في خضم متغيرات العصر ومعطياته، نال السلوك البشري نصيبه من هذه المتغيرات، وهذا يستوجب تغير القوانين وأساليب تطبيقها حتى يمكن الحد من أثر ذلك النمط في التغيير, وأخذ البعض يبتدع أساليب جديدة في مجانبة الصواب، وغمط حقوق الناس، متذرعاً بالفرق بين معطيات العصر وأساليب تطبيق القوانين، وأخذ المحتال يكتسي بثياب جميلة براقة لبلوغ شأوه، كما قد يكتسي أسبال الثياب إن رأى في ذلك طريقاً لتحقيق مأربه، وقد يعمد البعض إلى تجاوز الحدود المقبولة من أدب التعامل ويشهر سيف لسانه ظناً منه أن ذلك سيبلغه مرامه, فإن كان المتلقي كيِّسا فطنا، فلن تثنيه حدة اللسان عن اظهار الحق وتبنيه، والحق أحق أن يتبع, ومن الحكمة أن يكون الحلم والأناة مع الحزم لدى المتلقي وعدم بخس الآخرين حقوقهم عقاراً لشفاء السليط من هذا الداء العضال, وما من أحد من المتلقين إلا وله جبلة جبل عليها، فإن كان قد جبل على سرعة الانفعال، فعليه أن يدافع عن ذلك ما استطاع فإن أعوزته الحيل، فليكن بلسمه الرجوع بعد الغضب إلى الأناة، وتجاوز ذلك الخطب بأسرع ما يمكن مع عدم تحقيق بغية المحتال, وهذا أمر يحتاج إلى تدريب نفسي غير يسير.
ومن إفرازات عصرنا هذا تبدل بعض المفاهيم عند البعض، واختلاف الموازين، فأصبح الغني دون سواه محل تقدير الرجال واجلالهم، وكأنهم يطبقون قول الشاعر:
إن الغني من الرجال مكرم
وتراه يرجى ما لديه ويرهب
ويبش بالترحيب عند قدومه
ويقام عند سلامه ويقرب
والفقر شين للرجال فإنه
يزري به الشهم الأديب الأنسب
كلنا لاينكر فضل البشاشة وحسن الترحاب، فلا غرو في ذلك فهذه من أخلاق الإسلام، غير أن ربط فعلها بمقدار الغنى في معظم الأحوال مؤشر للمتغيرات العصرية، وليس من الصواب أن يكون المال سيد الموقف في كل موقف، كما قال الشاعر:
إن الدراهم في المواقف كلها
تكسو الرجال مهابة وجلالا
فهي اللسان لمن أراد فصاحة
وهي السلاح لمن أراد قتالا
وترى الغني إذا تحدث كاذباً
قالوا صدقت وما نطقت محالا
وترى الفقير إذا تحدث صادقاً
قالوا كذبت وأبطلوا ما قالا
والتملق ظاهرة من ظواهر العصور القديمة والحديثة إلا أنها تتباين في الأنماط والأساليب تبعاً للمعطيات, والبون شاسع بين محب مادح، وكاره متملق، وذلك ما عناه علي بن أبي طالب رضي الله عنه حيث قال:
لا خير في ود امرىء متملق
حلو اللسان وقلبه يتلهب
يلقاك يحلف أنه بك واثق
وإذا توارى منك فهو العقرب
يعطيك من طرف اللسان حلاوة
ويروغ منك كما يروغ الثعلب
وأنماط النفاق والتملق في عصرنا تختلف عن تلك في العصور الخوالي، فيمكن لمن يجيد هذا الفن أن يستخدم الأساليب الكمية من إحصائيات ومنحنيات وصور فوتوغرافية بدلاً من الصور البيانية التي كانت سائدة فيما مضى.
وأحسب أن الممدوح الذي وهبه الله شيئا من الفراسة سيدرك مدى صدق المادح، ونقاء سريرته، فإن كان صادقاً ففعله محمود، وإن كان غير ذلك فمدحه مردود عليه.
ولابد أن يكون لهذا الكم الهائل من التغيرات المادية أثر على السلوكيات البشرية وندعو الله أن يكون تغيراً محموداً ينتفع به بنو البشر.