| الثقافية
في مجموعته الشعرية الثالثة (بأجنحتها تدق أجراس النافذة) يحرر الشاعر (علي الدميني) دهشة المعنى الى الكلمة محولا شفافية الصمت والحواس والرموز إلى (كلام يتكلم) وفق تعبيرية (مارتن هايدجر) في كتابه (انشاد المنادى).
فكيف تكلم الكلام في المجموعة التي تناغمت مع عناوينها الخمسة (بهو الأصدقاء: بهو الجداريات/ بهو النحت/ ممرات/ بهو الغروب)؟
لقد تغاصنت في المجموعة محاور عديدة كالوطن والحب واللغة والحلم والحياة والموت، ساهمت في بناء فنياتها المخيلة الشعرية التي أنشأت علائق لا مألوفة بين عناصر المعاش وعناصر الحلم.
اعتمدت هذه العلائق المنتَجة والمنتِجة على حركية قصيدية تناغم فيها الصوفي مع السريالي مع الأسطوري، لينعزف من خلال مجازات واشارات كزمن يمحو نفسه ليكتب نفسه، يخدعك بحيزه (الفضاء المكتوب) ليشدك الى مناورة (فضائه اللامكتوب) هناك حيث البياض يشكل مسافة مكانية تقبل احتمالات القراءة وايقاعات ما يقوله الكلام عبر ظلاله وبصيرته وأناه الأخرى.
(هكذا أرتدي ورق الشك في لغتي، من فصولك، ان شطّ بي
القلب في لغوه، أو أتاه اليقين, ص28 .
يتراكض شك اللغة إلى شكه متغيراً مع فصول الأبعاد النصية المتنوعة بين اليومي كالقصائد: (عولمة/ الشاي/ الأصدقاء/ بلوزة/ المعاش:,,) وبين الخرافي وتمثله القصائد: (الشباك/ عبور/ مسافة/,,) وبين الأسطوري وتمثله: (رغبة/ صبايا من عاج/ بلاد) وبين الموروث الديني والشعري مثل القصائد: (فوضى الكلام/ صلاة الغائب/ وجه,,).
اتسمت القصائد بلحظة شعرية متشعبة، اختزلت ميكانيزمات السرد الوامض، وحولتها الى صورة خاطفة، كما اختزنت في مواضع اخرى مكونات الشعرية لتجعل من القصيدة صورة كلية.
سنقرأ المجموعة وفق هذه الايقاعات المزدوجة:
(1) الصورة الخاطفة:
وتتشكل هذه الصورة من جزئيات الواقعي والحلمي، حيث تُكون هذه الجزئيات حيزا زمكانيا لحركة رؤية ورؤيا ومواقف الشاعر من الحياة ولغتها، من أرق الذات الشاعرة ولهجاته, أما الكيفية الفنية التي تجلت بها هذه الصورة فكانت ناتج انقسامات ايقاعية، أهمها:
1) ايقاع السرد.
2) ايقاع الومض.
إيقاع السرد:
سنمثل لهذا الايقاع بقصيدة (شَبَه/ ص95/ بهو الغروب) المبنية على سرد المقول الشعري بهيئة ضمير قصيدي جمع في تراكيبه ضمير المخاطب إلى ضمير المتكلم، لينقل بعد ذلك ديناميته من ذاتيتها إلى عالمها الموضوعي بتفاصيله اليومية وهمومه الكبرى (المراثي/ الجريدة/ الشاشة اللامعة/ دم الشهيد/ الحبر):
ويا شبهي قلت هذا الهواء له عدةٌ،
والهوى إمّعه
فهب لي جناحاً أطرز فيه المراثي،
ودورق حبرٍ
أرتق منه ثقوب الجريدة،
والشاشة اللامعه.
ويا شبهي قلت خلّ لنا مزقة من جنون الشهيدِ،
إذا لم نُرد أن نموت معه.
يبدأ إيقاع النصر بالنداء مدلا على حركة الصوت الراغبة بمسافة لا تحتجز الذات عن الذات عن الواقع المتراوح بين دم تكتبه الجريدة وتنقله الأجهزة المرئية المعاصرة، بل تمتد هذه المسافة الصوتية خارجة من حدثها الشعري إلى ما فوقه وذلك من خلال الاشارات المتراكبة في شبكة الدلالات (جناحا/ المراثي/ دورق حبر) الممتدة حتى الحركة الثانية للنداء المزدحمة في ذروة القول (جنون الشهيد) الظاهرة كحامل لمسافة الصوت الاولى (جناحا/ المراثي) والمحمولة على اعماق الحواس المتفاعلة مع (الوطن) عبر رموز (الموت) و(الكتابة).
وبذلك نتراءى أن مسافة الصوت الأولى تمددت بعد مقول القول لتكون صدى له سيرتطم مع مسافة الصوت الثانية متحدا مع لحظة التحفيز الذاتي المنفصلة في نهاية القصيدة عن ضميرها المخاطب بحيث تشمل في النهاية القارئ الانسان العربي الذي تكشف له ايقاعات القصيدة عن الايقاع المعاش.
إيقاع الومض:
جمل الدميني الشعرية شفافة، ورغم شفافيتها إلا أنها لا تقف على معنى, لماذا؟ بسبب شدة انزلاقها من جسد صورها الى روحها المستعمقة في عدة اتجاهات للانزياح المشتبك مع بنية النصوص العمقي.
ها أنا نازحٌ ووحيد
يغتوى بعضي التجديدُ
ذهبٌ ملء كفّي
وفي القلب نام الحديدُ
أتسلى بوأد معناىَ
فيشتاقني الموردُ
قصيدة (أعناق الجزيرة ص44).
نزوح يفعل دلالته بين المتضادين (الحياة/ الموت) جاعلا من (الأنا) هامشا ومحورا للكتابة في ذات الوقت, حيث تنتقل حلمية المزوح بين معدنين (الذهب/ الحديد) منصهرة عبر رموزهما إلى ألوان الوحدة المتجولة مع ايقاع الانصهار الذهبي كأثر يُضمر (المستقبل)، والأسود كأثر يُضمر الوجدانات المتأثرة بالحاضر والنازفة من بؤرة التوتر (في القلب نام الحديد), ولا يتخذ فعل (نام) بُعده المقصود في هذه الجملة، لأنه يُخفي فعله النقي (اللا نوم) الذي يوازي في مدلوليته رمز البؤرة (القلب) مثلما يوازي آثار الموت المخادع المجسد ب(وأد المعنى) ثم حالة الحياة المنبثة منه بهيئة نبضات (يشتاقني الموؤد) ولا تثبت حركة الوأد واللاوأد في مدارها لأنها تدور حول متواليات العناصر (الذهب/ الحديد القلب) لتكتب ضمن وحدة الأنا الشاعرة بشكل انزياح متبدل (يغتوى بعضي التجديد), وتتوامض ايقاعات الرؤيا مع (الذات الأخرى) المرموز إليها بمكونات الطبيعة (النخيل/ النهر/ المطر/ ,,,) وبمكونات تجريدية ك(الحمى/ الرحيل/ القرين) وبرموز أسطورية عشتار/ أنانا) وبرموز أخرى ك(ليلى), تتلاقى هذه المكونات في النصوص معلنة عن أنثى تتفرع لى (الأرض) و(المخيلة) متسربة كنسيج صوري ينسدل بين قصيدة وأخرى على (نافذة) العنوان: (بأجنحتها تدق أجراس النافذة) ثم ترتفع عن النافذة لتُنشىء ايقاعاتها الداخلية والخارجية كعلائق تحزم (تاء التأنيث) ب(الوجود) الذي يرفّ بين (الأجنحة) وبين (تدق), ضمن هذا المجال التركيبي تتصاعد شعرية القصائد مجتازة مجازها في قصيدة (فوضى الكلام) وعارجة به نحو مقامات زمنية متحولة في قصيدة (بلاد/ التباس المجاز/ أعناق الجزيرة/ أقداح الظل/ لغة/ دعاء/ خذوا الحكمة/ صلاة الغائب/ صورة جانبية):
/اذا أخبئ في دنان الوقت من أطيافها الأولى،
وماذا أستعير لها من الأوصاف ان عز المجازُ
وبلل النسيانُ مرقدها، وهرولت المعاني؟/ ص(96).
استفهام تتوامض فيه حركة الرفيف والمجاز والمعاني لتعبر من نافذة (أنا) الشاعر إلى (الذاكرة الجمعية) التي انطوت فيها دائرة الرموز المستغرقة في (القدس) ك(البندقية والحضارة العربية والعرض المعادل للارض و,,,), ففي هذا الحيز العلائقي يتكثف الرمز مستعيدا زمنيته الماضية إلى لحظته الحاضرة وذلك عن طريق (دنان الوقت) و(الأطياف الأولى) و(النسيان), ومن ايقاعية الوقت والأطياف واللاذاكرة تنمو في القصائد تراكمات أثرية تطفو على (ظلال الصور المندغمة في هذا الحيز:
وإما عرّشت في كفي الأكواب
تدلى ظلها ثملا على الأوراق،
والشرفات، والنعناع، والكرسي، والأقلام.
فأضحك:
أيها العبث الأصيلُ,/ ص(54).
يتحول ايقاع الرؤيا الى ومض متسائل يتمتع بشبهات جواب في الصور المنفتحة على ظلالها المنكمشة كحواس للحلم والعواطف والنهارات النفسية المتومضة بين ليل الذاكرة واعتامات الراهن.
2) الصورة الكلية:
هذه الصورة تستغرق الصورة الخاطفة، وتفترق عنها كونها أكثر تجريدية من نواح عديدة كالتعامل مع المفردة والجملة والصورة وصياغاتها المختلفة للحلم والجرح والمخيلة والقلق الشعري الذي يسكن النصوص عبر ايقاعين:
1) ايقاع الحذف.
2) ايقاع التشكيل.
إيقاع الحذف:
ويتجسد هذا الايقاع الماحي بمسافة تأملية تبحث في الميتائيات: الغائب من الأنا والغائب من اللغة والغائب من المجهول، وتنكتب هذه الغيابات بايقاع يفلسف اللحظة والمكان بكل ابعادهما الطبيعية والنفسية واللغوية والرؤيوية, وثيمة هذا الايقاع تكمن في تلك الدرامية المنجزة عبر تلاطم (الآن) مع (الماضي) واستبداله بمعادلة أخرى (الآن والمستقبل), كما في قصيدة (ذاكرة من بهو الغروب) حيث تتجرد (أنا) الشاعر المباغتة في جملة الاشراق الموتّرة للايقاعين: الكاتب والحاذف (حين أنظفها مني), هذه الجملة المحورية نهضت بالنص من فجوته التي ضجّت ل(الأنا الهُلامية) وبزمنيتها اللامحدودة التي تصر على ايقاعها الحاذف في مقطع آخر، هدفه كامن في كتابة ما فوق الحذف:
غالبا ما أصل متأخراً
متأبطاً أوراقي الممزقة
وفي معيتي دائما مدية رهيفة
ازيل بها أخطاء من تعجلوا قبلي, /ص61/ بهو النحت).
رغم البساطة الجميلة في هذا النص، إلا انه يتمتع بشعرية عميقة ارتكزت على امكانية استبدال (المدية) ب(اللغة) استبدالا خفيا لا يُظهره غير الايقاع الحاذف وهو يرن في الألفاظ المناورة على (الزمن): (متأخراً/ مَن تعجلوا قبلي), أما المجال الدينامي لهذه التعبيرية فنلمحه من خلال فاعلية (أزيل) المسبوقة بأثر (الأوراق): (الممزقة), ويتسم هذا الايقاع بايقاع يكتب وصوله من خلال اللاوصول (غالبا ما أصل متأخراً) بما في ذلك من حالة مستمرة في المجهول وفي الشعر معا.
إيقاع التشكيل:
تقاطعت البنية المحتملة مع ميكانيزمات التغيير التي تعبر آثارها متجهة الى تكوينية تمزج الحلمي بالسريالي منتجة لوحة في لوحة لا تعرف الأُطُرَ ولا تجهل كيفية العبور بين الرموز وأنفاق الظلال والاحتدام بألوان تتشكل مع معزوفة البنية الباطنية للصور:
في البحيرة كان المساء يبلل أطرافه بالعصافير
كان المطر
في البحيرة كانت قباب المدينة تحني جدائلها في الشجر
في البحيرة دست مفاتنها في ثياب جنوبي
وكنت أغضّ جفوني
وكانت تطيل النظر:
في الميادينِ
في الشرفات القصية
في عابرٍ
حمل الأرض فوق جناحيه حتى إذا ما أتينا إلى
قفزةٍ
رطبةٍ
أوثق الماء في ساعديّ
وأدخلها في الحجر,/ ص46/ بهو الجداريات).
بما ان المفردة الابداعية تُنشىء معانيها وأحلامها تبعا لنسقها التركيبي في النصر، فإن فنية هذا المشهد الشعري تلمع من خلال الايقاع التشكيلي اللامتوقع الذي يؤلف من العناصر العادية انسجاما غير مألوف بين وحدات لا تلتقي إلا عبر القصيد, فالمساء يتحول الى شخص يمارس فعلَ الدهشة (يبلل أطرافه بالعصافير) والبحيرة بمكونها المائي المتحرك مع الزمن الرمزي (المساء) تظهر كمفصل أسي فيه تتمرأى عناصر الوجود الأخرى (التراب = المدينة/ الميادين/ الشرفات/ الأرض) و(الهواء = الأجنحة/ القفزة الركبة) و(النار = الجنون) كدليل على حركة الاحتراق المشتركة مع المخيلة في تكوين (الأنا) من عناصر الوجود ومن عناصر القصيدة التي تخضر بين مفاعيل الحدس (الشجر/ المطر/ الماء) وذلك عن طريق تشعبه في لحظة ربيع وخصب تتشكل على الدوام بهيئة انكشاف، مكانيتها متغيرة: (البحيرة) وبهيئة احتجاب، مكانيتها ذات بُعد غَورى (الحجر), من المكانيتين تنساب حركة الايقاع متلونة بالخرافة وموائمة بياضها النصي بسوادها الذي يستقر في ايقاعية حرف (الراء) الذي يمنح الصور انفتاحا آخر على الرنين بين حواس الماء (المطر) وحواس اللون (الشجر) وحواس الغياب (الحجر)، اضافة إلى امتزاج هذا الرنين كحاسة سمعية مع حاسة البصر (النظر) ومع حاسة الحضور من البياض (المخيلة والحدس) المتحركَين مع ايحاءات البحيرة كايقاع تشكيلي باطني حزم الايقاع الظاهر للنص.
بذلك نتبين كيف انبثقت الجمالية الشعرية في مجموعة (بأجنحتها تدق أجراس النافذة) الحاملة لتطور اللحظة الابداعية لشاعر (بياض الأزمنة) و(رياح المواقع): (علي الدميني) القابض على الشفيف الغامض وعلى دهشة الايقاع الجوفي للنص.
* علي الدميني/ بأجنحتها تدق أجراس النافذة/ مجموعة صادرة عن دار الكنوز الأدبية/ ط1/ 1999م عدد الصفحات (104).
|
|
|
|
|