| الاخيــرة
شبهت في مقالي الأول عن هذا الكتاب، والذي نشر يوم 27 محرم 1421ه الشيخ عبدالعزيز بن عبدالمحسن التويجري (بالبحيرة التي اختزنت ماءها الوافر تحت الأرض آلاف السنين حتى أتاها الزمن الفاعل لإخراج هذه المياه من مكامنها إلى حيث تغني وتقني,,).
لقد عاش هذا الرجل المفكر ستين عاما وهو يتوسّد نتاج عقله، ويفترش مستحلبات ذهنه,, في تردد وتسويف حول إخراج هذا النتاج، من تجويفات أحاسيسه ومكتنزات دهره المليء بمر الحياة وحلوها، الى عالم (الورق) الذي أصبح بعد الستين من عمره الصامت، يَئطُّ أطِيطاً من ثقل ما حمله إياه كخلاصة لتفاعلاته واستصحابه لمعالم وعوالم دنيا قريته، بدءاً، والى العالم الأوسع والأرحب شموليا,, في ردهاتٍ لايصحبه فيها إلا عقله الراصن، وفكره العميق، وذهنه المستوعب، ونظراته الخاصة الى ما يحيط بعالم الكون والحياة.
الحقيقة أني، كغيري، لا أعلم ماذا كان يرصد أو يصنع مع موحيات ذهنه وفكره وتأملاته في ذلك العمر الذي لم يُغِض فيه شيئاً من عطائه الذي رأيناه بعد ذلك منهمرا, هل كان يسجلها على الورق؟ أم كان يسجلها في شريط دماغه الأجود حفظاً واحتفاء وانتقاء,,؟!
أعترف أنني، حتى مع قربه الى نفسي,, وقربي الى نفسه محبة متبادلة، وتقديراً متوارثاً,, لم يخطر ببالي أن أسأله يوماً عما هو موقفه أو مشروعه في ثقافته التي تملأ جوانب ذهنه وفكره بوعي مرادف مستنير ومتطور يتفوق به على بعض أرباب الشهادات,, حيث لم يدخل مدرسة غير مدرسة الحياة,, وثقّف نفسه بأضعاف ماتحققه الشهادات,, بل بَزَّ بقوةِ نَتاجِه وغناه ودماسته، ما قدمه كثير من اصحاب الشهادات الذين جَرَوا وراء كتبه، استفادةً، واستزادةً وإعجابا بما حملته من خصوبة فكر، وروعة اسلوب، وقدرة تصوير وتحبير لرؤاه في سلبيات بعض مظاهر المجتمع، ليس المحلي وحده، بل الإنساني العام الى حد كبير,, وحتى وهو يَلمَسُهم أي اصحاب الشهادات لمساً خفيفا ومهذبا جدا, فهو يعتب، بل ويتحدى بهدوءٍ,, يشير في خاطرته بعنوان (ألا تعودين بي ياراعية الغنم؟) الى إحساسه بموقف يتوهمه من لدن بعض أصحاب الشهادات، بقوله (وما ذنبي يوم كنت من جيل ما قبل النفط والمدارس والجامعات، أن يقال لي لا نعترف بك ولا بورقك؟ فأنت أمي، لماذا يصير لك ورق تحاول أن تطال به أرباب الشهادات,,؟! أبداً ياقائل هذا، لا أطاولك ولا أنافسك، ولكني أحاول أن أستعطف أقداري لتأذن لي أن أجادل نفسي وأقسو عليها بالجدل لعل مُجِيباً يقول لي إن لك مستجيباً فَدَرِّبهُ على الخَطوِ كما تدرب طفلك، وانصَح كل أمي مثلك أن يمارس التجربة ولايسأم من تبعاتها, (فستون عاما) هي تجربتي مع المحاولة، وهي التي كدحت فيها وراء خفياتٍ داخل نفسي أو مجادلات خارجها,,) ص 30.
إذن هذا المفكر الفيلسوف خلال الستين سنة الماضية قبل ظهور نتاجه، لم يكن خارج زمان نتاجه,, بل كان ينتج ويدخر حتى فاضت خزائنه وأفشت ما كان يخفيه من علم وأدب وثقافة تنوء بها الأضبارات,, والخزانات الحديدية أو الخشبية,,
لا تكاد خاطرة من خواطر الشيخ عبد العزيز في كتابه هذا تخلو من وصف نفسه ب(الأمي) مع انه في قرارة نفسه كما هو في واقع الحال من أبعد الناس عن الأمية، لكنه يتجلبب جلباب الأمية المدعاة ربما من باب الاسقاطات المقصودة,, ولو افترضنا انه يقولها تواضعا,, فإننا على كل حال لن نجد واحداً ممن قرأوا كتبه أو بعضها على الأقل إلا وهو يتمنى ان يكون على هذا المستوى من (الأمية) الجميلة,,!
وأقول لأبي عبدالمحسن: لا عليك مما قد يقوله بعض اصحاب الشهادات، واقعاً أو توهماً، فوالله ان كثيراً منهم ليتمنون ان تكون لهم هذه الأعمال الثقافية التي أنتجتها بكل ما لديهم من الشهادات سوى شهادة التوحيد.
* * *
ولا تخلو عبارات التويجري المشار اليها آنفا من العتب المبطن يوجهه الى بعض المنتفخين ,,! من حملة الشهادات إذ يقول في نفس هذه الخاطرة ص 31 (فلنتواضع يا ابن الجامعة ولنضع أقلامنا أمام الورق قبل ان تمشي عليها أفكارنا وخاطراتنا والهامسات فينا بما هومستحيل الوصول إليه,, وإذا أغرتنا الأوراق وأغرانا ايضا هوس الذات بأن تكتب فلنستحضر قارىء الأوراق ونعتذر اليه عن نقائص بشرية فينا لعله يعذرنا).
هذا العتب المهذب يأتي من كاتب مفكر خرج نتاجه في الهزيع الأخير من عمره (أطال الله عمره) ويجد من بعض الطفيليين على الشهادات الجامعية من يشكك في قيمة عطائه لسبب هزيل هو أنه لا يحمل شهادة دراسية! أليس من حقنا نحن الذين أتيحت لنا أسباب الدراسة الجامعية ان نعترف له ولأمثاله ممن يعطي عطاء جيداً أن جودة العطاء ليست مرهونة بالشهادات,, وإلا لأخرجنا جميع علماء الأمة وأدبائها ومثقفيها، ومؤلفاتهم التي تغذت عليها القرون والأحقاب، من دائرة العلم والأدب والثقافة, ولا يقول بذلك عاقل.
الشيخ عثمان الصالح,, ألف بركة,.
في يقيني أن الشيخ عثمان الصالح إذا عُدّ رواد التربية والتعليم في هذا العصر وعلى مستوى المملكة العربية السعودية فسيكون أحد الرواد الكبار.
ومع جميع من تخرّج على يديه من أجيال عديدة خدمت الدولة والمجتمع، كل من خلال موقعه الذي قدر له أن يكون فقد عايش هذه الأجيال كما عايش المجتمع بمثالية أخلاقه وكرم طباعه وورعه وتقواه، ولا أزكيه على الله, ثم انه بعد تقاعده لم يخلد الى الراحة والدعة بل أسهم في الحياة العامة من خلال بعض المهام التي شارك فيها,, وبكتاباته في الصحف المحلية في كثير من ضروب الحياة, كما زكى عمره بالكثير من أعمال البر وصلة الأرحام، وفي العلاقات الاجتماعية التي يغبطه الكثير على الوفاء بها.
ثم هاهي (اثنينيته) الثقافية المتألقة تسهم إسهاماً جيداً في الحركة الثقافية، وتتبوأ أعلى منزلة في الصالونات الأدبية في الرياض جنبا الى جنب مع اثنينية الاستاذ عبد المقصود خوجة في جدة.
وما منحه وسام الملك عبدالعزيز من الدرجة الأولى في الأسبوع الماضي إلا التتويج الأمثل لعمره الغني بكل ما قدّم وأعطى خلال ستين عاما من عمره المديد إن شاء الله
ألف بركة لأبي ناصر بهذا الوسام التقديري الذي هو أهله ومستحقه.
أمده الله بطول العمر ووافر الصحة والسعادة.
|
|
|
|
|