| الثقافية
منذ اعلان فوز الدكتور عزالدين اسماعيل والدكتور عبدالله الطيب بجائزة الملك فيصل العالمية في الأدب العربي وأنا أفكر في هذه المقالة وأنوي كتابتها قرب حضورهما الى الرياض لتسليم الجائزة التي أصبحت منذ انشائها أكبر جائزة في العالم العربي يمكن ان تمنح لباحث أو استاذ في تخصصه, ولا شك ان فوز استاذين كريمين مثل عزالدين والطيب يوحي بكثير من المعاني التي تتصل بقيمة هذين الاستاذين العلمية، مما يحتاج منا ان نعيد النظر في أعمالهما وندير الحوار حول قيمة هذه الأعمال وتأثيرها في الأجيال الأدبية والنقدية في العالم العربي, ولست هنا بصدد دراسة عن أي منهما ولكني أحببت ان أكتب مقالة شخصية الى حد كبير عنهما، مؤجلا الكتابة العلمية الى وقت لاحق.
ولعل أهم معنى خطر لي وأنا بصدد هذه المقالة هو معنى الأستاذية الذي نفتقده كثيرا عندما ننظر من حولنا, فمن النادر أن نرى استاذا حديثا حريصا على أن يكون له تلاميذ أو حتى تلميذ واحد, ان اختفاء القدرة الابداعية عند الأساتذة على صنع تلاميذ أو حتى تلميذ ظاهرة اجتماعية خطيرة, ولست بحاجة الى القول ان عجز الأساتذة في هذا المجال لابد أن يقابله عزوف التلاميذ عن صنع أساتذة لهم, فكما يصنع الأستاذ تلميذه يصنع التلميذ أستاذه، ولكن اذا ضاع المعنى العميق للأستاذية بين الاثنين لم يحرص أي منهما بالتالي على الآخر, وسأعطي هنا اشارة علمية ذات طابع شخصي الى هذا المعنى.
في أواخر السنة الدراسية الثانوية الأولى لم أكن أنوي دخول القسم الأدبي في العام التالي، بل كنت أحلم بالقسم العلمي حتى أصير مهندسا وأصبح مثل ذلك المهندس الذي كان والدي يتكلم عنه دائما بأهمية واضحة في عمله, وفي الحقيقة كنت أود أن أكون مديرا على والدي في عمله مثل ذلك المهندس! وقد أنقذني القدر من تحقيق تلك الأمنية شبه (الفرويدية) ان قرأت في كتاب القراءة للسنة الثانوية الأولى مقالة بعنوان النسيب في مقدمة القصيدة الجاهلية وأعجبت بها أيما اعجاب وقررت أن التحق بالقسم الأدبي لاستمر في قراءة مثل هذه المقالات الأدبية الماتعة، ولأتخصص في الأدب العربي بدلا من الهندسة, وقد عرفت فيما بعد ان كاتب تلك المقالة هو نفسه الدكتور عزالدين اسماعيل أحد أساتذة قسم اللغة العربية بكلية الأداب بجامعة عين شمس، وهو القسم الذي تشرفت بالدراسة فيه والتتلمذ على الدكتور اسماعيل الذي درسني الأدب الحديث والنقد الحديث، وقد أردت أن أكتب رسالتي للماجستير معه ولكنه حضر الى جامعة الرياض في تلك السنة، حتى عوضت ذلك بأن أصررت على كتابة أطروحتي للدكتوراه في الشعر الجاهلي تحت اشرافه فحققت أمنية غامضة صاحبتني منذ الأول الثانوي, وقد شرفني أستاذي الكريم بكتابة مقدمة لأطروحتي عند نشرها في كتاب، وقال عني كلاما أفاض فيه من كرم الأستاذ وحدبه على تلاميذه مما يحمل المعنى الكبير للأستاذ والعلاقة الكونية، اذا جاز التعبير، بين الأستاذ والتلميذ, والمعروف عن الدكتور اسماعيل أنه لا يمدح تلاميذه امامهم أبدا، ولقد فرحت وغمرني الفرح والسعادة عندما جئت الى الرياض وقابلت الأستاذ والصديق العزيز الدكتور عبدالله الغذامي فذكر لي أنه يعرفني منذ زمن بعيد مما كان يذكره عني أستاذي الكريم أمامه, هذا هو المعنى الجوهري للأستاذية يتجاوز المعنى المحدود للعلم ليصبح صلة انسانية ايجابية تتنقل عبر الأجيال لتعطي أصحابها معنى لوجودهم, ولعل هذا المعنى هو الذي جعل أحد تلاميذي وقد أشرفت لبعض الوقت عليه في رسالته للدكتوراه عن النقائض أن فاجأني منذ أسابيع بكتابة بحث عن استاذنا الدكتور عزالدين ليقدمه الى مؤتمر النقد الأدبي بجامعة اليرموك في إربد هذا الصيف, وقد أشار الدكتور عزالدين في كلمته التي ألقاها عند تسلم الجائزة الى العلم والعمل وشرفه، والى مآل عمله النقدي، والعمل الحقيقي في مجاله، بوصفه حفرا في ذاكرة الأجيال ألا ترى أن الحفر في ذاكرة الأجيال هو امتداد الأستاذ في التلميذ؟.
أما الدكتور عبدالله الطيب فقد سعدت بلقائه لأول مرة عقب تخرجي وكنت أعمل محررا في مجمع اللغة العربية بالقاهرة، وحضر الدكتور الطيب لمؤتمر المجمع السنوي في 1976 ان لم تخني الذاكرة, وكنت قد قرأت في كتابه المرشد الى فهم أشعار العرب وصناعتها في أثناء دراستي لليسانس وأعجبت بطريقته, ورغبت أن أتحدث اليه بعد انتهاء بعض الجلسات فكان من دماثة الخلق ولطف المعشر أن دعاني للسير معه في شارع طه حسين الذي كان يقع فيه المجمع، وقد أخذت بحديثه ورقته التي لا أزال أذكرها وأنا أقرأ له فيما بعد كتابه عن القصيدة المادحة ومقالات أخرى، ومقدمته لشرح أربع قصائد لذي الرمة وأنا بصدد كتابة بحث مطول عن تلقي ذي الرمة وشعره عند القدماء والمحدثين، ومقالته عن الليل والنجوم في الشعر العربي القديم التي أعدت قراءتها مؤخرا بمناسبة اعداد احدى طالباتي خطتها لرسالة عن الموضوع في الشعر العربي الحديث.
واذ أعود اليوم الى النظر في المرشد الى فهم أشعار العرب أراني أتوقف عند مقدمة طه حسين للكتاب, إنها مقدمة تحمل ما أريد به هنا من معنى الأستاذية العميق, فمن الواضح ان الطيب درس في لندن ولم يتتلمذ مباشرة على طه حسين ولكن أستاذه الفريد جيوم في لندن أرسل اليه رسالة تقديم الى طه حسين, وقد استقبل طه حسين التلميذ الجديد بترحاب بالغ، وقرأ كتابه الضخم وقدم له، وسعى الى مساعدته في نشره في مصر، بل رشحه في المقدمة نفسها لجائزة الدولة المصرية لأفضل ما يصدره الأدباء من كتب, وهذا يذكرني بما قاله الاستاذ العقاد عن بعض كتب أستاذي الدكتور عزالدين، وأظنه كتاب التفسير للأدب.
أما ما قاله طه حسين عن الطيب فيتعلق بمكان كتابه من التجديد الخصب في الدراسات الأدبية أولا، ولأنه من أهل الجنوب ثانيا، وقد أشار الطيب في قصيدته الذاتية التي ألقاها عند تسلمه الجائزة الى التجديد الذي ينهض به حكام هذا البلد الكريم, وقد خص طه حسين الكتاب بالاعجاب لأنه لاءم بين المنهج الدقيق للدراسة العلمية الأدبية، وبين الحرية الحرة التي يصطنعها الشعراء والكتاب، حين ينشئون شعرا أو نثرا , فطه حسين يشير هنا الى ما يلاحظه قارىء الطيب من حساسية ورهافة بالشعر تظهر في كتابته عن الشعر مع التزامه بالمنهج العلمي, وبالاضافة الى ذلك يلاحظ طه حسين ان الطيب يحتفظ بقارئه طوال الوقت سواء أكان راضيا أم مغتاظا أم مثيرا للشك في نفس قارئه، فهو يملك على قارئه أمره كله منذ البداية وحتى النهاية، دون فتور، وحسبك بذلك تفوقا واتقانا كما يقول طه حسين الذي لاحظ كذلك أن كتاب الطيب يتميز بأنه يثير القلق في نفس قارئه، ويغري بالاستزادة من العلم، ويدفع الى المناقشة وحسن الاختبار, وهو كذلك يشير الى نظرية الطيب حول العلاقة بين بحور الشعر العربي والمعاني الغالبة على القصائد في كل بحر، ويشيد بها، ويربط بشكل ضمني عميق بين طبيعة الطيب المنهجية والأدبية وبين النظرية نفسها وطريقة عرض الطيب لها, ومن هنا نفهم لماذا يعد طه حسين عمل الطيب طرفة أدبية نادرة، أي تحفة أساسية لصاحبها.
ويجمع بين عزالدين والطيب اهتمامهما بالشعر وصناعته عند العرب، ويمكن ان نقتبس هنا جملة من كتاب الأسس الجمالية في النقد العربي للدكتور عزالدين، وهي آخر جملة في فصل يحمل عنوان الكتاب نفسه:الشعر عند العرب صناعة ولهذه الصناعة قوانين تتحكم في الشكل فتجعله جميلا أو قبيحا, والجمال عند العرب يرجع الى الشكل أكثر مما يرجع الى المحتوى، وهو في الفن أكمل منه في الطبيعة، وان كانت هذه القوانين في ذاتها قوانين طبيعية, ومن ثم كثر عندهم النقد القائم على الأساس الجمالي الصرف؛ الأساس الذي يهتم بجمال الصورة الأولى, وهم في بحثهم عن هذا الجمال الموضوعي قد كشفوا عن الأساسين المشتركين في كل الفنون: الايقاع والعلاقات وحاولوا تصوير قوانينهما بصورة ملموسة, وحين كشفوا عن هذه القوانين اتخذوها أساسا للنقد، اتخذوها أساسا للحكم بالجمال والقبح، ولكنهم في هذه المرة كانوا يتكلمون عن الجمال بالمعنى الاستطيقي الدقيق .
ان كتاب المرشد الضخم للطيب يقوم في أساسه على هذا المعنى النظري الذي انتهى اليه الدكتور عزالدين, ويمعن الطيب ويتوسع في شرح شعر العرب وصناعتهم، ويضيف الى ذلك مقارنات بين الشعر العربي القديم والحديث أحيانا والشعر الأوروبي منذ القرن السابع عشر عند شعراء مثل شكسبير وملتون ومارفيل وصولا الى اليوت.
لقد صدق طه حسين في كلمته عن عبدالله الطيب؛ فهو يغريك دائما بالخلاف معه والاعجاب به في الوقت نفسه, أما عزالدين اسماعيل فلا تملك إلا ان تتفق معه سواء أعجبت به أو لم تعجب لأنه حريص دائما على اقناع القارىء بوجهة نظره، وتلمس طريق الاعتدال الذي يتوقعه أغلب القراء, وهذا في حد ذاته مزية في الناقد الكبير الذي يضع نصب عينيه وجهات النظر المختلفة في الموضوع ويدخل في حوار مع أصحابها.
لقد اشار الدكتور عزالدين الى الطيب في كلمته عند تسلم الجائزة بوصفه صديقا قديما وأخا كريما، شريك الرحلة والرفقة الطيبة، وقد قضى الدكتور عزالدين بعض الوقت في السودان وكتب عن الأدب والحكاية الشعبية في السودان دراسة جد مبكرة في اطار المنهج البنيوي, فلا غرو أن جمعت الجائزة بينهما، كما جمع بينهما فهمهما لأشعار العرب وصناعتها، وجمع بينهما أستاذيتهما وتلاميذهما المخلصون, وإني لأعتبر نفسي تلميذا للطيب كما أنا تلميذ لعزالدين اسماعيل وآخرين من الأستاذة الذين يسلكهم عقد واحد بداية من طه حسين وأمين الخولي والعقاد والمازني مرورا بلطفي عبدالبديع ومصطفى ناصف, لقد هنأ طه حسين نفسه وقراء العربية بكتاب الطيب الرائع، كما أشاد الأستاذ العقاد بكتاب عزالدين, وهنأ طه حسين أهل مصر والسودان بهذا الأديب الفذ، الذي ننتظر منه الكثير ، كما قال طه حسين وعمل به الطيب, ولعلي بدوري أهنىء أهل مصر وأهل السودان وأهل المملكة العربية السعودية بعزالدين والطيب لأنهما أنجزا ما كان متوقعا منهما، وحفرا اسميهما في ذاكرة الأجيال، وقلوب التلاميذ المخلصين على السواء.
|
|
|
|
|