| منوعـات
لا يوجد ما يغري الأطفال واليافعين بالبقاء في البيت, فالبيت والشارع متساويان في كل شيء تقريبا وحتى إن قرر الطفل البقاء في البيت فلن تسمح له امه بذلك (قم رح ألعب في السوق وأنا أمك) فتجد في كل حارات الرياض كوم من الاطفال والمراهقين تتجمع أمام دكان او تحت عاير أو بلكونة مسجد في عز الظهر في عز القايلة، ترتسم على وجوههم ونحورهم وصدورهم العارية الخرائط البيضاء التي ترسم أخاديد ومجاري العرق الجاف، وعندما ينهض الواحد منهم سترى بقعة تراب على ثوبه, بعض الثياب لا يمكن أن تعرف لونها الأصلي من لطخات الدهن التي تتركها الكعابة المتكومة في الجيوب ولمعان الأكمام من مسح المخاط, وبعضها الآخر تحتاج إلى تخمين حتى تعرف أن ما يلبسه كان في الأصل ثوبا, بعضهم حاسر الرأس والبعض الآخر بغترة ملفوفة على االرأس بما يعرف ببنت البكار, وهذه الأكوام من الأطفال هي منجم الذهب لتأمين الرجال المناسبين لكل أغراض الزعامات من أمثال جنجا وزغاليب, فكل كومة أطفال لها رئيس متوج أو غير متوج يتحكم في المصائر, تشكل ماليشيا وحواجز عبور لكل المارة ومن الصعب في ذلك الحين عبور الحارات بمفردك.
كان جنجا في حاجة ماسة إلى مأثرة واحدة فقط حتى يتم تتويجه زعيما على العسيلة والحارات المتحالفة معها, فالمطلوب ليس عراكا تقاليدي أو سرقة دفاتر أو جح, كأنه كان موعودا مع حظه فمن الصعب جدا أن يتحرك أحد في القايلة، لا يوجد في هذا الوقت خارج المنزل إلا الأطفال, ولكن الحظ ساق اليماني ليعبر من أمام كومة ضخمة من الأطفال والمراهقين يتوسطهم جنجا, قام طفل بذيء ربما كان يستعد للزعامة في يوم من الأيام وأخذ حصاة وسفها على اليماني, ولكن اليماني يعرف الفخ فلم يستجب ومضى في طريقه, فصرخ اثنان أو ثلاثة أطفال: (الزيدي محفرة طين طارت به الشياطين), عجل اليماني من خطوه ولكن لم يركض حتى لا يشجعهم على الاعتداء حاول أن يوازن بين الواقع وبين كرامته, فهو لا يريد أن يلتحم معهم وفي الوقت نفسه لا يريد أن يظهر أي ضعف أو تخاذل, ولكن حصاة طائشة ضربته في كوعه فكاد طنين العظم يعميه حتى أن يده فترت للحظة من شدة الضربة فالتفت وقال بغضب: من الكلب اللي رمى بالحجر, رد الجميع بضحكات مكتومة, فقد بدأت اللعبة المطلوبة, تركوه ليعطيهم ظهره مرة أخرى ولكنه عرف أنه وقع في الفخ, وفي الوقت الذي كان يستدير فيه ارتطمت حصاة غادرة بقمة رأسه فأعماه الألم، فالتفت يبحث عن أي واحد يبرد كبده فيه, فهرب جميع الحاضرين (الكبار قبل الصغار) ما عدا جنجا وكما نعرف فجنجا واقعي يقيس الأمور, ولكن اليماني مجروح ومن الواضح أنه أحمق أيضا, ولكن هذا لا يغير من الأمر شيئا, على جنجا أن يجد مخرجا من هذه الورطة الكبيرة، فاليماني طويل ومربوع وأكيد مدمن على الحلبة, فمن الواضح أنه سوف يحطم جنجا النحيف, وفي اللحظة التي اقترب كان أحد الأطفال قد رمى حصاة فأصابت اليماني في جبهته لم تفلقه ولكنها أثارته أكثر وأصبح أكثر توحشا وغضبا, واصبح جنجا في وضع أكثر حرجا إما أن يدافع عن لقبه في هذه الفرصة أو أن يسقط من أعيننا, نعم يريد فرصة, ولكن ليست هذه الفرصة خصوصا أنه لا يحمل سكينه هذه المرة, فإذا خسر فستكون النتائج مدمرة لأحلامه وطموحاته وسيفقد كل الامتيازات التي حصل عليها على مدى السنتين التي أمضاها بين أهل العسيلة, فاضطر أن ينتصب بكامل قامته وحاول تسوية الأمر مع اليماني بالطرق السلمية وفي حدود الشرعية الدولية, ولكن الحصاة الأخيرة بددت روح السلم في داخل اليماني, ولا بد من الانتقام فالموقف اصبح غاية الخطورة فكلا الخصمين له أسبابه التي تمنعه من الانسحاب أو على الأقل تهدئة الوضع عبر التنازلات المتبادلة، وحفظ ماء الوجه, دخل اليماني في سورة غضب واندفاع ولعن أبو الذي رماه بالحجارة وهو طفل يتبع لسلطة جنجا مباشرة، فاضطر جنجا أن يرد بحزم ولكن بدون استفزاز, ولكن اليماني عاد وشتم الذي رماه وشتم جنجا نفسه فرفع جنجا صوته هذه المرة بصورة آمرة ولكنها أيضا تشجع اللجوء إلى السلم, كان اليماني في حاجة لشخص يلتحم معه, فاندفع تجاه جنجا فزاغ جنجا عن وجه اليماني وجاء ابتعاده هذا في صالحه، فالتحما ومن حسن حظ جنجا ان الالتحام وقع على دحديرا, فقد وقف اليماني دون تبصر في جانبها الوطيء, وفي لحظة الالتحام زلت قدم اليماني وفقد توازنه فتشجع جنجا بضغوط من أتباعه والمتفرجين وقرر أن يقطف الفرصة التاريخية ففي حال هزيمة اليماني فهذا يعني نصرا تاريخيا يبقى إلى الأبد,, ويفتح آفاقا للبطولة والبطارة لا حدود لها وسوف يتوج قائدا لسرابيب العسيلة وفي فترة التحولات العظيمة والتي لا يعرف أحد الى متى ستطول.
عصف جنجا بمساعدة الدحديرا بجسد اليماني وألقاه على الأرض ثم ركله برجله, سمعنا صرخة اليماني المكتومة مما زاد توتر جنجا, ولا أعرف هل توتره هذا ناشئ عن نشوة النصر أما الخوف من هزيمة متوقعة, وكلا الحالتين تستحقان التوتر ولكنه أظهر مزيدا من القوة فركل اليماني مرة اخرى على بطنه فالتوى اليماني وانكمش وأصبح موقف اليماني دفاعيا محضا.
في مضاربات الأيام الماضية لا يتوقف القتال باستسلام أحد الطرفين فلابد من حضور فاعل خير يفك بين المتضاربين,, فمن العيب أن ينسحب أي من الطرفين مهما كانت النتائج لذا اضطر اليماني مواصلة القتال على أمل ان تسفر اللحظات القادمة عن فاعل خير, وفي الوقت نفسه رغم النصر السريع والرخيص الذي حققه جنجا ما زالت المعركة في بدايتها وجنجا رغم جهله المطبق إلا أنه ذكي يقيس الأمور, فالمعركة تسير في صالحه لأسباب طبوغرافية, فالنتيجة النهائية لم تحسم بعد, فجنجا كان في شوق عظيم هو أيضا لمن يتدخل في هذا الوقت بالذات ويوقف القتال, فاليماني لم يبدأ أصلا بالقتال وتلقى عددا من الضربات وسقط على الأرض مما سوف يسجل لمصلحة جنجا وسمعته واسهمه, فهو يريد أن يكتفي بالجزء الذي حققه, ولكن لم يظهر أحد من البالغين كان الوقت منتصف النهار وفي عز القايلة وفي الاجازة الصيفية وأهل الرياض جميعا لا نفع فيهم في هذا الوقت فهم مخدرون بالرز والجح واللبن.
فمن الواضح ان اليماني شعر أن أمامه خيارين إما ان يعيد ترتيب المعركة ويعيد تقييم الموقف، ويتقدم باستراتيجية جديدة أو أن يسمح لجنجا بسحقه, ولكن من حسن حظ جنجا أن اليماني يدافع عن جسده فقط بخلاف جنجا الذي يدافع عن جسده وعن لقبه ومكانته في الحارة, وبعد تعارك بالأيدي بهدف السيطرة على جران كل منهما وضع جنجا ثقلا كبيرا على هذا التكنيك القتالي مما سبب له بعض المشاكل وأهمها أنه أتاح لجسد اليماني أن يرتاح قليلا, وأن تهدأ آلامه، كما أنها أعطت اليماني مؤشرا على أن خصمه ليس عنيفا كما يجب، فدخلت المعركة مرحلة يمكن أن نقول عنها مرحلة التكافؤ, وهذا ليس في مصلحة جنجا بحساب عناصر القوة عند الطرفين فاليماني أقوى من جنجا والدليل أنه تحمل عددا من الرفسات وسقوطين غير مبررين، فإذا استمرت المعركة في هذا الاتجاه فهذا يعني أن جنجا سيواجه موقفا صعبا, فكان عليه أن يطور تقنيات جديدة لمواجهة الاحتمالات الجديدة وعليه أن يقدم تضحيات جديدة فالمعركة معركته الحقيقية الأولى وقد تكون الأخيرة, وأخيرا اتخذ القرار حيث تخلى عن وضع النصر المؤقت الذي يتمتع به، والذي ينذر بانقلاب في أي لحظة وسمح لخصمه بالنهوض وجرى هو الى كومة اللبن المرصوف أمام دكان هاشم والتقط واحدة وجرى مرة أخرى ناحية اليماني، في اللحظات التي سيصل فيها اليماني الى كامل توازنه القى جنجا باللبنة على رأسه فتهدمت على قمة الرأس وتناثرت على جسده, صرخ اليماني صرخة أخرجت المحتل من بيته وهاشم من دكانه وشاهدنا الدم يتصبب ويغطي قميص اليماني, كانت ضربة معبرة عن نصر عظيم بأقل التكاليف, فتدخل هاشم وتدخل المحتل وصاحا في المتحاربين (تعوذوا من الشيطان) ورغم ان اليماني لم يصب بأذى حقيقي ولكن انفجار الدم ثبت في قلبه روح الهزية فتدخل أهل الخير في هذا الوقت ألغى مبرر الدفاع المميت الذي كان سينشأ بعد هذه الضربة, ولكن هذا مجرد تخمينات وتحليلات فالمحصلة النهائية ان جنجا سحق اليماني تماما فلم يسجل خصمه اي نقطة تستحق الذكر مما رشحه بطلا للعسيلة بلا منازع, فلو صادف مكان اللبنة حجر صلب فلا أظن أن جنجا سيتردد في استخدامه لأنه كما ذكرنا يسجل موقفا تاريخيا لا يمكن التضحية به مهما كانت التضحيات, صرخ هاشم من جهة والمحتل من جهة ثانية توقفا, فتوقف جنجا عن الصراع واليماني لم يكن في حاجة لتلك الصرخة لأنه لاذ بالفرار وليؤكد جنجا موقفه الجديد لحق باليماني بقوة ولكن بتباطؤ وهو يصرخ (إذا شفتك في الحارة مرة أخرى قصيت رقبتك) راح يكررها حتى بعد ان غاب اليماني عن الانظار فهي في الواقع رسالة موجهة لكل الأطراف وليست لليماني وحده, أو أنها البيان رقم واحد لاستيلاء جنجا على قيادة العسيلة, انتشر خبر هذه المعركة كالنار في الهشيم فعرفت العسيلة والحارات المتحالفة في وقت قياسي, فتأكدت زعامة جنجا وتحولت كل امتيازات الأقوياء لجنجا.
ولكن الزعامة ليست في الوصول إليها وإنما في الحفاظ عليها.
ما الذي سيحل بجنجا في المباراة الكبرى التاريخية التي ستجرى وقائعها على ملعب نمور النصر بين فريقي نمور العسيلة وأشبال حوطة خالد.
يوم الأربعاء القادم سنشاهد تسجيلا حيا لوقائع تلك المباراة والأحداث التاريخية المأساوية الناجمة عنها.
لمراسلة الكاتب yara2222@ hotmail.com |
|
|
|
|