| وَرّاق الجزيرة
من خلال البحث في الوثائق الشرعية لمحت أقلاما لعلماء وقضاة لم اعثر لهم في كتب التاريخ والتراجم القديمة والحديثة على اخبار او تراجم تبرزهم وتلفت الأنظار إليهم وإن ورد لبعضهم فإنه لا يتجاوز ذكر اسمائهم وبعض أعمالهم دون الاشارة الى مكانتهم العلمية وسيرهم الذاتية وهذا هو الحال في أقاليم نجد حيث لم تبدأ العناية بتراجم العلماء بها إلا في فترة متأخرة غابت عنا بأسبابها معلومات مهمة عن حياة العلماء وآثارهم العلمية والفكرية.
وكان من أقدم الكتب التي ترجمت لعلماء من نجد وألفه واحد من أهلها هو كتاب (السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة) للشيخ محمد بن عبدالله بن حميد (1236 1295ه) رحمة الله والذي تأثر عند تأليفه لهذا الكتاب في كتب طبقات العلماء الحنابلة في الشام والحجاز، وهذا الكتاب ألفه ابن حميد خلال اقامته في مكة المكرمة وأثناء سفراته العلمية، ويحتوي في تراجمه على نسبة لا بأس بها من العلماء النجديين، بينما كانت الأغلبية لعلماء من الشام والحجاز والعراق ومصر.
ثم تتابعت المؤلفات من بعده في هذا الموضوع 1 والذي كان بعضها يعتمد على بعض في المعلومات والمصادر عند قدم المترجم له، وأغلب الذين ترجموا للعلماء في نجد يعتمد في شكل واضح على وثائق شرعية وكتب مخطوطة مختلفة المواضيع، بعضها بأقلام من يريد الترجمة لهم، فتأتي مصادره قوية الحجة والبنية لا يسابقه بها مسابق ولا يغالطه عليها مغالط هذا إذا كان الحال لعلماء لهم شهرة، فكيف إذا لم يكونوا معروفين وفي كتب التراجم مفقودين؟ وقد اعتمد كثيرا ممن الفوا في تراجم العلماء النجديين في وقتنا الحاضر على كتب التاريخ التي تعتبر المصادر الأساسية للتراجم بعد آثار العلماء العلمية من كتب ووثائق ومراسلات شخصية، والتي تحدد من خلالها مستويات العلماء العلمية والعملية,,ومما يجدر التنبيه عليه انه ليس كل من كتب وثيقة شرعية او نقل مسألة فقهية في الماضي يعتبر من درجة العلماء والقضاة حيث هناك فئة من الناس قديما اقتصر علمهم وعملهم على الكتابة والنقل، وهي مهنة عرفت منذ القدم (بالورّاقة والورّاقين) وهذه المهنة كانت مصدرا لدخل الكثير ممن برع في الكتابة في الماضي، واشتهرت بغداد في العصر العباسي بكثرة الوراقين الذين نسخوا مئات الآلاف من الكتب المختلفة بأقلامهم، وكانت اسواقهم في ذلك العصر بمثابة المطابع العربية في لبنان ومصر خلال القرن الرابع عشر الهجري.
وكان لأئمة المساجد وطلبة العلم في نجد أدوار واضحة في كتابة ونسخ الكتب العلمية والوثائق الشرعية مقابل مبالغ مالية او عينات غذائية من تمر ونحوه، وغالبيتهم كانوا يكتبون وينسخون للناس طلبا للثواب والأجر من الله,,وبعضهم امتهن هذه المهة بل وينادي عليها في الأسواق 2 ليكتشف من خلالها ما تحويه الوثائق والكتب، لدى عامة الناس من فوائد في التاريخ والأنساب، فنجده لا يشترط مقابل نسخه ونقله سوى الاحتفاظ بنظير ما يجده يستحق النقل وفي حالة الإطالة وضيق الوقت يقتبس اهم ما يراه من تواريخ وأسماء وأنساب 3 في ورقات اعدها لهذا الغرض, وعندما يعتمد على الوثائق في تراجم العلماء والكتاب في نجد هناك عدد من الأمور التي يواجهها الباحث في الوثائق وهي:
ا مسألة التعريف بكاتب الوثيقة هل هو عالم او قاضي او مجرد كاتب فقط؟ فالأول والثاني متقاربان من الناحية الفقهية لا يفرق بينهما سوى الأهلية للقضاء والقبول للمنصب، واما الثالث فيتميز عن العوام بإلمامه بالقراءة والكتابة وحسن الخط، الذي فاق به كثيرا من العلماء والقضاة، وهو ما جعل بعضهم يتخذه كاتبا يملي عليه احكامه وما يقضي به فتكون لهذا الكاتب شهرة تتبع شهرة من يكتب له او يملي عليه.
ب هناك كتاب لهم طابع خاص ويحتلون عملاً حساساً لا يقل أهمية عن السابقين بل يزيد وهم كتاب الأمراء والحكام، حيث ان أعمالهم يشوبها الحذر، والحيطة لما يملى عليهم من أسرار وأمور خطيرة لا ينبغي ان يطلع عليها أحد.
ج يصعب على الباحث والقارىء تحديد المستوى العلمي والعملي للكاتب او المملي لما يواجه من أساليب مُبهمة في طرق الكتابة خاصة في حالة الوثائق الشرعية وتعود عند ذلك لأسباب رئيسية هي:
1 قصر نص الوثيقة وبساطة الكلمات بها, 2 الاعتماد على اسلوب عامي في تحرير مسألة شرعية, 3 عدم ذكر الأسباب والدواعي للمسألة التي اقتضى لأجلها التحرير, 4 اختصار الجانب الفقهي في القضايا الشرعية, 5 عدم الاستشهاد في الآيات والأحاديث, 6 عدم التأكيد على عدالة الشهود وصلاحهم للشهادة, 7 عدم التعريف بمُصدِر الحكم ومنصبه.
وهذه الأسباب مما يعيق تحديد المستويات العلمية للعلماء والكتاب في الوثائق النجدية، وعند مقارنتها بالوثائق التي كتبت في الأحساء يرى فرق كبير وملفت في طريقة الإملاء وأسلوب الكتابة حيث تأتي الاخيرة بأساليب التعريف والتحديد المكملة للمقاصد المطلوبة، وهي المفقودة في الوثائق النجدية.
وفي مثل هذه الحالات التي مرت لا ينبغي ان توضع تراجم الكتاب وأئمة المساجد وغيرهم مع تراجم العلماء والقضاة، لأن ليس كل من كتب وثيقة شرعية وتولى إمامة مسجد يعتبر من طبقة العلماء المشهود لهم بعلمهم والقضاة المعمول بحكمهم، وإن كانت الأفضلية، والغالبية لهذه الأعمال (الكتابة وإمامة المسجد) في الماضي للعلماء والقضاة وطلبة العلم.
بل المطلوب ممن خاض في مجال وضع التراجم تحديد المستويات وإنزال المترجم لهم بمنازلهم التي يستحقونها ولا يخلط بينهم كما هو مشاهد اليوم في كتب التراجم والسير الشخصية,,ومما يطالب التنبيه عليه والإشارة اليه ان كل جملة وكلمة مبالغ فيها عند تراجم العلماء وكذلك الشعراء والأدباء من عبارات التفخيم والتمجيد والإجلال التي لم ترد في مصادر معاصرة للمترجم لهم، تعتبر من الخيال والاختلاق الكاذب الناتج عن الاسراف الفكري وهذا ما تعانيه كتب التراجم في هذا العصر حيث نجد من يترجم لعالم او أديب مضى على موته قرون يبالغ في الكلام والثناء عليه كأنه معاصر له او واقف على أدلة يبني عليها أقواله.
1 من أهم مراجع ومصادر التراجم الحديثة للعلماء النجديين هي:
مشاهير علماء نجد وغيرهم، عبدالرحمن آل الشيخ.
روضة الناظرين عن مآثر علماء نجد وحوادث السنين، محمد القاضي.
علماء نجد خلال ثمانية قرون، عبدالله البسام.
علماء آل سليم وتلامذتهم وعلماء القصيم، صالح العمري.
تراجم لمتأخري الحنابلة، سليمان بن حمدان.
وتعتبر هذه المؤلفات مرجعا وافيا لمن أراد البحث عن بعض العلماء في نجد لان مؤلفيها من المعاصين لكثير من العلماء الكبار خلال القرن الرابع عشر الهجري.
2 كان أهل نجد يحرصون كل الحرص على نقل ونسخ وثائقهم الشرعية إذا صادف وجود كاتب في البلد ممن يعترف بخطه لدى العلماء وذلك حرصا منهم على الحفاظ عليها من التلف، ولسهولة التداول والسفر في الصورة المنقولة بعد مصادقة قاضي البلد او الحاكم عليها في حال الأهمية.
3 كانت أهم الكتب التي يكثر نقلها ونسخها في نجد كتب التاريخ والانساب لوجود الرغبة لكثير من طبقات المجتمع لاقتنائها.
|
|
|
|
|