| شرفات
الكثير من الباحثين الغربيين مَن بهرتهم حضارتنا التليدة ومن فتنتهم عظمة آثارنا ومن جذبتهم روعة اوابد تاريخنا, راحوا ينقبون ويبحثون ويدرسون ويبحرون في اعماق التاريخ الزاهر لتلك المواقع والمدن الزاخرة بالعبق والاسرار,, فيما حرص البعض منهم على توثيق مشاهداته وتدوين انطباعاته.
اما البعض الآخر، ممن عشقوا اوابدنا، فقد استقصوا ونقبوا، وكتبوا دراسات علمية اختصاصية، وألفوا كتباً ومراجع موضوعية غنية.
ولعل ابرز من عشق التنقيب في آثارنا، والابحار الذي لا ينتهي سفره في تاريخ اوابدنا، الباحث الفرنسي المعروف ارنست ويل، عضو اكاديمية النقوش والفنون الجميلة والاستاذ فوق العادة في جامعة باريس الاولى، ومدير المعهد الفرنسي لعلم الآثار في الشرق الادنى وأحد اهم الباحثين العالميين في الحقبة الافريقية في المشرق, وما يميز هذا الباحث ويعطي لدراساته وكتبه اهمية استثنائية، انه امضى ردحاً مديداً من حياته بين سورية ولبنان والاردن,, ومما هو جدير بالذكر ان العشق العلمي لهذا الباحث الموسوعي قد انصب على مدينة بالميرا ,, وقد افرد لها جل اهتمامه وخصها بأعمق دراساته وكتاباته, وفي هذه المتابعة المبتسرة سنسلط الضوء على احد اهم كتبه الذي صدر عن دار ارمان كولان الباريسية والذي حمل عنوان:البالميريون: بنادق الرمال ,في مقدمة كتابه المسهبة يتحدث الباحث عن شغفه بتاريخ وآثار هذه المدينة العظيمة التي طالما كتب عنها,, مؤكداً انه كان يكتشف، في كل مرة، روائع وسباقات جديدة تدفعه للمزيد من التنقيب والتوثيق والتأليف.
وفي الفصل الاول من الكتاب المعنون ب من هم البالميريون؟ يقول الباحث: هناك تاريخ طويل لهذه المدينة الاكثر عراقة,, وكتابي هذا يعالج حقبة معينة من هذا التاريخ، لهذا يمكننا عموماً المقابلة بين تدمر وبالميرا,, فتدمر هو اسم هذه المدينة التاريخي منذ قيامها وحتى اليوم، ولكن خلال فترة معينة سميت هذه المدينة ب بالميرا ، وهو اسم اطلقه عليها اليونانيون والمقدونيون تحديداً, والمعنى الحقيقي لهذا الاسم هو موضوع جدل لا يمكن اختزاله بسهولة نظراً لقلة الامكانات والادلة القاطعة، ولكن يمكن الجزم بأن بالميرا هو الاسم الذي اعطي لهذه المدينة خلال فترة نشأتها كمدينة، بخلاف المرحلة السابقة من تاريخها حيث كانت لا تزال قرية او مقاطعة معزولة يتخللها على مساحات كبيرة بضعة بيوت متفرقة، او في المرحلة اللاحقة خلال الفتح الاسلامي حيث تحولت من جديد الى قرية متواضعة,ويتابع قائلاً: في عام 1920، حين انهارت الامبراطورية العثمانية وبدأ عهد الانتداب الفرنسي على المنطقة، كانت بالميرا مجرد قرية فقيرة, اما اليوم فلا يمكن اعتبارها اكثر من مدينة صغيرة تتسع لتتألق بجلال تاريخها، وما اريد قوله في هذا السباق هو ان ظروفاً ايجابية معينة، هي عبارة عن تلاقي امبراطوريتين: الرومانية والفارسية، نجم عنها تبادل اقتصادي مهم استفاد منه البالميريون من خلال تفردهم بتنظيم القوافل وتسييرها.
اما كيف كانت هذه المدينة ذات الآثار الغنية في المكان الذي وجدت فيه؟ فان الباحث يقول: في نهاية القرن السابع عشر، اهتم الاوروبيون بهذا الواقع جراء قراءتهم للنصوص الاغريقية والرومانية التي تذكر بالميرا في اكثر من مناسبة, كما ان هناك فصولاً بكاملها تتحدث عن الملكة زنوبيا، وهي شخصية رومانسية ساحرة، الامر الذي دفع في البدء ببعض التجار البريطانيين الذين كانوا مستقرين في حلب، الى الذهاب الى بالميرا لالقاء نظرة فضولية على ما تبقى من هذه المدينة الاثرية العظيمة, وقد وجدوا بالفعل هذا الموقع ساحراً على الرغم من خرابه,, فالاعمدة العالية وبعض جدران المعابر والاسوار كانت ما تزال على حالها، بالقرب من قرى هزيلة وفقيرة.
وعن نقاط التقارب والتباين بين مدينتي بالميرا و بعلبك كموقعين اثريين يقول الباحث: هنالك نقطتا اختلاف واضحتان، فبعلبك في الاساس حصن كبير تم تشييده بشكل مختلف تماماً عن بالميرا ,فالبالميريون هم اشخاص صنعوا ذاتهم وان كانوا قد استفادوا من الخارج بحكم موقعهم، وهو امر غير بديهي، في حين ان سكان بعلبك تم اختيارهم قديماً من قبل اليونانيين والرومان على التوالي لابراز عظمة امبراطوريتهم, ومدينة بعلبك كانت مستعمرة رومانية تماماً مثل بيروت بيروت قديماً , والمستعمرة تعني في ذلك الزمان استقرار وحدات عسكرية هيلينية كانت قد اكملت خدمتها العسكرية فوهبتها الامبراطورية بعض الاراضي للاستقرار, وتبعاً للآثار والاسماء التي اكتشفت يمكن القول بأن الاشخاص الذين استقروا في بعلبك وبيروت جاءوا من ايطاليا جزيرة صقلية تحديداً بخلاف بالميرا التي اقام سكانها دائماً في تلك المنطقة وان انضم اليهم فيما بعد اقليات عرقية استقرت الى جانب السكان الاصليين.
وتجدر الاشارة هنا الى ان هدف الرومان في تلك الفترة كان اذهال المخيلات بروعة المعابد وعظمة تشييدها، وبعلبك خير مثال لتلك الهندسة المقصود من ورائها تعظيم الامبراطورية الرومانية, اما بالميرا فهي تماثلها في العظمة من الناحية الهندسية ولكن اكثر جمالية، يطغى عليها الطابع اليوناني من حيث الاستيحاء.
وفي الفصل الثاني الذي يحمل عنوان البالميريون,, سادة قدرهم يتصدى الباحث للكتابة عن خصائص الشعب البالميري الذي استطاع ان يكون سيد قدره، فيقول بهذا الصدد: ميزة البالميريين هي انهم ادركوا تلقائياً في تلك الحقبة امكانية الاستفادة من ظرف معين هو تنظيم وتسيير رحلات القوافل، وقد كانوا على المستوى المطلوب قدرة ومهارة, المعلومات والادلة التي لدينا، وهي من مصدر واحد هو الكتابات، لا تعطي تفاصيل محددة عن حجم القوافل او الجمال او حتى البضائع التي كانت متبادلة, ولكن يمكن القول استنتاجاً بأن الاشخاص الذين كانوا قيمين على هذه الرحلات تميزوا فعلاً بروح المبادرة، على اساس انهم هم الذين بادروا الى انشاء هذا النوع من النقل التجاري عن طريق مدينتهم بدون ايعاز مباشر من قبل طرف ما.
ولكن يمكن الاشارة الى كون زعيم القافلة هو غير التاجر، ولكن مجرد ناقل لبضاعة ما، والبالميريون امتهنوا اساساً هذا النوع من النقل.
ويجيب المؤلف اونست ويل عن تساؤل ظل يطرح نفسه طويلاً في كتابات الباحثين وهو: كيف يمكننا التوفيق بين صفتين يتحلى بهما البالميريون، فهم معاً المشيدون لمدينة بهذه الروعة الهندسية والجوالون المتنقلون الذين اعتمدوا النقل التجاري وعدم الاستقرار,, قائلاً: ان صفة الجوال المتنقل مشكوك بها قليلاً، وذلك لان شعب بالميرا كان مختلطاً, والصحيح هو ان هناك بالفعل من اسميتهم زعماء القوافل الذين كانوا يتمتعون بعلاقات جيدة مع بعض القبائل المتجولة غير الحضرية، ولكن حتى ابناء هذه القبائل المتجولة كانوا معظمهم قد استقروا داخل المدينة وتحولوا الى حضريين, اما عمليات التشييد فقد حصلت بفعل الازدهار الذي شهدته المدينة خلال تلك الفترة الذهبية من تاريخها وتدفق البضائع عليها وعبرها نظراً لموقعها الاستراتيجي/ التجاري بين الامراطوريتين: الرومانية والفارسية, وعلى كل حال فان الهندسة التي اعتمدت في بالميرا مستوحاة مباشرة من الحقبة الهيلينية/ اليونانية,كما يجيب عن تساؤل آخر هو: هل يمكننا التحدث خلال تلك الفترة عن حضارة بالميرية، او على الاقل عن خصائص حضارية خاصة بمدينة بالميرا، خصوصاً وان هناك من يتحدث عن بالميرا السورية وبالميرا اليونانية/ الرومانية وبالميرا البالميرية؟,, فيؤكد قائلاً: ان الامر معقد اكثر مما نتصوره في بعض الاحيان.
فالبنسبة الينا اليوم ، هنالك مثلاً فصل بين حضارة اوربية وحضارة عربية، بخلاف ما كان قائماً خلال تلك الفترة، حين كانت الحضارة العربية شبه غائبة, ويجب بالتالي النظر الى شرق غير عربي تسيطر عليه قوة عظمى هي ايران او بلاد فارس، والتصارع الحضاري كان بين الوجود الفارسي من جهة والوجود الروماني من جهة اخرى,, ولم يدخل العرب في هذه المواجهة فعلياً الا مع الفتح الاسلامي.
اذاً، وللاجابة على السؤال، يمكن اجراء مقابلة بين تأثيرات او عناصر سامية/ فارسية، نظراً للخصائص السامية التي كانت تتميز بها معظم الشعوب الشرق اوسطية ذات الاصل الآرامي، والتأثيرات الرومانية الغربية.
وتجدر الاشارة هنا الى طغيان اللغة الآرامية في تلك الفترة في المنطقة بأسرها، لدرجة ان اليهود او الفرس، او حتى العرب الآتين من الجزيرة، كانوا يضطرون الى ترك لغاتهم الام والتكلم بالآرامية, واللغة البالميرية ليست سوى لغة آرامية مع بعض الخصائص المحدودة, والبالميريون كانوا يتقنون لغتين الآرامية او البالميرية، والرومانية.
وفي عنوان فرعي آخر للكتاب هو البالميريون,, او بندقية الرمل يجيب الباحث عن السؤال التالي: هل يمكننا بالاحرى القول: بالميرا او فينيقيا الصحراء ؟، فيقول: المقارنة سهلة في المطلق، ولكن ذلك لا ينطبق على طبيعة الشعبين البالميري والفينيقي,, فالفينيقيون اعتمدوا على موقعهم الجغرافي الطبيعي للعب دور الوسيط التجاري بين الغرب والشرق، بالاضافة الى خصوصية الشعب الفينقي كتاجر لا يضاهى بذكائه وحنكته وثقافته.
اما على صعيد بالميرا، فالكل يعلم اليوم بأن درب القوافل كان يمر بمحاذاة نهر الفرات, ومهارة البالميريين كانت في اكتشافهم طريقاً اقصر من الطريق التقليدية واكثر اماناً، وتشكل بالميرا عليها نقطة الالتقاء او الانطلاق نحو الامبراطرويتين: الفارسية والرومانية كما ان البالميريين، كما سبق وذكرت، ليسوا شعباً تاجراً على غرار الفينقيين، وانما استفادوا من عمليات النقل التجاري الضخمة التي نظموها لتسجيل ارباح وازدهار للمدينة وشعبها.
وعن تساؤل هام يمكن اختصاره بالآتي: بماذا كانت بالميرا مدينة حرة كما يقول بعض المؤرخين، طالما نلاحظ عبر تاريخها تأثير الامبراطوريتين المحيطتين بها على مسار حياتها السيايسة والاقتصادية والعسكرية؟ يجيب الباحث: بالميرا لم تكن يوماً حرة بكل معنى الكلمة, والمؤرخ القديم الذي تحدث عن بالميرا:المدينة الحرة هو شخصية روماينة محترمة، مما اشاع مصداقية على الفكرة منذ تلك الفترة وحتى اليوم مع الاسف, ولكن يمكننا الملاحظة بدقة اليوم ان بالميرا كانت تابعة لروما ارضاً وقراراً، والآثار تكشف عن تاريخ هذه التبعية وتحدده في العام 19 ميلادي على ابعد تقدير.
في تلك الفترة، كانت المدينة لا تملك قرارها السياسي الذي كان بأيدي الرومان,, ولكن ذلك لا يعني ايضاً الجمود السياسي والاداري في المدينة, كل مافي الامر هو ان هناك اموراً كانت تتهاون فيها روما واموراً اخرى لا تتهاون في التعامل معها من منطلق سلطوي ولكن الملاحظ مثلاً هو ان الرومان لم يتأخروا مثلاً في الاعتماد على البالميريين للتفاوض مع الفرس اوحتى بعض الزعماء العرب في الجزيرة,, على صعيد آخر، كانت مدينة بالميرا حرة على المستوى الاداري الداخلي فقط,, اي ادارة الشؤون الحياتية اليومية لسكان المدينة،وفي الفصل الاخير الذي حمل عنوان مجد بالميرا وعظمة البالميريين يقول الباحث ما موجزه:ميزة البالميرين وعبرتهم للتاريخ هي في كونهم اسياد قدرهم، فلو اعتمدوا السلبية موقفاً وتعاملاً مع روما او بلاد فارس او حتى الداخل على الصعيد الاداري، لما ذكرهم التاريخ, ولكن تبعاً لمئات الكتابات والاثار التي اكتشف حتى اليوم، نرى جيداً انهم هم الذين صنعوا تاريخهم على الرغم من الوجود العسكري الروماني,.
فهؤلاء الآخرون كانوا في المدينة لاسباب تتعلق فقط بالامبراطورية الرومانية, ولكن النشاط الحيوي في بالميرا كان بأيدي سكانها الاصليين.
وعلماء الآثار اليوم يعرفون جيداً البالميريين بأسمائهم واسماء عائلاتهم, نظراً للنقوشات التي اكتشفت، وهي اسماء بالميرية صرفه لاشك فيها,, وعلى الرغم من وجود بعض المستعمرات الاجنبية داخل المدينة، الا انها كانت محدودة الحجم والنشاط,
|
|
|
|
|