| أفاق اسلامية
*حوار: فهد الغميجان
الناس في باب القضاء والقدر افترقوا كما افترقوا في سائر القضايا العقدية وهم طرفان ووسط، فأهل الهدى والفلاح آمنوا بقدر الله وبشرعه، فآمنوا بأنه تعالى علم ما يكون قبل أن يكون وكتب ذلك وأن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه سبحانه على كل شيء قدير، ولإيضاح ركيزة من ركائز الإيمان نستضيف فضيلة الشيخ عبدالرحمن بن ناصر البراك الأستاذ بقسم العقيدة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً الذي أكد أن الله سبحانه وتعالى قضى في أم الكتاب مقادير المخلوقات إلى قيام الساعة، وكل ما يجري في هذا الوجود، ولمزيد من البيان حول هذا الموضوع كان هذا الحوار:
* في البداية,, سألنا الشيخ,, ما الفرق بين القضاء والقدر؟
الحمد لله وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله وعلى آله وصحبه، ومن اتبع هداه,, أما بعد فالقضاء والقدر يعبر كل منهما بالآخر، والمراد قضاؤه سبحانه وتعالى في أم الكتاب مقادير المخلوقات إلى قيام الساعة,, وهو أن الله تعالى جعل لكل شيء قدراً كما قال تعالى: (إنا كل شيء خلقناه بقدر) وأصل القضاء في اللغة بمعنى الحكم، والقدر بمعنى التقدير والله قد قضى وحكم في سابق علمه وفي الكتاب المبين لكل ما يجري في هذا الوجود، وكل ذلك قد سبق به علمه في كتابه.
*وهل الإنسان مخيّر أو مسيّر؟
هذان اللفظان فيهما إجمال، فلا يقال إنه مخير ولا يقال إنه مسير، بل يقال إن العبد له مشيئة واختيار وهو مسير لما خلق له، فإن قول القائل بأن العبد مخير يوهم بمذهب القدرية القائلين بأن العبد يتصرف بمحض مشيئته وإرادته واختياره منقطعاً عن مشيئة الله، والقول بأن العبد مسير يوهم أنه لا إرادة له ولا اختيار ولا مشيئة.
فالأول مذهب القدرية والثاني مذهب الجبرية، فلا يجوز إطلاق واحد من اللفظين، ومن أطلق واحداً منهما سئل عن مراده فإن أراد معنى صحيحاً قبل، وإن أراد المعنى الباطل رد، وهذا الواجب في كل الألفاظ المجملة.
* على ذلك الحكم ما موقف المؤمن من تلك العبارة السابقة؟
الواجب هو الاستفصال عن مراد من أطلق على شيء من ذلك فيقال لمن قال بأن الإنسان مخير نقوله له: ماتريد؟ هل تعني بأن الإنسان له إرادة ومشيئة واختيار، فهذا نعم وهذا المحسوس الذي دل عليه الشرع والحس أم تريد أنه يتصرف بمحض إرادته دون مشيئة الله وتدبيره وقدرته، ومن قال إن العبد مسير أيضاً نستفصله عن مراده، فإن أراد مذهب الجبرية وهو أن العبد لا قدرة له ولا اختيار فهو باطل وإن أراد أنه يسير بتدبير الله وأنه لا خروج له عن مشيئة الله فهذا حق.
* وما منزلة القضاء والقدر في الإسلام؟
هو أحد أصول الإيمان الستة التي فسر بها النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان في حديث جبريل، قال: أخبرني عن الإيمان قال الرسول عليه الصلاة والسلام: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره .
فالإيمان بالقدر، لابد منه لتحقيق صحة الإيمان بل لتحقيق التوحيد، كما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (القدر نظام التوحيد، فمن وحد الله وكذب بالقدر، نقض تكذيبه توحيده,,,).
وذلك أن الايمان بعموم ربوبيته سبحانه وتعالى وكمال ملكه يتضمن أنه سبحانه وتعالى خالق كل شيء ومليكه وأن ما شاء كان ومالم يشأ لم يكن، وهذا هو تحقيق الإيمان بالقدر.
* وهل علم الله تعالى السابق بمآل البشر حجة في ترك العمل؟
لا حجة للكافر والعاصي على كفره ومعصيته بقدر الله السابق، فإن القدر يؤمن به ولا يحتج به، فالله تعالى علم ما يكون قبل أن يكون وكتب ذلك، ولا خروج لشيء عن قدرته ومشيئته وخلقه والله سبحانه أمر عباده بطاعته ونهاهم عن معصيته، فالواجب على العبد أن يؤمن بهذا ويؤمن بهذا يؤمن بقضاء الله وشرعه وينتهي بنهيه، ولا يعارض بين ذلك وذاك، بل عليه أن يؤمن بالقدر وعليه أن يأخذ بأسباب السعادة، ويحذر من أسباب الشقوة كما هو الشأن في سائر المطالب، فإن العبد يؤمن بأن الرزق مكتوب وأن الأجل محتوم، وعليه مع ذلك أن يسعى في طلب الرزق متوكلاً على الله سبحانه وتعالى، وأن يأخذ بأسباب السلامة مؤمناً بأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه.
والاحتجاج بالقدر على الكفر والمعاصي هو سبيل المشركين الذين قال الله عنهم: (وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء).
كما قال سبحانه وتعالى: (سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرّمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون, قل فلله الحجة البالغة, فلو شاء الله لهداكم أجمعين,), فحجة الله قائمة على عباده بإرسال الرسل، وإنزال الكتب ولا يمكن لأحد أن يحتج بالقدر إلا ولابد أن يتناقض فإن من يحتج بالقدر على معصيته لا يقبل هذه الحجة ممن يعتدي عليه أو يظلمه، بل لابد أن يطالب الظالم، وأن يأخذ بثأره منه وإنما زين الشيطان لبعض الناس الاحتجاج بالقدر ليدفع اللوم على نفسه, ولا حجة له في ذلك، فالواجب على العبد أن يؤمن بالشرع والقدر وأن يمتثل الأمر والنهي، وأن يؤمن بحكمة الله في شرعه وقدره.
* فضيلة الشيخ ما ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر؟
الإيمان بالقضاء والقدر يوجب للعبد أن يتوكل على الله وأن يفوض الأمر إليه في جميع الأمور لأنه يعلم أنه لا يكون إلا ما يشاء سبحانه وتعالى، كما أنه يثمر للعبد التوجه إلى الله في طلب العون في جميع مطالبه، فيستعين بربه على مطالبه، فالعبد الذي يؤمن بالقدر يجمع بين مقام الإستعانة ومقام العبادة، كما قال سبحانه: (إياك نعبد وإياك نستعين).
فأهل الاستقامة يعبدون الله ويستعينون به، فالعبادة سبب للسعادة، والاستعانة بالله سبب في تحقيق المطلب الذي هو أسمى المطالب, كما أن الإيمان بالقضاء والقدر، يورث الصبر على المصائب فهذه ثلاث ثمرات:
1, التوكل على الله عز وجل.
2, الاستعانة على أمر الدين والدنيا.
3, الصبر على المصائب المؤلمة, لأن الذي يؤمن بقدر الله لايتسخط على قضاء الله وقدره، بل يعلم أن الله حكيم في أقداره، وأن كل ما أصابه بقدره سبحانه وتعالى فيصبر ويحتسب، كما قال عز وجل: (ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله, ومن يؤمن بالله يهد قلبه).
* زل أناس في فهم القضاء والقدر، وحكمة الله تعالى فيه، فما قولكم بارك الله في علمكم؟
الناس في باب القضاء والقدر، افترقوا كما افترقوا في سائر القضايا العقدية وهم طرفان ووسط، فأهل الهدى والفلاح آمنوا بقدر الله وبشرعه، فآمنوا بأنه تعالى علم ما يكون قبل أن يكون وكتب ذلك وأن ما شاء كان ومالم يشأ لم يكن، وأنه سبحانه على كل شيء قدير، وأنه خالق كل شيء، وآمنوا بشرعه كذلك، وهذا هو الصراط المستقيم، وحاد عن هذا الصراط طائفتان:
1 الطائفة الجبرية: الذين اقروا بالقدر ولكنهم كذبوا بالشرع أو اعترضوا عنه فضلوا عن الصراط المستقيم ويقال لهم (المشركية) حيث شابهوا المشركين إذ قالوا: (لو شاء الله ما أشركنا).
2 الطائفة القدرية: آمنوا بالأمر والنهي ولكن كذبوا بالقدر، ويقال لهم عند أهل العلم المجوسية، أنهم شابهوا المجوس القائلين بأن العبد يخلق فعله، فجعلوا خالقين مع الله، والله تعالى قد كذب هؤلاء وهؤلاء فهو سبحانه خلق كل شيء، خالق العباد وخالق قدرتهم وأفعالهم وهو الذي منح العبد القدرة على أفعاله، ومنحه المشيئة، ولكن مشيئته مرتبطة بمشيئة الله سبحانه وتعالى كما قال عز وجل: (لمن شاء منكم أن يستقيم).
وقال: (وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين).
* وما الذي يشرع للمؤمن قوله عندما يحصل له ما لا يرضاه، وما ثمرة ذلك الدعاء؟
يشرع لمن حصل له ما يكره، أن يقول ما جاء في الحديث أحرص على ما ينفعك وأستعن بالله، و لا تعجل، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا لكان كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل , فإن لو تفتح عمل الشيطان,؟!.
فقد اشتمل هذا الحديث على الأمر بالأخذ على الأسباب إذا أصاب الإنسان خلاف ما يحب وما يطلب، عليه أن يتذكر قدر الله ولا يتحسر، يفترض أنه لو فعل كذا لكان كذا وكذا، فإن ذلك يتضمن الاعتماد على السبب، فعلاً أو تركاً، فما يدري العبد أنه لو فعل السبب المعين لحصل له ما يريد.
فالأسباب ليست شيئا منه حتميا في حصول مسببه بل الأسباب محكومة بقدر الله ومشيئته، فالآسباب حق، وهي تؤدي إلى مسبباتها، لكن بإذن الله عز وجل، والله هو خالق الأسباب والمسببات، فالأسباب والنتائج راجعة إلى قدرته سبحانه وتعالى، ومشيئته النافذة، وثمرة النظر إلى القدر في هذا المقام هي الطمأنينة والبعد عن الجزع والتسخط نحو القضاء، بل يستشعر أن مرد الأمر كله إلى الله عز وجل، ولهذا قال: ولكن قل قدّر الله وما شاء فعل أي يعني هذا قدر الله ومعنى أني أسلم الأمر لله وأؤمن بحكمة الله، فلا تجزع ولا اعتراض على قدرة سبحانه.
* فضيلة الشيخ في الحديث لا يرد القدر إلا الدعاء هل لكم أن توضحوا لنا هذا الحديث؟
جاء في الحديث المشهور (لا يرد القدر الا الدعاء) ومعنى ذلك ان الدعاء سبب من الاسباب التي يدفع بها الله ما شاء، وهذا شأن سائر الأسباب، فالأسباب هي من قدر الله ويندفع بها أقدار قد علم الله أنها تندفع، كما جاء عن عمر رضي الله عنه، لما قيل له عندما أراد الرجوع عن الشام حين نزل به الطاعون فقيل له: (أتفر من قدر الله يا أمير المؤمنين؟ قال رضي الله عنه: نفر من قدر الله إلى قدر الله).
وهذا هو موجب الشرع والقدر وهو مدافعة الأقدار بالأقدار، لكن ليس معنى ذلك أن شيئاً قد حكم الله بأنه يكون ثم حدث ما يغير هذا القدر.
بل ما يندفع بالأسباب من الدعاء وغيره، فقد سبق في علم الله وكتابه الأول، أن هذه الأقدار تندفع من تلك الأسباب، فما قدر الله انه لا يوجد إلا بهذا السبب، فإنه لا يكون إلا مع وجود سببه، وما قدر الله أنه يندفع بسبب من الأسباب فقد قدر الله وجود السبب الذي يندفع به، فرجع الأمر كله إلى علم الله وتقديره السابق، فقدره السابق لا يحدث شيئاً على خلافه، فلا شيء يغير علم الله السابق وقدره السابق فإن جميع الكائنات محكومة بقدره ومشيئته، وهذا مقتضى كمال ربوبيته سبحانه وتعالى.
* فضيلة الشيخ عبدالرحمن البراك,, نختتم حديثنا هذا بالسؤال التالي:
شخص لديه بعض الذنوب والمعاصي السابقة وتاب إلى الله من تلك المعاصي، كيف ينظر لتلك الذنوب هل هي من قضاء الله وقدره أم من النفس والشيطان أم ماذا فضيلة الشيخ؟
الذنوب والمعاصي وغيرها من الموجودات كلها جارية على قدر الله السابق كما تقدم، ولكن لهذه الكائنات وهذه الأعمال أسباب، فالكفر والمعاصي لا شك أن لها أسباب والسبب الأكبر في هذا هو تسويل الشيطان والنفس الأمارة بالسوء، والله قد قضى في حكمته البالغة أن يبتلي الانسان بالشيطان ومع ذلك أمده بالعلم والعقل وبما بعث الله به رسله، وكل ذلك مما يقاوم به الموفق كيد الشيطان، وسواء تاب العبد أو لم يتب عليه أن يؤمن أن كل ما جرى أنه بقدر الله، ولكن كما تقدم ليس له أن يحتج بالقدر على معاصيه لدفع اللوم على نفسه، نعم يمكن للتائب من ذنبه أذا لامه أحد أن يحتج بالقدر لانه حينئذ لالوم عليه، لان التوبة تجب وتمحو ما قبلها، فلا يجوز لوم التائب على ما سلف من ذنوبه، لأن الله تاب عليه فإذا أحتج عليه أحد ولامه فإن له أن يقول، هذا أمر مضى وقد قدره الله سبحانه وتعالى والحمد لله على كل حال وذلك من فضله وإحسانه وهو التواب الرحيم، يتوب على من شاء والله أعلم حيث يجعل فضله وهو الحكيم العليم.
|
|
|
|
|