| الاخيــرة
قابلت عبدالعزيز مشري مرة واحدة فقط في حياتي وحياته,, كان ذلك في المستشفى العسكري بالرياض,, خلال إحدى جولاته المريرة الكثيرة مع المرض,, كان محاطاً بأصدقائه: سعد الدوسري، وصالح الأشقر، وعبدالله الصيخان وآخرين من اليمامة والرياض والجزيرة,, وكلهم، يومها، كانوا حزينين متألمين,,والوحيد الذي كان مشرقاً مبتسماً لايأبه للمرض الذي يعوث في جسده فساداً,, الوحيد الذي كان لايلقي بالاً للألم الذي كان يأخذ بمجامع وجدانه هو عبدالعزيز مشري نفسه.
من سوء حظي أنني لم ألتق عبدالعزيز بعد تلك المرّة,, فلما علمت بوفاته شعرت بفداحة تقصيري الشديد حياله,, فزيارة واحدة للمشري لم تكن أبداً كافية!,, ولعل الذي لم يجعلني أكرر زياراتي له أن معرفتنا الشخصية في الأصل لم تكن لصيقة، وأن ملازمة الأمراض والآلام للمشري لم تكن عابرة أو متقطعة,, بل هي مع الأسف كانت دائمة ومستمرة حتى أصبحت لكل متابعي أخباره مثلي جزءاً منه ومن حياته المترعة بالعذابات والنكسات,, فليس هناك إذن من طارىء يستوجب الاستنفار,, أو من جديد يستوجب إعادة ترتيب الأوراق!!.
أنا لا أريد هنا أن أبرر تقصيري مع المرحوم الاستاذ عبدالعزيز مشري ولكني بالأحرى أريد ان أشرح حالة استثنائية لم يحدث لها مثيل ألا وهي علاقة المشري مع الآلام والمصائب,, وأستطيع أن أقول بأنني منذ أن سمعت عن عبدالعزيز مشري,,ومنذ أن بدأت أتابع أعماله وإبداعاته كنت أعرف أنه مريض,,وأنه لايخرج من كارثة إلا ليدخل كارثة أخرى أشد,, فلعلّي هكذا فتحت عيني على المشري والألم جزء منه,, جزء من شخصيته,, فكلما جاء ذكر للمشري أو ذكر لبعض أعماله كانت صورة المرض,, صورة العذابات,, هي التي تكون حاضرة, وإذا ما حضَرَت هذه الصورة كانت الصورة الأخرى التي رأيته عليها في زيارتي اليتيمة له بالمستشفى العسكري بالرياض حاضرة هي الأخرى,, وهي صورة لشجاعة نادرة كان يتمتع بها المشري,, صورة الصمود والمقاومة,, لدرجة أنني كنت أحسّ دائماً بأن عبدالعزيز مشري هو الذي قهر الألم وهو الذي تحدّاه وتفوّق عليه، فلم يترك له الفرصة ليسكته أوليوقف النبض في قلبه ووجدانه وعقله!,, ولقد كان الإبداع هو أهم أدوات حربه ضد اليأس والسكون,, كانت الكتابة هي سلاحه الفتّاك الذي قهر به سنوات طويلة من المرض، ذلك الصديق اللدود الذي لم يفارقه إلاّ وهو على حافة القبر!
لقد أخرج لنا المشري من بين ركامه أو حطامه أعمالاً إبداعية تلقفها النقاد والناس بكثير من الحب فأثرت عقولهم ووجدانهم,,وبقيت شاهداً نيّراً على قلب كبير خصب لم ينله الخور، وظلت دليلاً ساطعاً على عقل متوقد متدفق لم يصبه الوهن على الرغم من فظاعة الأحوال والأطوار التي كانت تحيط بصاحب ذلك القلب، وصاحب ذلك العقل!
لابل إن طموح المشري قد تجاوز كل ظروفه السوداء,, فكان فيما أحسب هو أول من جرب كتابة الرواية بين معاصريه من مبدعينا، فأخرج لنا وسمية قبل غازي القصيبي أو تركي الحمد او عبده خال أو منصور الخريجي أوغيرهم,, فهو هكذا أول من حطّم الجدار الوهمي الذي كان يقف بين مبدعينا وبين هذا الفن الراقي من فنون الكتابة,, أي أنه هو الذي وضع البذرة الأولى في الحقل الجميل الذي أخذ ينمو من حولنا وعلى أيدي مبدعين لفتوا إليهم الأنظار في داخل بلادنا وخارجها!
لعل المشري قد استراح مماكان يكابده,, فليس له علينا إلاّ الدعاء بالرحمة والمغفرة إن شاء الله!
إننا حزينون لفراقه,, ولكنه سيظل مقيماً بيننا,, بل إنه سيرافق الأجيال التي ستأتي بعدنا,, لأنه ترك وراءه أعمالاً إبداعية ستقاوم الموت بأكثر مما قاوم هو نفسه المرض!
عبدالعزيز مشري,, لم يمت كالآخرين,, لقد مات واقفاً,, مات وقلمه مشرع في يده,, لمزيد من النزال,, مزيد من الإبداع.
|
|
|