| شرفات
أبناء يتامى وأعمام جشعون يسلبون ارثهم والام وردة التغلبية لا حول لها ولا طول قد ذبلت من الحزن على زوجها الراحل، والى جوارها يقف الصبي طرفة يتأمل دموع الام والقسوة في وجوه الأعمام,, ثم يتحرك اللسان مدافعاً كأنه سيف الحق.
ما تنظرون بحق وردة فيكم صغر البنون، ورهط وردة غيب قد يبعث الأمر العظيم صغيره حتى تظل له الدماء تصبب |
انطلق اللسان جريئا من حيث لا يدري وتزين رأس اليتيم فجأة بتاج من الكبرياء والانفة والتمرد, آمن طرفة بلسانه وحريته واحلامه الشعرية وحين رضي في فقره وعنائه ان يرعى ابل معبد أخيه لابيه احس بنغم القوافي ينسرب من الروح، فانشغل اكثر بخيالاته عن السهر على الابل وتركها ترعى بلا رقيب وجاء الاخ معبد حانقا متهكما: (كأنك تظن انها ان اخذت ردها عليك شعرك)! فأثار التقريع الساخر حفيظة طرفة فرد قائلا: (الله لا اخرج فيها ابدا حتى تعلم ان شعري سيردها ان اخذت),كانه يقول لاخيه عليك ان تؤمن بأنني شاعر يسكنه الكبرياء والتمرد، لا أعرف للابل موردا ولا منهلا ,, وتضيع الابل ويضرب الاخ اكف الندم والحسرة كما يقول الرواة، واذا بطرفة يغني وينسج ابياتا من شعر متسغيثا فيها بالملك عمرو بن هند ، الذي يعيد الابل الى اصحابها ليدرك الجميع ان سلاح الشعر لا يصدأ أبداً,ان طرفة لا يعنيه جمع المال كغيره من سراة القبيلة، فالمال الى نفاد والحياة ايضا الى نفاد ولا نجاة من الموت الا ان يستمتع بما يتاح له من متع ولذات:
ألا أيهذا اللائمي احضر الوغي وان أشهد اللذات هل انت مخلدى؟ فإن كنت لا تستطيع دفع منيتي فدعني ابادرها بما ملكت يدي كريم يروّي نفسه في حياته ستعلم ان متنا غدا أينا الصدى! أرى قبر نحام بخيل بما له كقبر غوي في البطالة مفسد ارى الموت يعتام الكرام ويصطفى عقيلة مال الفاحش المتشدد |
يبسط طرفة فلسفته في الحياة اذ يتنازعه شعور جارف بحب الحياة وملذاتها وشعور اعمق بدنو الاجل فما المرء الا كالدابة المقيدة في حبل ويمسك صاحبها بطرف الحبل فلا تنفلت منه ابداً:
ارى العيش كنزا ناقصا كل ليلة وما تنقص الايام والدهر ينفد لعمرك ان الموت مااخطأ الفتى كالطول المرخى وثنياه باليد |
وفي ختام معلقته يعاود طرفة سيرة الموت المقبض الذي يتخلل اغوار النفس ويبصره في شفافية يغيب عن الآخرين ان يفطنوا اليها:
أرى الموت اعداد النفوس ولا ارى بعيدا غدا ما اقرب اليوم من غد |
الموت,, الموت!! هذا شاعر لا يتكلم الا عن الموت,, ورغم انه حقيقة ترهبها الافئدة وتلوك الألسنة سيرتها، الا اننا لا نشعر بثقل تلك الحقيقة على النفس الا عندما يغنيها طرفة وينشدها في هذا النشيد الجنائزي الرائع.
لامفر يا طرفة من الموت,, لا مفر من قدر الله,, انه يتوق دئما الى الهجرة والرحيل عن الوطن، يضرب في الفيافي والبقاع، ويأمن حينا من الدهر في بلاط عمرو بن هند,, وبعد مرارة الغربة يعود الى الوطن يجرع العذاب وينفق آخر درهم في حوزته، يجول في حنايا الاماكن وبين الوجود تارة يبدو فكها طربا واخرى يبدو حزينا وحيداً كالجمل الاجرب.
اذا القوم قالوا: من فتى؟ خلت انني عنيت, فلم اكسل ولم اتبلد ولست بحلال التلاع مخافة ولكن من يسترفد القوم ارفد فان تبغني في حلقة القوم تلقني وان تقتنصني في الحوانيت تصطد وان يلتق الحي الجميع تلاقني الى ذروة البيت الشريف المصمد |
وكأن زامر الحي لا يطرب وكأنه لا كرامة لشاعر في وطنه فالاهلون جميعا يلومون طرفة على سرفه وخيلائه ومجونة فلا يعقل بالفتى كريم المحتد ان يغشى حانات الفسق والفجور وان يتبذل حتى يجلب العار لقومه وقبيلته,, رغم هذا لايزال طرفه متأبيا كخيل البراري:
ومازال تشرابي الخمور ولذتي وبيعي وانفاقي طريفي ومتلدى الى ان تحامتني العشيرة كلها وافردت افراد البعير المعبد |
غربة مع النفس وغربة في الاهل والعشيرة وسكر لا يسكر وشراب ولا يطفىء نار التمرد وحيرة الروح فما لهم لا يتركونه وشأنه يعرض صحته للدمار يكشف صدره عاريا لموت قادم، هل يضمن له هؤلاء الخلود ان اقلع عن اللذة والمجون؟ أليس هؤلاء الاهل هم القساة الجشعون الذين استولوا على ارثه يافعا؟ أليس هم السراة وهو الفقير المستهتر بآخر درهم يملكه يتحسر متمنيا وساخرا من اثرياء قومه:
فلو شاء ربي كنت قيس بن خالد ولو شاء ربي كنت عمر بن مرثد فأصبحت ذا مال كثير، وزارني نبنون كرام سادة لمسود |
ويحكي الرواة ان عمر بن مرثد تأثر بأشعار ابن عمه واستدعى اولاده السبعة كي يكتتب كل منهم بعشر من الابل لطرفة, لكن ما بين طرفة وبين اهله لا ينتهي بعشر من الابل، انه احساس بالظلم والجحود وعتاب أليم على الاعمام وأبناء الاعمام.
وظلم ذوي القربى اشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند |
لن ينتهي ما بين طرفة وبين الناس جميعا بعشرة من الابل او بصرة من الذهب يمنحها الملك لشاعر ويشتعل الفؤاد بالكبرياء واللسان بالهجاء,, يهجو طرفة الجميع,, زوج اخته واعمامه بل الملك عمرو بن هند,, يهجو ايضا قابوس بن هند,, كأنه يقول انني شاعر املك سلطانا وإباء لا يحوزه ملك من الملوك,, أملك ثراء في القوافي لا يقدر بعشرات الابل.
ويصل الخبر الى عمرو بن هند بأن طرفة هذا الشاعر الغرير يهجو الملك واخاه كما يهجو الاهل والشعراء,, ولا احد يدرك ان طرفة يستر ضعفه وحزنه وراء قسوة لسانه ويأبي الملك إلا ان يقطع رأس طرفة جزاء هجائه القاسي فما من احد قبله بلغ تلك الجرأة وقلة الاكتراث لاهل زمنه وعامة الناس واعيانهم فتظاهر الملك برضاه عن طرفة واستقدمه واطال اكرامه حتى انس اليه ثم أرسله الى عامله على البحرين واعطاه رسالة مطوية الى هذا الحاكم وقيل ان حاشية عمرو ابن هند اوعزت اليه بقتل المتلمس صديقه حتى لا يهجو الملك ان قتل طرفة.
وبناء على هذه المشورة سافر طرفة والمتلمس الى عامل البحرين وفي يد كل منهما كتابا يطوي مصيرا محتوما,, وفي الطريق مرا بشيخ غريب الاطوار، فيحكي الرواة ان المتلمس سخر منه ووصفه بالحمق، فرد الشيخ عليهما سخرية بسخرية: ولكن احمق مني من يحمل حتفه بيمينه,, وتتنازع المتلمس الهواجس ولانهما شاعران اميان كعادة شعراء الجاهلية يطلب المتلمس من طرفه ان يمنحا الصحيفة لأحد القراء كي يطلعهما على ما فيها ,, انه الغدر يا طرفة! ويرد طرفة: وما تخاف من صحيفة ان كان الذي فيها الذي وعدنا والا رجعنا) ولا يقتنع المتلمس ويحمل صحيفته الى غلام من صبية المكاتب بمجرد ان وصلا الى المدينة فيتفرس الصبي في وجهه سائلا: انت المتلمس قال: نعم فأعاد اليه الغلام الصحيفة محذرا (النجاء فقج امر بقتلك) وابدأ لا يقتنع طرفة وكأنه يسعى الى حتفه بظلفه ويرد على المتلمس:(لئن كان اجترأ عليك ما كان بالذي يجترىء علي) وعندئذ يفر المتلمس الى الشام تاركا صديقه لغروره وعناده الاجوف,, ويمضي بكتابه المطوي الى والي البحرين الذي يقرأ الكتاب وينظر مشفقا: (تعلم ما أمرت به فيك؟)
وباطمئنان يرد طرفة: نعم امرت ان تجيزني وتحسن إلي!)
ويدهش الوالي ويحار بين الشفقة على هذا الشاب المسكين وبين حكم الواجب ويتذكر قرابة تربطه بعشيرة طرفة,, ويتذكر كرم المحتد الذي ينحدر منه الفتى فيقول له انني امرت بأن اقتلك وينصحه ان يهرب من ليلته تلك قبل ان يعلم احد بأمر وصوله,, وابداً لايغتنم طرفة تلك الفرصة الذهبية للنجاة,, انه الموت الذي تخشاه يا طرفة تسعى اليه سعيا حثيثا,, فيرد بعناد وصلف على الوالي: ان اشتدت عليك جائزتي واحببت ان اهرب واجعل لعمرو بن هند على سبيلا كأني اذنبت ذنبا والله لا افعل ابدا وامام تمرده يحبسه الوالي ويطلب من عمرو بن هند واليا آخر يلوث يديه بدماء هذا الشاب,, ويقاس طرفة آلام الوحدة والسجن الى ان يأتي الآخر المنتظر,, الى ان يأتي الوالي القاتل يسأله آخر وصية,, يطلب ان يشرب,, ان يثمل حتى النخاع وساعتها لن يشعر بهم وهم يمزقون شرايين الشاعر,, ويذبح امير التمرد في الشعر العربي وهو ابن ستة وعشرين حجة,, يصيح صيحة نازف مستعطفا عمرو بن هند:
ألا اعتزليني اليوم ياخول او غضي لقد نزلت حدباء محكمة العض أبا منذر افنيت فاستبق بعضنا حنانيك! بعض الشر أهون من بعض |
شريف صالح
|
|
|
|
|