| الاخيــرة
شاركت قبل أعوام، قبيل انتقالي من وزارة التعليم العالي، في أول دراسة جدوى، لإنشاء كليات أهلية، بنمطيها الخيري والتجاري، وهي دراسة أوصت بقوة بفتح المجال تدريجياً لمثل هذا النوع من التعليم العالي، بضوابط دقيقة، وإشراف محكم، وبتخصصات منتقاة، لأنها مع الابتعاث يمكن أن تشكل منافذ جيدة، لفكّ الاختناقات المشهودة، لقبول خريجي المرحلة الثانوية وخريجاتها.
وقد التقى الفريق المكلّف بهذه الدراسة يومها بعدد من رموز الاقتصاد الوطني، كأرامكو وسابك والبنوك والغرف التجارية وبكبار رجال الأعمال وبالمؤسسات الخيرية، الذين أبدوا تفاعلاً جيداً مع الفكرة، وبدأوا دراسات موازية جادة، كما تقدم بعضهم بطلبات ترخيص.
وقبل أيام ، سعدت مع مجموعة من أعضاء مجلس الشورى ولجنته التعليمية، بزيارة كلية الأمير سلطان الأهليّة، التي أُنشئت بمبادرة من أهالي منطقة الرياض وأميرها، تذكاراً لعودة سمو الأمير سلطان بعد رحلة علاج، وتعبيراً عن الامتنان لأياديه البيضاء على التعليم، حيث أشرف على اللجنة العليا لسياسة التعليم لعدة عقود، وتثبيتاً لتأريخ تولي سموه إمارة منطقة الرياض بين عامي 1366ه و1369ه في عهد والده المؤسس الراحل رحمه الله.
كان الهدف الرئيسي من الزيارة بالنسبة لي، هو قياس مصداقية الدراسة الأولى، والتعرف على مدى دقة توقعاتها وأحكامها، ومطابقتها للواقع، وكان الهدف الآخر ممن شارك في الزيارة هو المفاضلة بين خياري الهدف الخيري والهدف التجاري في مثل هذه المشروعات، مع أن الخيارين يتقاضيان الرسوم ويحققان الأرباح لكن الهدف الخيري يوظّف الأرباح ويدوّرها لصالح تطوير المشروع وتنميته.
لقد بدأت فكرة إنشاء الكليات الأهلية (التعليم الجامعي الخاص) بعد انتظار طويل، دام أكثر من سبع سنوات، ساده حذر من الإقدام على التجربة، والتوسع فيها، وخشيةٌ من فتح باب قد يصعب قفله كما يصعب تنظيمه وضبطه، فمبدأ تجاريّة التعليم أو على الأصح خصخصته، مبدأ تحيط به تساؤلات كثيرة، وتفترق حوله الآراء، والمؤيدون والمعارضون يستشهدون بالمدارس الأهلية لمرحلة التعليم العام، حيث توجد نماذج مشرّفة منها، ونماذج أخرى دون المستوى، ولهذا السبب، أوصت الدراسة المشار إليها بأن يتم الأخذ بفكرة التعليم الجامعي الخاص، بشكل تدريجي، للتجربة، وأن تبدأ من قبل مؤسسات قادرة مضمونة، حتى لا تتكرر تجربة إنشاء جامعة الملك عبدالعزيز التي آلت بعد حين من إنشائها إلى الدولة، بعد أن تعذّر استمرارها بقدرات الأهالي، مع أن الظروف الآن تختلف كثيراً عن تلك الفترة.
والسؤال الكبير المحيّر، الذي كان يخامر أذهان كل الأعضاء الذين قاموا بزيارة هذه الكلية الرائدة، هو التعرف على أسباب عدم الإقبال على هذه الكلية وشقيقاتها الثلاث في جدة وأبها، رغم أن الدراسات الأوليّة كانت تؤكد على جدواها الاقتصادية، وبدليل ربحية المدارس الخاصة، وبدليل تدافع الأهالي لإرسال أولادهم للدراسة على حسابهم الخاص في الخارج، في مصر والأردن وأوروبا وأمريكا، وفي دبي والشارقة وعجمان، وبدليل تواجد نسبة من أبناء غير السعوديين المقيمين في المملكة، ممن لا تسمح ظروف الجامعات بقبولهم.
هل السبب في ذلك، ضعف الإعلام عن هذه الكليات، أم ارتفاع تكاليف الرسوم؟ أم لأن المجتمع لم يتقبّل بعدُ فكرة تعليم جامعي برسوم في حين يتوافر تعليم جامعي تدفع له مكافآت؟ ، أم أن السبب يكمن في عدم إحداث تخصصات جاذبة، أم أن المسألة هي مسألة وقت أو ثقة، لأن زامر الحي لا يطرب؟,أما بالنسبة لضعف برامج الإعلام عن تلك الكليات، فهو حقيقة، وإن كان من غير المتوقع أن تحتاج مثل هذه المؤسسات إلى ترويج، لأن عملاءها هم فئة الطلاب الذين تغلق في وجوههم أبواب القبول، وهذه الكليات العسكرية والتقنية تواجه إقبالاً شديداً من الطلاب مع أنها لا تقيم برامج للتعريف بنفسها,, وأما بالنسبة لارتفاع الرسوم، فإنه ينبغي ألا تغيب عن الذهن أمور عدة، منها أن الرسوم رغم ارتفاعها لا تغطي كل تكاليف الدراسة خاصة مع انخفاض عدد المسجّلين، وأن بعض المدارس الخاصة تفرض رسوماً مقاربة ومع ذلك يزداد الإقبال عليها، ثم إن تكاليف الدراسة في الخارج ليست بأقل إذا ما أضيفت تكاليف السفر والإقامة، فضلاً عن مزايا الإقامة مع الأهل والعيش في الوطن.
وأما بالنسبة للتخصصات، فإن الكليات الأربع الخاصة التي تم الترخيص لها حتى الآن وبدأت في الرياض وجدة وأبها، تؤكد أنها قد وضعت برامجها بعد دراسة لأوضاع سوق العمل، إلا أنها لا تستطيع البدء ببعض تخصصات باهظة التكاليف والتجهيزات كالطب، إلا بعد اجتياز مرحلة التأسيس وبعد أن تضمن النجاح.
وقد خلُصت دراسة حال هذه التجربة التي تكمل الآن عامها الأوّل إلى أن هذه العوامل صحيحة بنسب متفاوتة، وأن المسألة هي مسألة وقت، تماماً كما حصل مع المدارس الأهلية للبنين والبنات عند بدايات تأسيسها.
المؤكد جداً، أن البلاد بحاجة إلى الاستمرار في فتح باب إنشاء الكليات التطبيقية الأهلية، وبتأنّ وتدرّج، وبتخصصات مختارة، لأنها خيار لابد منه، فالحكومة قد لا تستطيع بمفردها تلبية احتياج المخرجات المتدافعة عاماً بعد عام من ثانويات الإناث والذكور، لكن المهم أن تدرس وزارة التعليم العالي مع هذه الكليات الجديدة الأسباب الكامنة وراء الإقبال المحدود عليها في سنة التجربة، في وقت يتدافع الطلبة نحو الخارج، ويزدحمون أمام أبواب الجامعات والكليات الأمنية والتقنية وأمثالها.
والمرتقب أن يسهم القادرون، والمحتسبون، ورجال الأعمال والشركات الكبرى في إنجاح هذه التجربة بعد أن صدرت لائحتها وانفتح الباب لها، حيث لا نريد لهذه التجربة أن تنتكس أو أن تخيّب التوقعات، في وقت يرتفع صوت المنادين بالخصخصة، وتكثر فيه المؤسسات الخيرية، وتوجّه المنح الدراسية للخارج.
* رئيس لجنة الشؤون التعليمية بمجلس الشورى.
|
|
|
|
|