| الثقافية
وفي ذلك العام أيضا، أشرفت على تحرير ملحق جريدة اليوم الأدبي المعروف باسم المربد وحتى عام 1981م، حيث كان واحداً من الملحقات الأدبية المتميزة في تلك الفترة، بانفتاحه على الثقافة الجديدة والهم الاجتماعي للأدب، والانحياز لقصيدة التفعيلة وتشجيع بواكير قصيدة النثر في بلادنا.
وكان لا بد لتبلور الرؤية الفكرية في خضم مرحلة الطفرة المادية التي عاشتها بلادنا والتي صاحبها فرز اجتماعي وثقافي حاد، من الذهاب في البحث عن أفق آخر حتى الأقاصي ,,,,, وأن يتجدد مفهوم الالتزام والممارسة الحركية، ودفع الضريبة أيضا.
** أتكون هي الأيدلوجيا التي فعلت كل ذلك؟
ربما ، لكن الأمر مضى ضمن حتمياته ومتطلباته المرحلية سواء كان استجابة لحركتها أم تصاديا مع معطيات الواقع، وسواء رضينا من الغنيمة بالإياب، أم خرجنا من التجربة بالهزائم، ولعل روايتي الوحيدة الغيمة الرصاصية التي أصدرتها عام 1998م، تتقاطع في بعض اجزائها مع تفاصيل تلك التجربة وتداعياتها الأخرى.
وبعد تجربة خاصة وعنيفة مررت بها طيلة عام 82م، لم يعد ممكنا اشرافي على ملحق جريدة اليوم أو سواه من الانشطة الادبية، فحمدت للظروف القاسية رحمتها ، حيث تفرغت من عناء نشاطين لهما صبغة الالتزام, وقد كانا رغم المتعة يستنزفان وقتي، فتخلصت من تراث الهندسة نهائيا وأخلصت للعمل في البنك ومتعة التجوال بين كتبي، لردم بعض الفجوات المعرفية بمتابعة ما أمكن الاطلاع عليه من مطر النتاجات الادبية، ابداعا ونقداً، خاصة بعد انشغال ساحتنا الثقافية في المملكة في اواسط الثمانينيات بسيل من المدارس النقدية الجديدة من البنيوية إلى التقويضية، وظهور ملامح الصراع بين حساسية ادبية تستمد مرتكزاتها من الحداثة الى حساسية مغايرة تنتمي إلى ما بعد الحداثة والذي تجلى بشكل سافر في وقائع السجال ما بين شعر التفعيلة وقصيدة النثر.
** وما دمت قد بلغت في حديثي الذي اردته قصيرا فانفرط إلى تماس الصراع بين هاتين الحساسيتين، فإنني أود الاشارة إلى تمايز دلالي لدي يفرق بينهما في واقع شعرنا العربي المعاصر بمعزل عن المطابقة مع أصولهما في الغرب، كما أود التنبيه إلى أن هذا التوصيف لا يراد له ان يكون حكم قيمة وإنما هو تحديد اجرائي للتمييز بين المرجعيتين.
وبالرغم من تعددية معاني الحداثة وما بعدها إلا انني سأصف الشعر المنتمي للحداثة بقدر انحياز رؤيته إلى العقلانية، والحرية، وقيم العدالة الاجتماعية، والمساواة، والانتصار للتقدم والرفع من مكانة المرأة, وفي الجانب الآخر أصف الشعر المنتمي دلاليا لحساسية مابعد الحداثة بقدر ما تعلنه بنيته النصية من علامات التشظي والتشتيت والمجاورة وموت المعنى وغياب بوصلة الرؤيا الاجتماعية, ولذا فإن هذا التوصيف سيشمل شعرا من قصائد التفعيلة مثلما يطال شعراً من قصيدة النثر، حيث تغدو قصائد الماغوط وفوزية أبو خالد نصوصا حداثية رغم انتمائها لفضاء قصيدة النثر.
** ولعل عدم القدرة على التعاطي مع حاضرنا العربي المأزوم بإعادة انتاج آليات استبداديته والمصاحب اليوم لانهيار المشاريع الكبرى أو الحكايات الكبرى بحسب ليوتار وببروز ظاهرة العولمة التكنولوجية والاقتصادية وطغيان آليات الاستتباع السياسي والثقافي، هو ما يدفع الكثيرين من مبدعينا الى الايغال في الفرار من كتابة الامل إلى كتابة الصمت كاحتجاج مهذب ضد اقتيادنا إلى جحيم لم نختر طريقه ولم نستشر في امكانية صنع بدائله وإن انغمسنا في أمل المحاولة حتى الركب طيلة نصف قرن.
** هكذا أطل على سنوات لم يبق منها إلا الوشم في ظاهر القلب, حيث يتماوج المكان، وتتلامع كقناديل تحت المطر أزقة القرية الحجرية وطرقاتها المتعرجة نحو الوديان السحيقة التي كنا نناجيها في مواسم البذار والحصاد ونحنو عليها في تشققات تربتها حين يغيب الغيث، وهكذا تغيم طفولة القرى لتفسح المكان لمخيال الصحراء والبحر وشوارع المدينة.
والحق ان المكان بالنسبة لي عالم ملتبس لا يشفيني منه الحنين إلى القرية وعالمها، ولا الالتقاء بالمدينة ومستجداتها، ولا الاكتفاء بالصحراء ولذعة بداوتها المفقودة، ولكنه في ظل ما يتماوج من احساس به قد تجاوز موضوعية الظاهرة المكانية اي كونها ظاهرة هندسية ليحل مكانها ديناميكيته الخاصة بحسب باشلار , ولذا تنهض بدلا عن المكان ذاكرته التي اصبحت معي استعادة لثقافة بدوية الصحراء الشعرية، وحنينا صوفيا إلى بقايا صور القرى المنسية، ومراوحة سكونية بين معايشة حداثة المدن المؤجلة والاستمتاع بخدماتها الاستهلاكية الما بعد حداثية المتوفرة.
** وإذا جاز لي الحكم، فإنني اعد هذا التشتت الوجداني المترحل موقفا انسانيا وإيغالا عاطفيا مفارقا للتعصب بكافة اشكاله سواء للمنطقة، أو المكان المحدد، أو الوطن او لتحزب اعمى ضد الآخر، وأرى في ذلك الترحل سيماء بحث دائم عن امكنة فاضلة لما تخلق بعد، لذا تتشكل صوري الشعرية كبديل متخيل له، أو كتأجيل للقبض على حميمية لذعة عناق المكان المؤمل واستنطاقه.
تلك هي الأرض التي تنفتح امام تعددية بنية الشعر عندي وعدم انحيازها للشفوي المقموع في طفولتي ضد المكتوب، ولا انتصارها لتشكيل شعري بحد ذاته ضد آخر، لذا تتجاور في تجربتي كل الاشكال.
لست من هواة قتل الآباء، ولا وأد الأبناء، ولذا كنت في صراعي مع أصنام قصيدة العمود اسعى اولا لتثبيت حق قصيدة التفعيلة في الوجود وحق الشعر على شعراء العمود ان يطوروا تجاربهم مثلما فعل البردوني ونزار مثلا لتتواءم مع مستجدات لغة العصر, وفي نفس الأفق سعيت إلى ترسيخ الذائقة لتقبل قصيدة النثر ابداعا وتبشيرا، مثلما استمتع الآن بقصيدة الشعر الشعبي الحديث الذي يقوم على مرجعية مكتوبة منفتحة على اللهجة المحكية العامة للشارع العربي، إذ إن الاصل عندي في الابداع هو الحرية.
** من أجل أن يبقى الشعر (كروح تتفتح شكلا) بحسب باشلار علينا ان نستقبل أجمل ما تبشر به مفاهيم ما بعد الحداثة من افتتانها باشاعة مناخ التعددية وحق الاختلاف، وان نحل فضيلة المنافسة في موقع المصادرة والاقصاء، حيث ينبغي تكريس المنبر الشعري كفضاء مفتوح لقصيدة عمودية معاصرة ارسى اسسها الاخطل الصغير، وسليمان العيسى، ودشّن مدائن حداثتها نزار قباني والبردوني، وان يكون اكثر تهيؤا لتطوير معمار قصيدة التفعيلة فيما يبدعه درويش وسعدي يوسف وشوقي بزيع ومحمد القيسي، بشكل خاص، وقاسم حداد ومحمد العلي ومحمد الثبيتي في اعمالهم الاخيرة، وأن يتسع المنبر ذاته لدهشة نافورة صور قصيدة النثر المخترقة للسائد فيما يبدعه الماغوط، وأنسي الحاج، وعباس بيضون، وعبده وازن، وفوزية أبو خالد وإبراهيم الحسين وغيرهم.
** وحيث تتم استعادة صراع حساسية شعرية تنتج معمار القصيدة العمودية المتمرسة خلف مرجعية الذائقة التقليدية ضد اخرى تشكل فضاء قصيدة التفعيلة خلال الستينيات والسبعينيات فإن الصراع لم يكن شعريا وحسب ولكنه كان في أعماقه ثقافيا يطال الخصوصية والهوية ولذة الاعتياد، وحين ارتبطت قصيدة التفعيلة في تعبيرها الدلالي وهموم الانسان المعاصر، وقضاياه الوطنية والقومية المصيرية، واحتفت في اشتغالها على تشكيل بنية النص باستمرارية ايقاع التفعيلة وباعادة انتاج فاعلية رموز الحضارة والثقافة وتاريخ الأمة، فقد شغلت موقعها الشاغر سلفا في الوجدان الجمعي العربي وفي ضميره وذائقته الجديدة، وبذلك تم حسم الصراع حول مشروعية حضورها في المشهد الشعري، منذ السبعينيات، لا على انقاض القصيدة العمودية وإنما إلى جوارها.
والحق ان قصيدة التفعيلة قد نجحت الى حد كبير في تمثل طموحاتها دلاليا إلا انها لم تبلغه جماليا حيث نراها اليوم ومنذ أواخر الثمانينيات قد اقتربت من نفق النمطية الواضحة في الاحالة المرجعية والقاموس والرموز وبؤر الاستلهام وصيغ بناء الجملة الشعرية.
والحق ايضا ان هذا التعميم يطال تجربتي الشعرية مثلما يصدق على شعر الكثرة من شعراء التفعيلة!
** واليوم تتجلى ملامح صراع آخر بين حساسية التفعيلة بمحولاتها الحداثية وبين حساسية تجربة قصيدة النثر بتجلياتها الما بعد حداثية، وإذا كانت الموسيقى هي عنصر التفريق الحاسم بين الشكلين فإن الفارق الجمالي المتمثل في بلاغة تشكيل الصورة (انزياحا وتفتيق مجاز، وزاوية نظر للاشياء وبناء للجملة الشعرية) يميل لصالح قصيدة النثر، ويؤهلها للقبض على ذرا طموح قصيدة التفعيلة التي حلمت بإنجاز نسق شعري على غير سابق مثال، لكنها لم تبلغه بعد.
إن قصيدة النثر تؤسس لشعرية المدينة الكونية وسيادة الثقافة المكتوبة على الشفوية، فيما تتمثل مفهوم القطيعة مع التراث الشعري العربي باطراحها الموسيقى وتأثيث الحساسية الجديدة بمرجعية مغايرة تجد اصولها في ثقافة الغرب بامتياز، وتمضي هانئة بنقش القصائد على اعشاش العزلة النائية.
** وهنا يطل السؤال التالي برأسه قائلا: ما موقع الذاكرة الشعرية العربية والقارئ المهتم المسكون بها، وأين ملامح الخصوصية وسحنة الهوية التي سيرثها الأحفاد ما دامت قصيدة النثر قد غدت درسا شعريا في ممارسة القطيعة وتغييب ضمير الهوية؟
وللتحايل على هذا السؤال من خلال تجربتي وطموحي، أقرر:
* أولا: ان هذا سؤال ثقافة وليس سؤالا عن الشعر، ولذا فالزمن هو الذي سيحسم امر صيرورة الذائقة وتحديد عناصر ثباتها ومتغيراتها.
* ثانيا: أعد نفسي من ربع قرن من المهتمين بقصيدة النثر كقارئ ومن الذين لا يأنفون مزاحمتها في الساحة الشعرية، والاهم من ذلك هو إيماني العملي بحق مبدعيها في الوجود!، واعجابي بدور المتميزين منهم في إنجاز تجربة غنية ومدهشة تعد اضافة حقيقية لسياق حركة الشعر العربية.
ثالثا : اما حين انظر للسؤال في صيغته كسؤال ثقافة فإنني اجزم بأن دائرة المتلقين ستتقلص حتى تبلغ حدود منتجيها فقط، وحين انظر إلى احتمال ان تكون هذه التجربة هي صورة مستقبل الشعر العربي، فإنني أرى بحنان الى ذاكرة الشعر العربي وهي تنشج أمامي.
ولذلك، وحيث لايمكن للانسان ان يحرث غير ارضه أو زوجته باستثناء اسرائيل أجدني بعد ان استنفدت انتماءاتي السياسية، منتميا لقصيدة التفعيلة وها انني منذ سنين اعمل كمن يتملى جزءا من الفضاء العالي الناهض امام شباكي، لكنني كلما نظرت إلى الاسفل وجدت نفس الحائط يكرر صورته بأشكال مختلفة ويعزلني عما خلفه, لقد ألفته حتى غدا تمثالا من شجر العائلة، ويبدو انه لا خيار لي إلا بهدمه او فتح ثقب صغير فيه لكي تكتمل رؤياي.
هكذا أنظر إلى حساسية شعرية راكمت كمها وكادت ان تستنفد ما أدركته من كيف، وكان علي ان ابحث عني في تشكيل حساسية اخرى لعل مخيالها البعيد قد خط حروفه الاولى في بعض قصائد ديواني الاخير (بأجنحتها تدق أجراس النافذة).
** ولكي يجدد المرء تكوين ذائقته عليه ان يتعرى من جديد، ولكن، ولأن المرء لا يولد مرتين، فإن عليه البحث عن نسق يحفظ للخبرة موقعها، وللعورة ما يسترها، فيما عليه ان يتيح للعين رؤية ما خلف حائط الجيران وتجاوز ما كدسته فتنة الألف وعطالة الاعتياد.
ومع احترامي لما يستمتع به العموديون في قصائدهم من جماليات الزوجات المعمرات، ومع حدبي على ما يحتمله شعراء قصيدة نثر ما بعد الحداثة من طيش عشيقات يرين العالم مفتنا ويجعلن من انفعال الشاعر به مفتنا هو الآخر، فإنني أرضى بمساكنة قصيدة التفعيلة كحبيبة معاصرة لم تستنفد شبابها بعد.
** وإذ أقف بدون جدار يسندني سوى ثقتي بأن الغد يعد بأكثر مما يومض به الأمس، وبأن الاشتغال على خبرة تراكمت يحملني على القول بأن تجربة قصيدة التفعيلة هي خياري الشعري، لأنها شرفة مفتوحة على كل الامداء وفضاء منفتح على منجز الذاكرة الشعرية العربية فيما يخص الموسيقى وعلى شمولية الرؤيا وخيار التحديث، وإشراك المتلقي في العملية الابداعية، كما انها تتسع لتهضم كل الاشكال الاخرى داخل تركيبتها البانورامية المرنة.
وبعد,,.
** وبرغم ان الحداد مازال يليق بالكترا، وبحيفا، وبالأصدقاء، وبي، حيث تموج العتمة حول هزيمة السياسي وانكسار الثقافي وتواضع حصاد عشب الشعر وسنابل الشعرية، إلا ان عينا صغيرة، تدعي الابصار، مازالت مسكونة في قلبي بكهانة الضمير وودع العرافة وبهاء وجوه الحبيبات، وذاكرة شعر الصحراء، وكرت المعايدة الفلسطيني، وما برحت تخاتل ضباب المخيلة وغبش اليقين.
|
|
|
|
|