| الثقافية
الآن بعد أن أصبحت على مسافة زمنية من كتابة هذه (حارس المدينة الضائعة)، أكتشف بأن المهمة كانت صعبة، بل صعبة للغاية، لأن الأدب الساخر يحتاج إلى دهاء ومكر شديدين، وطوال العمل كنت حذرا من أن تفلت مني مفردة واحدة، مجرد مفردة، لتشير أنه ، أي البطل يعي مايدور، وأنه يسخر أيضا، لأن المطلوب في هذا العمل أن يكون هو (المسخرة الكاملة).
لقد كنت أتساءل فعلا لماذا يكون أدب السخرية نادرا إلى هذا الحد، ولم أتوصل إلى جواب قنع، إلى أن كتبت هذه الرواية، واكتشفت عبر الممارسة خطورة الإقبال على هذا النوع من الكتابة الروائية وصعوبته، لقد كان العمل يجري بدقة على كل جملة، وكل مفردة، وكل حالة للوصول إلى اتمام تركيب الشخصية, لكنني ايضا أعترف أنني استمتعت جدا بالعمل مع/ وعلى هذا البطل اللابطل.
ويمكن هنا ملاحظة العلاقة الحميمة بين الراوي وبطله إلى درجة اشتراك الاثنين معا في تطوير احداث الرواية، وفي اعتقادي هنا ان على كل كتابة جديدة في مجال الرواية ان تقدم اقتراحاتها الفنية الخاصة بها او تطور اقتراحات وصل إليها الكاتب في عمل سابق.
وفي (حارس الدينة الضائعة) ثمة أكثر من اقتراح سردي أملته الضرورة الفنية والحس بمسؤولية تقديم شيء ما على صعيد السرد.
لذا فثمة لعب في مجال القطع والتبادل في السرد بين البطل والرواي بحيث يمكنني القول إن المسألة تشبه إلى حد بعيد مسألة تبادل الكرة بين لاعبي كرة قدم، والمناورة بها في الطريق إلى الشباك على طريقة (خذ وهات) وأحيانا يتيح الراوي للبطل أن ينفرد بالسرد طوال الفصل, والحقيقة أن هناك مكر الراوي الشديد، الذي يبدو رغم أنه يتيح للبطل أن يشاركه اللعبة، لعبة السرد، إلا أنه يلعب به ايضا ويتفرج عليه.
في بلادنا يقولون (شر البلية ما يضحك) وربما يمكن أن اضيف هنا بأن (شر الضحك مايبكي)،لأنه في الحقيقة ضحك اسود، وهذا شره، لقد أحسست أننا وصلنا إلى ذروة المأساة، وفي حالات كهذه ليس ثمة أدب يمكن أن يلبي نداء المرارة سوى ادب السخرية.
لذا حين أنهيت الرواية صرخت ياللهول لقد تمكنت أخيرا من الضحك على هذا النحو.
ما أود قوله، ان كتابتي للشعر قد تركت أثرا واضحا في أعمالي الروائية، كما أن علاقتي بالسينما، التي تصل إلى حدود الاستحواذ، تركت أثرا غير عادي فيما كتبت من روايات لذا لا أستطيع أن أتصور تجربتي الروائية خارج الشعر وخارج السينما، وخارج الفنون الأخرى التي مارستها، تماما كما لا يمكنني أن أتصور القرن العشرين بلا سينما.
لقد حضر الشعر في روايتي الأولى عبر اللغة الشعرية وخاصة (الصورة) والأسطورة والمسرح وما يمكن أن أدعوه حركة الداخل التي عبرت عن نفسها بذلك الشغف تجاه قراءة المسرح في تلك الفترة، ليحضر فيما بعد عبر الحالة الشعرية( يمكن أن اقول هنا: كما توجد قصيدة الصورة وقصيدة الحالة، فإن اللغة تغيرت بين روايتي الأولى وما تلاها لتعبر عن نفسها عبر الحالة بعيدا عن فخامة الصورة التي لا أظن المسرح الاغريقي ومسرح شكسبير كانا بعيدين عن سبب وجودها في براري الحمى ايضا وليس كوني شاعرا فقط).
ولعل ماهو جميل في الأمر هنا، أن الرواية على درجة من الاتساع، بحيث تتيح لك التنقل في أرجائها بحرية كاملة، وهذه الحرية الممنوحة للروائي، تساعده إلى حد بعيد على مستويين: الأول إنساني، ويتمثل في تلك المساحة التي يسمح فيها للبشر بأن يلغوا وجوده ككاتب، بحيث يحضرون هم، ويغدو غيابه هو الشيء الأكثر دلالة على وجوده، وهذا بمثابة خيار ديمقراطي صاف، فكأن الرواية وهي تمنحك هذه القدرة علىالتحرر، لا تطلب منك سوى إيصال هذه الحرية لكائناتها، هكذا يتحول الروائي إلى كيان موصل للحرية.
أما على المستوى الفني، فإن الحرية تحضر على مستوى يعزز الأول، فكأن الحرية الممنوحة للروائي، تسعى لحرية أوسع فيه، يوفرها لها، إذ لا بد من ان تجد الحرية حريتها الأكبر، وتجد معنى كيانها، في تحولها من فكرة إلى وجود لا حدود له، ولذا، فإن ذهاب الكاتب إلى تخوم فنون أخرى، محاورتها، وايجاد مكان صالح لها في العمل الروائي، هو بمثابة تعزيز لمعنى الحرية الأولى، وإيجاد فضاء لها، لأن أرض الرواية مهما كانت واسعة في الحقيقة، فهي في حاجة ماسة لذلك الفضاء كي لا يكون لحريتها حد.
ثمة تداخلات قائمة باستمرار بين الفنون وعملي الروائي، والشعري أيضا،، فحين اكتشفتُ الكاميرا، اكتشفت شيئا آخر في الكتابة لم أكن أراه قبل ذلك، وثمة شيء ما في الصورة يحاول التقاط مالم استطع التقاطه بالكلام، حين بدأت التصوير اكتشفت أن لدي عينا أخرى، وربما لهذا السبب سميت معرضي (مشاهد من سيرة عين) فثمة كائن له سيرته التي يمكن أن يقولها بطريقته الخاصة,, وحين رسمت اكتشفت الألوان من جديد لأنني لم أعد اكتفي بها منجزة، فقد بتُّ أبتكرها، وثمة فرق كبير بين ان تكون مشاهدا وبين أن تكون جزءا روحيا وعضويا من الشيء الذي تبتكره، حيث يغدو اللون الاحمر مثلا هو لونك الخاص، بعد أن كان لونا عاما.
وحين وجدت نفسي في خضم هذا الإبهار المبدع للسينما، أحببت أن أحاوره لا كمشاهد فقط، بل كمشارك في العملية السينمائية، ولم أجد وسيلة أفضل من الكتابة عن الأفلام المهمة التي أشاهدها، لأن كل كتابة في اعتقادي هي محاولة لتعميق الفهم، محاولة لتحويل العابر إلى شيء مقيم وأصيل، وهي توسع الرؤية الخاصة للمبدع قبل أن تمارس تأثيرها خارجه, والحقيقة أنني لا استطيع أن أتصور كتابة روائية تُقصي إنجازات السينما في هذا القرن، على المستوى الفني، حيث تسود اليوم ثقافة العين، التي لا نستطيع الكتابة عنها وكأنها غير موجودة, وثمة شيء آخر وهو أن فاعلية الرواية لا تكتمل إلا إذا غدت (فنا) روائيا له اقتراحاته وإضافاته، بما هي مشروع فني إنساني, ولكي تغدو كذلك، لابد من تجنيد كل ماينتجه العصر من حساسيات فنية, وقد رأيت دائما أن القضايا الإنسانية الكبيرة يلزمها مستويات فنية عالية للتعبير عنها، وإلا، فإننا نخذل هذه القضايا التي ندافع عنها بأنفسنا.
وإذا كان ثمة اختلاف بين هذه الأنواع الفنية الأدبية، فإنه على المستوى الفردي، لمن يمارس أكثر من نوع، هو اختلاف عبر الوحدة، فحين تذهب لصيد السمك مثلا لا تستخدم الطريقة نفسها ولا الطعم نفسه الذي تستخدمه وأنت ذاهب لاصطياد الحجل, ولكن في الحالتين يلزمك أن تملك أولا حاسة الصياد.
لكن ما أريد قوله أخيرا: انني كتبت عما عشته باستمرار أو خبرته، ومررت عبره، وقد حدث أحيانا أن كتبت بعض الأشياء بصورة معكوسة، أومضادة لما حدث فعلا، حين تطلب السياق الروائي ذلك، وقد رأيت أن هذه الخبرة مهما كانت واسعة، تحتاج إلى تعزيز لتخرج نحو فضاءات أوسع، وكان ذلك يتم إما عبر البحث المباشر في الكتب والمراجع، وإما عبر الحوار مع بشر عاشوا تجارب مشابهة, كما تجدر الإشارة هنا إلى أن الشعر كان في حالات كثيرة البؤرة التي استندت إليها اعمال روائية لاحقة.
|
|
|
|
|