| الثقافية
* حوار: شريف صالح
عبر خمسين عاما قضاها الدكتور عبدالقادر القط في رحاب الثقافة ناقدا وباحثا، يدور هذا الحوار,, عن محطات العمر الجميل وتحولاته، حيث كان الدكتور القط ولا يزال متابعا مخلصا للحركة الأدبية في مصر وليبيا والكويت وغيرها من البلدان العربية,, يكتب في مقاله الاسبوعي بجريدة الأهرام، وفي الدوريات العلمية المختلفة عن الشعر والمسرح والرواية.
وفي تقدير واعزاز تدخل الجزيرة الى شطآن حياته العلمية، لتقف عند أهم محطات عبدالقادر القط.
في محراب اللغة العربية
* بعد تراكم الخبرة والعمل الثقافي,, لنعد الى الوراء قليلا الى العلاقات المضيئة التي ساهمت في تكوينك؟
في الوقت الذي نشأت فيه كانت اللغة أهم ركائز المعرفة، لانها كانت تمثل في نهضة المجتمع العربي تحقيقا للوجود القومي الذي فقده ذلك المجتمع خلال سنوات طويلة من الحكم المملوكي والتركي, كما كانت تمثل سلاحا قوميا يواجه به العرب وسائل الاحتلال الأجنبي ومحاولاته اضعاف الشعور القومي باضعاف اللغة المشتركة التي تحمل اليهم قيم تراثهم وتعبر عن طبيعة حياتهم المعاصرة, لذلك كان الاهتمام ملحوظا باللغة العربية في التعليم العام، حتى في مراحله الأولية، في سائر الدول العربية, وكان مدرس اللغة العربية على مستوى عال من المعرفة والكفاءة، وكانت اولى خطوات المثقف العربي آنذاك ان يقرأ بعض أمهات كتب التراث وبعض فنون الأدب الجديدة في الرواية والقصة القصيرة وفي الشعر الحديث بعد ان تطور على يد ما أسميه بالاتجاه الوجداني أو ما يعرف عند الدارسين بالحركة الرومانسية.
لذلك كان من ينبغ في اللغة العربية وآدابها وفكرها يلقى اعترافا كبيرا من المجتمع وتقديرا يشعره بقيمة معرفة اللغة وتراثها، ويغريه في كثير من الأحيان بالمشاركة في جوانب أخرى من نهضة المجتمع في السياسة والاقتصاد والأخلاق, وما زال الناس يذكرون بالتقدير عددا من هؤلاء النوابغ الذين استطاعو بريادتهم في هذا المجال ان يتجاوزوا وجود عصرهم ويظلوا مثلا يحتذى في التفوق.
رومانسية على شاطىء البحر
* اذا كان الأساتذة يمثلون علامة في التكوين وحراسا لآداب اللغة العربية، فماذا عن أثر البيئة؟
اذا جاء ان يكون للبيئة أثر في توجيه مواهب المرء وانماء بعض الاستعداد الفطري لديه، فقد كان للطبيعة التي نشأت فيها أثر واضح في اتجاهي الى الأدب، وبخاصة الشعر,, لقد نشأت في بيئة كثيرة الخضرة والماء تنتهي الى البحر وتقدم مشاهد متباينة ما بين زرع ورمل ونخيل وماء بحر، وذلك في احدى قرى بلقاس من ناحية البحر الابيض المتوسط, وكانت القرية المصرية في ذلك الوقت تعيش على الفطرة وتغزو ببساطتها الموهبة الشعرية الناشئة التي أتيح لها ان تنمو من خلال التعليم.
* اذا تكلمنا عن المرحلة الجامعية ودورها الثقافي, فماذا يبقى في الذاكرة عن تلك المرحلة؟
حين فرغت من دراستي الثانوية جذبتني الى كلية الآداب أسماء لامعة كان لها وجودها المرموق في المجتمع المصري والعربي، فالتحقت بقسم اللغة العربية ارضاء لنزعة فطرية بداخلي ومأخوذا بسحر تلك الأسماء الكبيرة مثل طه حسين وعبدالوهاب عزام وأحمد أمين ومصطفى عبدالرازق وأمين الخولي والمؤرخ الكبير عبدالحميد العبادي وأستاذ النحو المجدد ابراهيم مصطفى وغيرهم, وكان لكل أستاذ من هؤلاء الاساتذة الكبار أسلوبه الخاص في التدريس والمحاضرة، فقد كان طه حسين مثلا يلقي محاضرته لطلابه كما كان يلقي محاضرة عامة للجمهور، ولم تكن بينه وبين طلابه في المحاضرة صلة شخصية عن طريق السؤال والحوار, بعكس الأستاذ أمين الخولي الذي كان شديد الصلة بطلابه حريصا على محاورتهم الى حد الاشارة وكأنه كان يقصد الى تعليمهم الجدل والنظر في كل ما يبدو انه حقائق مسلمة بفكر جديد قد ينتهي الى الايمان بها او الى تغييرها او الاضافة اليها.
جامعة لندن وجامعة القاهرة
* من خلال علاقتك بهؤلاء الأساتذة الكبار لاشك انك تعلمت الكثير، وخاصة ان علاقتك بطه حسين امتدت الى ما بعد الدراسة,, كيف كان ذلك؟
كانت الظروف قد أتاحت لي بعد الانتهاء من الدراسة ان تكون لي بطه حسين صلة وثيقة بعد التخرج اذ عهد اليّ مع زميلي الراحل الدكتور عبدالعزيز الأهواني بتحقيق كتاب الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة لابن بسام، وهو في تاريخ الأدب الأندلسي نظير الأغاني في تاريخ الأدب المشرقي، وكنا نعمل باشراف الدكتور طه حسين والأستاذين أحمد أمين وعبدالحميد العبادي.
ثم امتدت الصلة حيث كنا نزوره في منزله ونعرض عليه ما يجد في حياتنا من مشكلات وقد عهد اليّ عندما كان مديرا للادارة الثقافية للجامعة العربية بترجمة مسرحيتين من مسرحيات شكسبير من خلال مشروع كبير لترجمة أعماله الكاملة.
* في محطة تالية سافرت الى لندن لنيل درجة الدكتوراه في الأدب العربي,, فماذا لو عقدنا مقارنة بين حياة هنا وحياة هناك؟
لقد سافرت الى جامعة لندن وبقيت هناك خمسة اعوام انجزت خلالها رسالة عن مفهوم الشعر عند العرب وكنت في ذلك الوقت في مرحلة الشباب المقبل على الحياة المفتون بما في الحياة الأوروبية من حرية ومن طبيعة جميلة، خاصة وانني شديد الولع بمشاهد الطبيعة ولعل ذلك كان وراء هوايتي للتصوير الفوتوغرافي الذي اجد فيه ترويجا جميلا ورضى نفسيا طيبا عند التقاط صورة فنية ناجحة, ولذلك كنت كثير التنقل من لندن الى باريس والريفيرا وايطاليا وسويسرا وغيرها.
أما بالنسبة للبحث العلمي في جامعة لندن، فلا استطيع ان أحكم تماما على الصلة بين الطالب والأستاذ المشرف الا من خلال تجربتي الخاصة، فقد ترك لي المشرف الحرية الكاملة في البحث، حيث كنت اعرض عليه الفصل من البحث فيرضى عنه، ربما لأنني من خلال تجربتي الطويلة كنت قد بلغت مستوى علميا يؤهلني لأن اكتب اعمالا تلقى القبول,, لكن ربما هناك مستويات من الاشراف تشبه مستويات الاشراف في الجامعات العربية التي يصاحب فيها المشرف عمل طالبه ويطلب منه قدرا كبيرا من التعديل والتطوير حتى تصل الرسالة الى مستوى يرضى عنه الأستاذ ولقد استفدت استفادة شخصية في تلك الفترة من مكتبتين اساسيتين: مكتبة المتحف البريطاني ومكتبة مدرسة اللغات الافريقية والشرقية.
الشاعر الذي كان
* هناك محطة هامة في حياتك تكاد ان تتوارى تماما بعيدا عن دائرة الضوء واعني بها كتابة الشعر لا نقد الشعر؟
ما بين الثانية والعشرين والسادسة والعشرين كنت أقول الشعر الرومانسي قبل ان أسافر الى انجلترا وهو شعر رومانسي يقوم على تجربة الحب التي يسقط عليها الشاعر موقفه من الناس والحياة والكون وهو الموقف نفسه الذي يتخذه كثير من الأدباء والفنانين حين يسقطون هذه الرؤية على تجربة الحب، التي يلتقي فيها المثال بالواقع والتي يعبر الفنان فيها عن كثير من العواطف الدفينة والمركبة خلال هذه التجربة الحية.
كثير من الشعر يقوم على المواجهة بين المثال والواقع وتنتهي المواجهة في اغلب الأحيان بأن يتحطم المثال امام قسوة الواقع، وبعض قصائدي كانت في معان قومية لكنها مغلفة بجو رومانسي بعيدا عن الخطابة والنبرة العالية كأنها قصيدة حب من نوع آخر.
* ألم تجمع هذا الشعر في ديوان ما؟
بالطبع حين اجتمع لدي عدد من القصائد نشرته في ديوان اسميته ذكريات شباب لأنه كان قد انقضى على نشر آخر قصيدة فيه خمسة عشر عاما وأصبح لا يمثل شعوري بالحياة، اذ كان شعوري قبل ذلك شعورا رومانسيا خالصا، وربما تغيرت نظرتي ايضا الى التجربة من خلال اقامتي في بلد أوروبي مدة طويلة، بالاضافة الى انشغالي بالدراسات النقدية بعد ذلك.
* ألا يمكن ان تسمع المتلقي صوت الشاعر الذي بداخلك؟
أذكر مقطوعة لي كتبتها في ظروف خاصة، تمجد الحزن وترى في الفرح شعورا سطحيا أقول في بعض أبياتها:
تعالى فتنة القلب تعالى نشوة الصاح أقص عليك من كربي ومن شجوي وأتراحي تعالى فالأسى فن الى الأرواح سباق عميق ذلك الحزن ومافي الفرح أعماق تناسى حلمك الساري على أضواء ماضيك وهيا فاشهدي ناري لعل النار تهديك حياتي كلها شفق قصير العمر مجروح مضى ما صمه أفق ولا طربت له روح |
|
|
|
|
|