| وَرّاق الجزيرة
*حاوره: يوسف بن محمد العتيق
للأستاذ الدكتور محمد بن عبدالله آل زلفة حضور كبير ومشاركة ملحوظة في ميادين كثيرة ترتبط بتاريخنا، إذ إنه من القلائل الذين يعنون عناية كبيرة بموروثنا الخطي بكل أشكاله وصوره، وتحظى الوثيقة بنصيب الأسد من اهتماماته، فهي كما تلحظ من حديثه تجري في دمه ونافح من أجلها الكثير والكثير، ومن أجل هذا يسعدنا أن نسلط الضوء في حوار وبحث مع الأستاذ آل زلفة على جهوده في هذا المجال، ونعرف مرئياته في شؤون وشجون التدوين التاريخي الموجود، مع إثارة قضايا كثيرة يحرص عليها كل مهتم بتاريخ الجزيرة العربية، ونحن إذ نعرض لآرائه أو غيره من الباحثين والمهتمين إنما نقصد استخلاص الخبرة والتجربة من كل من سبق ليستفيد المتأخر من المتقدم، ولا شك أن هذا سيلقي بظلاله على تدوين تاريخنا المحلي الذي هو بحاجة إلى بذل الجهود لجمعه وتحريره من مصادره في داخل بلادنا الغالية، وفي جميع مناطق العالم لنستطيع أن نقرأ تاريخنا قراءة دقيقة هي أقرب ما تكون إلى ما حصل بعينه هذا ما نرجوه ونؤمله، والآن لننتقل إلى حوار صريح مع الدكتور آل زلفة.
* يرى بعض الباحثين، وبعد دراسة مسحية قام بها أن المملكة العربية السعودية تحتل المرتبة الخامسة من ناحية حجم التراث الخطي، ومع ذلك فقد ذكرتم في كتابكم عن تاريخ عسير (ص 13) أن الجزيرة العربية أقل البلدان العربية والإسلامية حظا فيما يتعلق بثروتنا الوثائقية؟ أم أنكم قصدتم التفريق بين الكتب المخطوطة والوثيقة بمعناها المستخدم عند المؤرخين؟ مع العلم بأن المخطوطات مهما كان موضوعها تعد وثيقة تاريخية؟
المملكة بمساحتها الواسعة وتاريخها الموغل في القدم وكونها مهبط الوحي ومنطلق انتشار الدعوة الإسلامية إلى كل الآفاق، وكونها الحاضرة الأولى لأول حكومة إسلامية, والمكان الذي دون فيه القرآن مكتوبا لأول مرة وبواسطة كتبة الوحي والذين هم جميعهم من هذه البلاد، لا يستغرب من الناحية النظرية أن تحتل المرتبة الخامسة من ناحية حجم التراث الخطي.
ولكن من الناحية العلمية لا أعتقد بصحة ما ورد في تلك الدراسة المسحية التي أشرت إليها لأسباب عدة أهمها أن الجزيرة العربية وبلادنا تكون النصيب الأكبر من مساحتها قد أصبحت تعيش في الظل السياسي منذ انتقال حكومة أو مقر الخلافة من المدينة إلى دمشق ثم بغداد ثم القاهرة ثم أخيراً إستانبول, وبانتقال الثقل السياسي من هذه البلاد إلى خارجها انتقل الثقل العلمي والفكري إلى حيث يكون الثقل السياسي وأماكن النمو الاقتصادي والحضاري حيث تكون أماكن لجذب العلماء والمفكرين والمؤلفين والخطاطين وباعة الكتب وصناع الورق وأدوات الكتابة وغيرها.
وهذه أجواء ومناخات لم تتوافر في الجزيرة العربية حتى في أكبر مراكزها الحضارية حيث مكة المكرمة والمدينة المنورة ومدينة صنعاء وزبيد وقليل وغيرها, ومن ثم لا يمكن موازنتها بمراكز الثقل السياسي والثقافي والاقتصادي مثل دمشق وبغداد والقاهرة وبعض الحواضر الأخرى في الأندلس والمغرب العربي والمشرق الإسلامي، وهذا ما جعلني أذهب إلى القول ولا زلت أعتقد بصحة ما أقول بأن الجزيرة العربية أقل البلدان العربية والإسلامية حظاً فيما يتعلق بثروتنا الوثائقية بما فيها المخطوطات.
أما ما يتعلق بالوثائق وأقصد بها الوثائق الرسمية التي تصدر من الدواوين الرسمية للدولة أو الحكومات المحلية فإن الجزيرة العربية هي الأكثر فقراً في هذا الجانب للأسباب التي أشرت إليها سابقاً إضافة إلى الأسباب التي أدت إلى ذهاب كثير إن لم يكن معظم أو كل الوثائق في معظم الأقاليم بسبب الإهمال أو الحروب الأهلية أو حالات الغزو الأجنبي مثل ما حل في وثائق وسجلات حكومة الدرعية (الدولة السعودية الأولى) أثناء غزو إبراهيم باشا لها عام 1818م.
أما وثائق حكومة الرياض (الدولة السعودية الثانية) أثناء ما تعرضت له من حروب أهلية أكلت الأخضر واليابس من وثائق تلك الدولة ومن النادر إن لم يكن مستحيلاً أن تجد وثيقة رسمية في الدرعية أو الرياض تعود إلى تلك المرحلة المهمة من تاريخ بلادنا, وما يقال على وثائق الرياض والدرعية يمكن أن ينسحب على وثائق الحكومات المتعاقبة في منطقة عسير أو منطقة المخلاف السليماني أو حائل أو مثيلاتها في الحجاز أو أي شيء من وثائق الإدارة في الإحساء تعود إلى ماقبل فترة استعادة الملك عبدالعزيز لها من أيدي الأتراك عام 1913م، إذا استثنينا ما يوجد في أيدي الأفراد ومعظمها يعلق بالأملاك الخاصة, وهذا لا يعني بكل تأكيد ما يعتقده البعض أن تلك الحكومات أو الدول التي قامت في الجزيرة العربية لم تكن منظمة ولم تكن تتعامل من خلال المراسلات والمكاتبات وحفظ سجلات تنظم أوضاعها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والقضائية فهذه مقولات يرفضها الواقع والمنطق بدليل وجود الكم الهائل من الوثائق التي تعود إلى فترات مختلفة وخاصة الفترة العثمانية في الأرشيف العثماني في إستانبول من مكاتبات ومراسلات بين زعماء هذه الحكومات والدولة العثمانية أو مسئوليها في الولايات المحيطة بالجزيرة العربية، ومثل هذه الوثائق توجد في الأرشيف المصري والأرشيف البريطاني والأرشيف الهندي وغيرها, والمؤسف أن الإهمال لا يزال يطول وثائقنا الوطنية حتى الآن فلو عدنا إلى وثائق عهد التأسيس للدولة السعودية الحديثة على يد الملك عبدالعزيز يرحمه الله نجد الأكثرية منها تعرضت للإهمال وذهبت مع الريح وما ظل منها باقيا لا يزال في أوضاع مؤلمة غير حضارية تتعرض في ظل هذه الحالة إلى الزوال والتآكل, وما ينطبق على الوثائق المخطوطة ينطبق على الكثير من المخطوطات نفسها التي أفنى العلماء سنوات أعمارهم في تأليفها وجمعها وأضعناها بسبب إهمالنا وعدم تقديرنا لقيمتها حيث لم يبدأ الاهتمام بالوثائق والمخطوطات إلا متأخراً ومع ذلك فما زال اهتماماً متعثراً, ولم يصل إلى المستوى الحضاري المطلوب، ويمكنني القول إن ما يوجد من مخطوطات عربية في مكتبة المتحف البريطاني والمكتبة الوطنية في باريس لوحدها يزيد على النصف مما تضمها مكتبات البلاد العربية قاطبة وما هو أكثر دهشة بأنه يمكن للباحث العربي أن يطلع على أية مخطوطة في هاتين المكتبتين بيسر وسهولة بينما يحول دون الاطلاع على المخطوطة العربية في أية مكتبة عربية خرط القتاد.
* تعد الوثيقة النواة الأولى والأهم في عملية التدوين التاريخي، فهل لكم أن تحدثونا عن حضور الوثائق في كتاباتك، والدرجة التي توليها الوثيقة من بين المصادر الأخرى؟
نعم يا صديقي الوثيقة هي النواة الأولى والأهم في عملية التدوين التاريخي، أدركت منذ بداية التعمق في دراسة التاريخ، تاريخنا العربي بشكل عام وتاريخنا الوطني بشكل خاص بأن معظمه مبني على الروايات الشفهية وهو ما نقله فلان عن فلان وما يعتر هذا المنهج من مخاطر وعدم الشعور بالطمأنينة إلى صحة ما يتناوله الرواة من تزويد أو تنقيص أو مبالغة أو عدم دقة في إيراد الحدث وما جبلت عليه النفس البشرية من حب وكره وعدم حيادية, ولذلك فتنت بمقولة يرددها عباقرة فلسفة التاريخ بأن لا تاريخ بدون وثائق , وزاد عمق إيماني بهذه المقولة عندما عزمت على دراسة تاريخ منطقة عسير كموضوع لرسالة الماجستير فلم أجد هناك مصدراً أو مرجعاً أطمئن إليه يشبع رغبتي في كتابة تاريخ منطقة كانت شاغلة التاريخ ومسرحاً لأهم أحداثه ولكن قليل وقليل جداً ما دون من أحداث تاريخ هذا الاقليم، وبما أن الحدث التاريخي يشترك في صناعته أكثر من طرف فأهم أحداث عسير أشترك فيها أطراف كثيرة ومتعددة أهمها الدولة السعودية الأولى أهم فاعل لصناعة تاريخ الحدث الكبير ليس فقط في منطقة عسير ولكن في الجزيرة العربية بكاملها, ثم الدولة العثمانية أهم قطب تصدى لما شهدته الجزيرة العربية من أحداث في تاريخها الحديث والمعاصر, ومصر بحكم ما قامت به من دور لتنفيذ السياسة العثمانية أو سعى حاكمها محمد علي باشا (1805 1849) لتحقيق مجد خاص به ثم بريطانيا وغيرها من القوى الأوربية الأخرى، التي كانت حريصة على رصد ومتابعة كل أحداث الجزيرة العربية خلال هذه الفترة لمعرفة انعكاسات هذه الأحداث على مصالحها, هذه الأطراف مجتمعة خلفت كماً هائلاً من الوثائق تحكي وقائع كافة تلك الأحداث فأما وثائق الدولة السعودية الأولى فلقد أشرت في معرض حديثي للإجابة على السؤال الأول كيف آل مصيرنا، أما ما يتعلق بوثائق الأطراف الأخرى فهي ما شددت له الرحال وعقدت العزم على طرق أبواب أماكن حفظها في كل من إستانبول والقاهرة ولندن وباريس وأخذب مني هذه الرحلة ما يقارب الثلث قرن إلى الآن، ولم أحل شداد رحالي ولم يفتر عزمي ومتعتي في أسفاري حتى في إجازاتي القصيرة وإلى الآن هو ما أقضيه في غرفات هذه الأرشيفات التي تغص بالوثائق المتعلقة بتاريخنا الوطني.
وأكملت رسالتي للماجستير في التاريخ الحديث من الولايات المتحدة الأمريكية معتمداً على الوثائق كمصدر أولي ثم أكملت رسالتي للدكتوراه في التاريخ الحديث وموضوعها علاقة الدولة العثمانية بالجزيرة العربية مع التركيز على منطقة عسير وكانت الوثائق هي عماد مصادر معلوماتي وهي وثائق كانت بكراً لم ينفض عنها الغبار منذ أن وضعها المفهرسون في أماكن حفظها بعضها يعود إلى ما يقارب من القرنين من الزمان.
أما ما ألفته من كتب وهي قليلة والكثير منها إن شاء الله قادم جميعها معتمدة على الوثائق لأنها في نظري ونظر واضعي قواعد علم التاريخ، الشاهد الأصدق على كتابة التاريخ, وأحب أن أشير إلى أن الاعتماد على الوثيقة لا يلغي الالتفات إلى المصادر الأخرى مثل المخطوطات أو ماهو مطبوع من كتب التاريخ أو حتى الرواية الشفهية ولكن توظف ضمن منهج علمي ومن قبل أصحاب الاختصاص في علم التاريخ الذين هم الأقدر على معرفة ذلك المنهج وليس الدخلاء والهواة والعابثين بكتابة التاريخ والمدعين بمعرفة المصدرية وهم لا يعرفون ما تعني كلمة المصدرية، وليس كل من قال قولا لا يعتمد على مصدر وثائقي أو مدعماً بشاهد وئائقي يعد مصدراً وإنما هي أقوال تسقط إذا توفر الدليل الأقوى وهي الوثائق, وللأسف أن كثيرين ممن كتبوا في تاريخنا الحديث والمعاصر هم ممن اعتمدوا على الأقوال وليس على الحقائق المدعمة بالوثائق ومن المؤسف أن بعضاً ممن اشتغل بكتابة التاريخ وبعضهم من ذوي الاختصاص وغيرهم ما زالوا يعتمدون على ما كتبه أولئك مع أن كثيراً من معلوماتهم معتمدة على المصادر الشفهية غير المطمئنة تماماً قد سقطت في ضوء المعلومات الموثقة والتي سهر الباحثون الجادون على البحث عنها وإظهارها للنور.
|
|
|
|
|