| مقـالات
اللغة الأجنبية وسوق العمل:
إن من مظاهر العولمة الضارة التي تستهدف القضاء على هوية الشعوب، وتدمير ملامحها الأصيلة تسلط اللغة الأجنبية على ألسنة الناس وأقلامهم، ومزاحمتها للغات الوطنية لهذه الشعوب، وطردها لهذه اللغات من المواقع المهمة في الحياة، ولعل من أهم تلك المواقع إن لم يكن أهمها سوق العمل، الذي ترتبط به لقمة العيش، ويحتاج إليه معظم الناس، والواقع أن الناظر في استفحال اللغة الاجنبية في سوق العمل لدينا يدركه العجب،ويظن أننا لا نعيش في بلد عربي، فكثير من المؤسسات التجارية والشركات تقصر التوظيف فيها على من يجيدون اللغة الإنجليزية قراءة وكتابة وتحدثا، وهي بذلك تطرد من سوق العمل كثيرا من شبابنا المؤهل بحجة عدم إتقان هذه اللغة، وتتخذ ذلك ذريعة لاستقدام الأجانب وتوظيفهم, ولا نحتاج كبير ذكاء عندما نظن أن وراء ذلك سببا آخر يتمثل في الراتب المنخفض نسبيا الذي يحصل عليه الاجنبي مقارنة بما يحتاجه الشاب السعودي، إلى جانب توفر شروط اخرى يوافق عليها العامل الأجنبي قد لا يتحملها السعودي.
وحتى لا نغرق في العموميات ومن أجل أن نقترب من حقيقة ما يجري في سوق العمل فإن من المناسب أن نتأمل ما يجري داخل هذا السوق علنا نعرف أسباب استفحال اللغة الإنجليزية فيه وطردها للغة العربية من سوق بلادها، بل حرمان أبنائها من الفرص الوظيفية فيه، وهل الحاجة إلى اللغة الإنجليزية في سوق العمل تتناسب والحقيقة أم أن الواقع الذي فرضها واقع غير صحي تنفرد به بعض الدول النامية وانتقل إلينا بالعدوى.
إن سوق العمل بشكله العام يتكون من تاجر لديه أعمال فنية وإدارية، بعض هذه الأعمال يتعلق بالشؤون الإدارية العامة كشؤون الموظفين والإدارة المالية والمستودعات وغيرها مما لا تحتاج في العادة إلى خبرة أجنبية بل هي ممارسة في البلاد على نطاق واسع باللغة العربية، وقد لا تحتاج اللغة الإنجليزية إلا في نطاق ضيق من أجل التطوير ومتابعة الجديد, فلا تلزم اللغة الإنجليزية كل موظف في هذه الإدارات وإنما تقتصر الحاجة على بعض الأفراد، الذين يعملون في المشتريات الخارجية، فيتعاملون مع المصدرين الأجانب، أو يطلعون على ما يكتب باللغات الأجنبية حول المنتجات التي يسوقونها أو المنتجات المنافسة، كما تقتصر على بعض التنفيذيين الذين يشاركون في تمثيل المؤسسة في الخارج او الفنيين الذين تتطلب أعمالهم الإحاطة ببعض دقائق المعلومات عن المنتجات المصنعة أو المسوقة، والحاجة، في تصوري، للغة الأجنبية في هذه المواقع واضحة ولكنها محدودة، ولا ينبغي ان تكون اللغة الأجنبية شرطا لكل موظف أو عامل كما نجد في بعض الإعلانات التي تظهر في الصحف والتي تطالب الشباب بشرطين تعسفيين: الأول: شرط إجادة اللغة الإنجليزية، والثاني: شرط الخبرة السابقة، فمن أين لشبابنا المتخرج حديثا من الجامعة أو المرحلة الثانوية الوفاء بهذين الشرطين؟ إننا إن اصررنا على ذلك فإن شبابنا لن يجد فرصته في العمل بالقطاع الخاص في وقت قريب، وسوف يطول أمد اعتمادنا على العنصر الوافد وهو أمر يتعارض وخطط التنمية الطموحة التي تهدف إلى تطوير العنصر البشري السعودي.
إن من شأن توظيف السعوديين في هذه الوظائف أن يحقق قرارات دولتنا الرشيدة بضرورة أن تكون جميع الملفات والعقود لدى الشركات والمؤسسات السعودية باللغة العربية, غير أن الواقع للأسف غير ذلك، فبسبب كثرة استخدام الأجانب في سوق العمل أصبحت اللغة الإنجليزية مهمة ومطلوبة لا من أجل الاطلاع على الجديد عند الامم المتقدمة علميا وتقنيا وإنما من أجل كسر الحاجز بيننا وبين عمالة أجنبية متوسطة أو أقل من المتوسطة، وفدت إلينا وتربعت على المواقع الوظيفية في مؤسساتنا وشركاتنا واستراح رجال أعمالنا إليها، فأدارت شؤونهم ورتبت مستودعاتهم وكتبت مراسلاتهم (حتى للعرب) وقيدت سجلاتهم باللغة الأجنبية وربطتهم بها وفرضت وجودها وأنماطها الإدارية على الأغلبية العظمى من المواطنين السعوديين، الذين اضطرتهم للتخاطب معها بلغة غير لغتهم وخصوصا في بعض المواقع التي يضطر الإنسان إليها اضطرارا كالمستشفيات ونحوها.
هؤلاء الوافدون، غير العرب، هم الذين يدبرون أمر السوق في المملكة، وإن كان أصحاب الشركات والمؤسسات سعوديين, فالوافدون هم الذين يطلبون البضائع وهم الذين يستقبلونها، وهم الذين يقومون بتخزينها وهم الذين يرتبون مستودعاتها وهم الذين يقومون ببيعها ومعظمهم ليسوا بذوي خبرة، بل إن بعضهم تعلم الحلاقة في رؤوسنا، وتدرب على مختلف الأعمال لدينا، ومنها أعمال متطورة لم يسمع بها في بلاده, ولذلك تحول السوق إلى سوق أجنبي يعمل في بلاد عربية، بل بلاد هي مهد العروبة والإسلام, لقد استوردنا البضائع واستقدمنا معها من يقوم بشؤون استيرادها وحفظها وتسويقها، وتحولنا نحن إلى مستهلكين وليس ذلك كل ما في الأمر بل أصبح من المطلوب منا أيضا إن كنا نطمح إلى أن نستفيد مما يعرض علينا في هذا السوق من سلع وخدمات أن نتقن اللغة الأجنبية، وأن نتحدث إلى هؤلاء العاملين في السوق من الأجانب باللغة التي يحسنونها هم ضاربين عرض الحائط بلغتنا التي فطرنا الله عليها.
* وهكذا أصبحت المشكلة مشكلتنا، والعيب فينا إن لم نتكلم اللغة الأجنبية لا في الوافد الأجنبي الذي يفترض فيه أن يتعلم لغة البلاد التي يأتي إليها للعمل كما يحدث في كل بلاد العالم، وهو أمر لا يحتاج إلى دليل فكل من قدر له السفر خارج المملكة يدرك ذلك دون كبير عناء, انظروا إلى العمال الأتراك في المانيا وهولندا وإلى العمال المغاربة في فرنسا وأسبانيا وإلى العمال المصريين في النمسا وإلى أجناس العمال المختلفة في أمريكا هل يخاطبهم المواطنون في هذه الدول بلغة غير لغة البلاد الرسمية؟، بل هل يجرؤ أحد من هؤلاء الوافدين أن يخاطب المواطنين بغير لغتهم الرسمية؟ إذا كان ذلك غير ممكن في تلك البلاد فما الذي جعله ممكنا في بلادنا؟ لماذا نضطر إلى التحدث باللغة الأجنبية مع البائع في المتجر، ومع عامل الهاتف في الفندق، ومع الفني في المستشفى ومع الموظف في وكالة السفر، وقس على ذلك مواقع كثيرة في القطاع الخاص, ويعجب الإنسان حين لا يجد من أبناء الوطن من يقوم بمعظم هذه الأعمال العادية التي يمكن أن يجيدها المواطنون بسهولة ويسر، وإذا تأملت وجدت أن استخدام اللغة الأجنبية وراء ذلك كله, فلو كانت اللغة العربية حية في سوق العمل لوجدت السوق لدينا عربيا منسجما مع هويتنا وشخصيتنا، أما في الوضع الحالي فإن سوق العمل لدينا يشبه شعب بوان الذي زاره المتنبي وجال في نواحيه ومغانيه ولكنه خرج منه بحسرة سجلها بقوله:
ولكن الفتى العربي فيها غريب الوجه واليد واللسان |
فإلى متى سيظل سوق العمل لدينا مملوءا بالوافدين الذين احتلوه بدعوى إجادة اللغة الأجنبية ولو لم تكن لها حاجة حقيقية؟ إن من المستحيل أن نحول كل سعودي إلى متحدث باللغة الإنجليزية من أجل أن يحصل على قوت يومه في سوق العمل لدينا، ومثل هذا الوضع لا يكون عادة إلا في دول فرض عليها الاستعمار لغته كما في بعض الدول الأفريقية ونحن ولله الحمد عشنا في هذه البلاد أحرارا منذ أن خلقنا الله، وكانت سياسة بلادنا وما زالت حرة عربية إسلامية تتلمس كل ما فيه مصلحة الأمة والمواطن, وقد أصدرت الدولة، وفقها الله الكثير من القرارات التي تهدف إلى الحفاظ على اللغة العربية في سوق العمل منها قرار مجلس الوزراء الموقر رقم 266 وتاريخ 21/2/1398ه, وقرار مجلس الوزراء الموقر رقم 133 وتاريخ 7/8/1420ه المتوج بالمرسوم الملكي الكريم رقم م/15 وتاريخ 12/8/1420ه الصادر بالمصادقة عليه والمتعلق بنظام الأسماء التجارية, ولمجلس القوى العاملة قرارات مهمة أيضا تخص هذا الموضوع, فلماذا لا يلتزم سوق العمل بهذه القرارات؟ ما المسوغ لكتابة العقود بين المؤسسات والشركات من جهة وبين المواطنين من جهة أخرى باللغة الإنجليزية؟ ولماذا تصدر الفواتير من المحلات التجارية مكتوبة باللغة الإنجليزية وكذلك الإيصالات على مختلف أنواعها؟ وهي مستندات رسمية يحتاجها المواطن، تحفظ حقوقه ويرجع إليها عند الحاجة؟ ولماذا لا يستشعر الأجنبي أي حرج في ذلك؟ بل لماذا هانت علينا أنفسنا وكرامة بلادنا فقبلنا ذلك وتقبلناه؟
إن وجود أجانب مهما كان عددهم لا ينبغي أن يجعلنا نتنازل عن سيادتنا على أرضنا, واللغة من أهم مظاهر السيادة، وقد جعلها النظام الأساسي للحكم لغة البلاد الرسمية، فلا يجوز أن يطردها من مواقعها الطبيعية في البلاد أي لغة أخرى أجنبية مهما كانت أهميتها, لا تقل لي إن مصلحة السوق والاستثمار تستدعي شيئا من ذلك، فبلاد العالم المتقدمة لا تؤثر شيئا على لغتها الوطنية مهما كانت الأسباب ودعني أذكر لك مثلين:
الأول: أن القانون الفرنسي الصادر في أغسطس سنة 1994 المتعلق باستخدام اللغة الفرنسية, ينص في المواد 2 و3 و4 على لزوم استخدام اللغة الفرنسية في بيان وتسمية الممتلكات والمنتجات والخدمات وتقديمها وعرضها وكذلك في النصوص الدعائية، والإعلانات المخصصة للإعلام الجماهيري ومنها:
أ جميع الوثائق المخصصة لإعلام المستخدم أو المستهلك، الملصقات أو الكراسات المنشورات الدعائية، الكتالوجات وغيرها من الكتيبات الإعلامية، وكذلك إيصالات الطلبيات وإيصالات التسلم، وشهادات الضمان وطرائق الاستعمال.
ب قوائم وجبات الطعام والفواتير وبراءات الذمة وإيصالات الدفع وتذاكر النقل وعقود التأمين وعروض الخدمات المالية وكذلك طرائق الاستعمال المرفقة ببرامج الحاسب وألعاب الفيديو المتضمنة تعليمات تظهر على الشاشة أو إعلانات صوتية مصاحبة لطرائق الاستخدام.
ولا أريد أن أطيل في الاقتباس والتلخيص وإنما أردت أن أبين كيف تحمي الأمم المتقدمة في مضمار الحضارة هويتها وشخصيتها من خلال الحفاظ على لغتها في عصر العولمة.
المثل الثاني يمكن أن يؤخذ من ممارسات الدول المتقدمة في هذا المجال فالسياحة مثلا من أكثر الصناعات ازدهارا في أوروبا ومع ذلك فإن الأوروبيين لا يكادون يغيرون من أنماطهم التقليدية ، وعلى رأسها اللغة شيئا من أجل عيون السياح, يرتاد أسبانيا سنويا أكثر من 50000000 (خمسين مليون سائح) وتعد السياحة الصناعة الأولى في البلاد ومع ذلك لم يكتب الأسبان أسماء شوارعهم أو تعليمات المرور بلغة أجنبية ولم يغيروا الإرشادات في متاجرهم أو مقاهيهم أو فنادقهم إلى اللغة الأكثر استعمالا في العالم، اعني اللغة الإنجليزية، أذكر أنني نزلت مرة في فندق من فنادق الدرجة الأولى في مدينة قرطبة التاريخية المكتظة بالسياح الذين يتحدث أكثرهم اللغة الإنجليزية، ومع ذلك وجدت صعوبة حقيقية في التحدث مع العاملين في الفندق باللغة الإنجليزية إذ لم أجد منهم من يملك الحد الأدنى من هذه اللغة، وفي ألمانيا تتكرر الصورة في كثير من المدن السياحية وبخاصة في المطاعم حيث يحرص المسلمون على معرفة ما تحتويه قوائم الطعام خوفا من الوقوع في لحم الخنزير أو شيء من مكوناته أو المحرمات الأخرى، ففي معظم المطاعم تقدم قوائم الطعام باللغة الألمانية، التي تختلف اختلافا جذريا عن اللغة الإنجليزية, وأعتقد أن كثيرا من السياح الأجانب الذين لا يعرفون الألمانية يعانون من الصعوبات نفسها في التعرف على مايروق لهم من طعام, وهذا طبعاً لا يمنع من وجود بعض المواقع التي يوجد فيها من يحسن الإنجليزية، أو تقدم فيه قوائم الطعام بأكثر من لغة، وإنما حديثنا عن السائد بين الناس، وكيف أن القوم لم يرضوا السياح على حساب أساسيات شخصيتهم الوطنية أو هويتهم القومية، أما في فرنسا وهي من أكثر مناطق أوروبا جذبا سياحيا فقد ذكرت لك آنفا ما يقضي به القانون الفرنسي الصارم بالنسبة لاستخدام اللغة الفرنسية، ومن الملاحظ في فنادق جميع دول أوروبا أن عامل بدالة الهاتف، وموظف الاستقبال ونادل المطعم أو ما يسمى بخدمة الغرف لا يبدؤك بالكلام حين تتصل به إلا باللغة الوطنية، بينما نجد الموظف نفسه في الفنادق العربية للأسف، يبدؤك باللغة الأجنبية، وإن كان يعلم أنك عربي اللسان، أو كان على بعد خطوات من المسجد الحرام!
إن اللغة الأجنبية تتمدد في سوق العمل لدينا بصورة سرطانية تنهش هويتنا وتهزأ بوجودنا، وتحاول أن تجعل منا أمساخا وأشباحا تدور في فلك غريب يبعد بنا عن تكويننا الثقافي، وجذورنا الأصيلة، وملامح شخصيتنا المتميزة، وفي ذلك خطر لا بد من التنبه له، وأخذ الحيطة منه، والتحرك بسرعة لتفاديه، قبل أن تلفنا العولمة بضبابها، وتأخذنا بأمواجها إلى حيث تتعذر الرؤية ويصعب الرجوع.
*عضو مجلس الشورى
|
|
|
|
|