم ذروة خبرتها التي امتلكتها عبر مائة عام في مجال الافادة من كل شيء، ومن كل فن.
لكنني اعترف، ان ما سيظل ينقص الرواية، والأدب بشكل عام، ان الكلمات لن تستطيع ان تجعلنا نرى الأشياء كما نراها في السينما، او نسمع الموسيقى كما نسمعها هناك، فهل يكون هذا النقصان هو كمال الأدب أيضا، لأن ديمقراطيته تكمن فيه، حين يتيح للقارىء ان يرى ويسمع الأشياء كما توحي بها الكلمات لا كما يقدمها الشريط السينمائي اليه، جاهزة.
قد يدفعنا هذا الى ان نكون أكثر ثقة بنقصاننا، ونحن نسعى الى السينما، أو نسمع الموسيقى كما نسمعها هناك، فهل يكون هذا النقصان هو كمال الأدب أيضا، لأن ديمقراطيته تكمن فيه، حين يتح للقارىء ان يرى ويسمع الأشياء كما توحي بها الكلمات لا كما يقدمها الشريط السينمائي اليه، جاهزة.
قد يدفعنا هذا الى ان نكون اكثر ثقة بنقصاننا، ونحن نسعى الى السينما متوسلين كلمة السر التي تفتح أبواب السحر، لأن هذا النقصان قد أثبت دائما اننا بحاجة اليه بالدرجة نفسها التي نحن فيها بحاجة لوهم الكمال الذي تحققه السينما.
هل لكل واحد من الفنيين سحره؟ كماله؟ ام نقصانه العظيم؟ ولماذا يكون الاقبال على قراءة الأعمال الأدبية التي قدمت في اعمال سينمائية ناجحة اكثر بكثير بعد تقديم هذه الأعمال، التي من المفترض ان تكون اختصرت عشرات ساعات القراءة في ساعتين مريحتين على مقعد مريح في العتمة؟ لماذا لا يستطيع أي فيلم مهما كان كبيرا، بدءا بالحرب والسلام والجريمة والعقاب وزوربا ودكتور زيفاجو، وانتهاء بثلاثية نجيب محفوظ، ان يضع الكتاب على الرف او في خزائن النسيان.
قبل مائة عام كتب جوزيف كونراد الروائي العظيم المهمة التي أسعى الى تحقيقها عن طريق الكلمة المطبوعة هي ان اجعلك تسمع، وان أجعلك تشعر، والأهم من ذلك ان أجعلك ترى ، وقال تولستوي: ان هذا الاختراع الجديد الذي له يد تدور سوف يحدث ثورة في حياتنا نحن الكتاب وكان على يقين حسب قول موريس بيجا: ان على الكتاب ان يكيفوا أنفسهم.
لكن، ورغم تبادل التأثير فيما بين السينما والأدب، الا ان السينما نفسها، ومن وجهة نظر بعض أهم مخرجيها ملتبسة، اذ يرى احدهم انها أقرب الى الرواية، ويرى ثان انها أقرب الى الموسيقى، وثالث يرى انها أقرب الى الشعر، ورابع يرى انها أقرب الى المسرح، وخامس، مثل هيتشكوك، يرى انها أقرب للقصة القصيرة.
ربما، وبسبب قدرة السينما الفائقة على الدنو لأقرب مسافة ممكنة من الحواس، لم يعد ينقصها اليوم سوى ان تمكن المشاهد من ان يشم الرائحة ويتذوق ما يؤكل على طاولة الممثلين، بعد ان منحته القدرة على رؤية الحدث بأكثر من الوضوح الطبيعي باعتبارها تعزل كل ما ليس ضروريا حوله وجعلته يسمع بدقة كل ما يدور على الشاشة وخلفها في غابة الصوت فائقة الحساسية التي قدمتها تكنولوجيا العصر، وجعلته يوشك ان يلمس ما يراه، مع كل هذا التطور الحاصل في التصوير وهندسة الصوت، وذلك السعي الدؤوب الذي ينفذ على نطاق ضيق منذ سنوات وسيصل الى مداه، ونعني هنا: تجسيد المشهد بأبعاده الثلاثة.
هو زمن ثقافة العين الذي يحتم على الرواية والأدب بشكل عام الافادة مما تحققه السينما، مع ان السينما بالتأكيد ستظل متقدمة في هذه الثقافة لا لشيء، الا لأن العلوم كلها تمد يدها لمساعدة صناع الفيلم، لم تعد هناك أي فكرة مهما كانت درجة جنونها، غير قابلة للتحقق صورة على الشاشة البيضاء، كما ان تحولات الحياة نفسها تلعب دورا مهما في هذا المجال.
لكن المسألة الخطيرة قد تكون كامنة في الاصرار الأعمى للرواية على اللحاق بالكاميرا، هذا الاصرار الذي لن يمنح الرواية الا مزيدا من اللهاث, وكل ما يمكن قوله هنا، ان السينما تذكرنا بين حين وآخر ببعض فضائل الأدب المنسية، حين يستطيع احد الأفلام مثلا ان يعبر بر ثلاثة أجيال في ساعتين بصورة مقنعة تماما, ولعل من اهم الفضائل هنا هي فضيلة الكثافة التي كانت دائما من سمات الأدب الكبير, ورغم هذا كله ستظل التقاطعات قائمة بين السينما والرواية، وهي تقاطعات تكاملية لا انقطاعية، خاصة ان الالتباس واضح اليوم حتى في اذهان السينمائيين الذين تعقبوا جذور هذه العلاقة، فلم يعودا قادرين على الجزم أين ظهر هذا الاختلاف سيظل مدار الحديث، ما دامت هناك رواية تكتب وفيلم يصور, أما ما لا يمكن الاختلاف عليه فهو ان الفيلم في النهاية يشكل مادة ثقافية مهمة للكاتب، لا يستطيع تجاوزها كما لو انه من كتاب العصر العباسي مثلا، كما ان الأدب، والرواية تحديدا، عنصر اساس في ثقافة المخرج وجوهر عمله، وعدم الالمام بما يحدث لها وفيها خسارة لا يمكن ان تعوض.
الآن، بعد خمس روايات، وسادسة على الطريق، وكتاب الأمواج البرية، لم اعد مضطرا للدفاع عن نفسي كشاعر كتب الرواية، لأن الحذر القديم، لم يعد موجودا بحيث لم تجد رواياتي اللاحقة نفسها مضطرة لدفع الثمن الذي دفعته براري الحمى ولو مؤقتا كرواية اولى, لكن ما يسعدني انني لم ازل اكتب كل رواية جديدة كما لو انها روايتي الأولى والأخيرة,.
|
|
|
|
|