| مقـالات
(2) ما أجهله لا أحتسبه على اليقين
عنوان المقال الثاني في الكتاب، وهذا قولٌ الحق فيه ناطق، فالمرء لا يتيقن إلا مما يعلم علماً ثابتاً لامرية فيه، فماذا يجهل الشيخ عبدالعزيز، وماذا يريد أن يعلم.
يبدأ قوله بالحيرة والغموض، وهما أمران رافقاه طوال رحلة الكتاب، حيرته هذه المرة تجاه خواطره وذكرياته، ومحاولتهن الخروج إلى الهواء الطلق بعد أن ضقن ذرعا بحنان صدره، وهذا ما برهنه القول فيما بعد، أما فيما قبل فيظنهن عابرات سبيل، لم يمكثن طويلاً داخل نفسه.
يلعب الشيخ عبدالعزيز برأسه ورؤوسنا في المقطع الثاني، ويأتي بالعماد الثالث في أسلوبه، وهو أسلوب التساؤل الذي أغرم به مدخلا لحديثه أو مخرجا منه، هنا يصعد وينزل، ونحن معه، فهو يجسد التساؤلات مثل ابن آدم تماما، لأنها شمرت عن ساعديها، عندما التجأ إليها، وبدلا من أن تعطيه جواباً يريحه، أقامت سداً من الردود متصفاً بالفوضى، فحجب هذا عنه ما أمّل في معرفته، ولا يعرف بيداء نفسه حتى يجد طريقه إلى اختراق هذا السد، ثم يلجأ إلى "لو"، و "لو" حبل معلق في الفضاء، لا يسمن ولا يغني من جوع، ونفسه لو أبصرها لعرفها، ولكنه لا يجد إلى ذلك طريقاً، إلا طريق النوم والحلم، وهذا لا يأتي بالحل، لأن الحلم يحتاج إلى مفسر، فيكتشف أن غموض الحلم، والاختلاف في تفسيره هو سمة كل حياته في اليقظة، غموض في غموض.
ويأتي النصح من خارج نفسه بأن يقتنع بمظاهر الحياة، ولا يحاول الغوص عمقاً، فالغائب غائب، ثم يلمس هذا الناصح العرق الحساس عند أبي عبدالمحسن، فيذكّره ببعيره الذي هو متعلق به، ويطلب منه أن يكون مثله في قطع الطريق، وقد عرف هذا الناصح كيف ينجح نصحه، فلا شيء يطرب أبا عبدالمحسن إلا الصحراء ببعيرها وجوادها ودوابها.
وما دام قد ذكره بالصحراء فليس من السهل عليه أن يتركها، ولهذا أعقب يقول عنها، وعن نفسه، وعما يدور فيها، ويجول، فالحياة لا تلد إلا المعاناة في "بيداء عاصفة الهموم والفنى", والأوجاع والتوجع ظلان للهموم والشكوى.
والسنون، وتحديدها، هاجس لا يهمله، وهو الآن يذكر الثمانين ويحددها لمجموع ما سيعود إليه من ذكريات، وأحاسيس، ليقرأ ما كتب في سفرها، وكما هو متوقع من طريقة الشيخ في مثل هذا لم يجد في سفرها شيئاً، وليته يغرف لنا من هذا العدم، ويكثر، فما لا يراه نحن نراه، وما لا يعدُّه نحن نعدّه، ولكنه لا يصبر عن فتح الباب إذا طرقت من الداخل الطارقات المسجونات، ثم يجذبه التساؤل، وكأن فيه له سحراً، ويأتي التساؤل في هذه الحال حاملاً الملامة والعتاب، لأن المتوقع أن هذا السفر حافظ للأمانة، فلماذا دار الشريط دون أن يسجل، وهل حقيقة أنه دار دون أن يسجل، أو أن الصوت ترك خافتاً، فلا تسمعه إلا أذن لاقطة، هي أذن صاحبه، أما نحن فيطوح بنا يميناً ويساراً, ويوغل أبو عبدالمحسن في التجسيد ويجعل السفر يقف مناضلاً، ومجادلاً، فينكر معرفته للشيخ، وينكر أن بينه وبينه أنسجاما واتفاقا، ويتلو ذلك اتهام بأن ذكريات الشيخ ما هي إلا هوامش اختارت التخلي عنه، وهو نفسه لا يرى أنها تصلح أن يطلع عليها أبناؤه، وما دامت ليست من النوع الخالد، فخير لها الوأد، هنا عجز عن أن يبعد عن روح التواضع التي كلما أراد أن يدخل حقل فخر تركه إلى صعيد ناء ليزوي نفسه فيه، ثم يعطف عليه سفره ويحِنّ، ويعزيه بأنه ليس الوحيد في هذا، بل الناس كلهم لهم ذكريات لا يريدون أن يعلمها إلا خالقهم الذي يؤملون أن يضفي عليهم ستره عما حدث قبل بلوغ الرشد، ولعل بلوغ الرشد في رأيه هو سن الثمانين حيث لا يناصره من شطحات الحياة إلا العجز وما أقدر العجز على الخذلان!
ثم يوغل في الرمز عندما يتحدث عن الخفيات التي تعضه، وتوجعه بطعناتها، ومع هذا يتقبل ذلك فلا يضجر، ولكن هذا الرمز يعطينا المجال لأن نتلمس ما وراءه بحرية قد لا تتحملها الألفاظ أو الجمل التي أوردها، ومرة أخرى تبرز الحيرة فيشكو منها، ومن عجزه عن التخلص منها، لعل قدمه تجد الطريق الذي تسلكه بدلا من الوقوف في مفترق الطرق مشدوها، ولا يشترط أن يصل إلى الهدف ويكفيه أن يسير نحوه، حتى لو سقط من الإعياء دونه، فالنية كافية، وليس السقوط من الإعياء هو العائق الوحيد، فهناك قطاع الطرق، وهم قطاع طرق محدثون، ليسوا كقطاع الطرق السابقين، هؤلاء المحدثون هم السبب في عثرة الإنسان الساذج، العثرة الأولى، التي تجر إلى عثرات، وهي ما يود المرء أن يتداركه الله منها، ويستر عليه ما يقع فيه من أدرانها.
وتطل الهموم مرة أخرى برأسها، ومعها التساؤلات، التي يرتعب من النطق بها أو كتابتها، وهي تساؤلات يراها رهيبة، يخشى وسوستها، لهذا يلجأ إلى الله أن يحميه من تعرضها له، حتى لا يضطر للاستسلام لها، أما من جانبه فهو يحاول أن لا تقف في طريقه حتى الممات.
ومن الهموم والتساؤلات إلى الحيرة والجهل، وطلب النور ليخرج من هذه الظلمات بعلم العالم، بإذن الله، ووعظ الواعظ، ويجسد الجهل، كعادته في طلب التأثير، فتساعده الاستعارة على تصويره رجلاً يغلق عنه أبواب المعرفة، ويرمي مفاتيحها إلى حيث لا يعلم، إلى المجهول، تعبير يألفه، ولايفتأ ينطقه.
ثم يتبين أن واعظ المسجد وفق أكثر مما وفقنا، فاكتشف أن الكاتب خائف، وتبين أنه قد تدبر الكون، فرأى أن كل من على هذه الأرض آمن إلانسان، قد يكون لأن الإنسان عميق الفكر، وبقية خلق الله محمية بضحالة فكرها، ووصية الله للإنسان أن يعتني به.
وشعر أنه أبطأ عن التلفظ بالغموض، والغموض كلمة أضحت من لوازم صدور هذا الكتاب، فجاء بها في المقطع التالي على أحد الألسنة، ولعله لسان واعظ المسجد، وأعطاه مفتاحاً لطريق يسلكها توازي الطريق الذي سوف يسلكه معطيه المفتاح، على أن يلتقيا في نهاية الطريق، فكرة رمزية عميقة، تحتاج إلى ثياب غوص كفيئة، ليصل القارئ إلى بُعد مراميها.
ويخدع الشيخ عبدالعزيز محدثه بأنه مستغرب من حرصه على اكتشاف غموض المجهول، والحقيقة أنه هو الحريص، لأنه الواقع في الغموض، والطالب لكشفه، ولهذا أعطى الحقائق التي وصل إليها عن هذا الكون، ومظاهر الحيرة فيه، نتيجة الغموض، ثم تنكسر القوة، وتفتُر حدة النقاش، ويلجأ الشيخ عبدالعزيز إلى ركنه الدافئ المعتاد في الصحراء في "عالم الخيام والبعير والبداوة"، مدرسته التي يرفع اسمها على سارية عالية، ترفرف بالفخر، وتباهي شرفاً ورفعة، ثم يتواضع ويصف نفسه على لسان مخاطبة بالجهل، لهذه النتيجة.
ويقفز من أعماق النفس، ومن كهوف الذاكرة، صدى تهمة الحضر للبدو، في تأخر مجتمعهم، وازدرائهم لمحيط الصحراء:
نظرت إليه وهو يوبخني، ويزدري خيمتي، وبعيري، وبداوتي فيهتز كيان الشيخ المكدود، ويذكر مزدريه بأن الخيمة والبعير والبداوة هي الأساس الذي انطلق من منصته الصاروخ إلى القمر، لو فكر الإنسان وتدبر لوصل إلى الحقيقة، وكان هذا فراق مؤبد بين متجادلين رضي كل منهما بما اختار، ولكن شيخنا ذهب بملء يديه من حكمة تبجيل التجربة، وعصارة السنين، ونور الحق.
|
|
|
|
|