كنت أعلم أن عبدالعزيز المشري يعاني في المستشفى,, وأن معاناته ليست وليدة ظرف عارض,, فقد عايشها مكابدة يومية وكأنه منذور لها منذ سنوات صباه.
وأعلم أيضا أن الموت حق,, بل هو الحقيقة الأخيرة القاطعة التي لا مفر منها,, باب سنطرقه واحدا بعد الآخر؛ يأتي قضاء من الله لا مرد له.
ومع هذا فخبر العبور الأخير يأتي دائما مؤلما ومروعا.
حيث أخبرني عبر الهاتف صديق مشترك عن وفاة عبدالعزيز المشري وجدتني عاجزة تماما عن التعبير في صدمة عميقة رغم توقع الحدث, فقد كنت حتى جاءني ذلك النبأ اليقين اتشبت بتلك القشة الطفولية انه بمعجزة ما سيخترق معاناته ويبقى ليبدع لنا,, ولنا نحن بالذات,, اذ لم يكن يبحث في ابداعه عن البروز الادبي بل فقط يكتب ليحرر ذاته الحبيسة في اغلال الألم الجسدي وليعبر عن معاناته في حصار الواقع الضاغط,, وليكشف عن حبه العميق لهذا الوطن.
وذاك سر معزته الكبيرة عندي.
بقدر ما كان نبض إبداعه وحميميته بالنسبة لي يؤكد لي أنه سيشرع ابواب العالمية.
بقدر ما كان المرض يتغلغل فيه ويخترق جسده الواهي كان عشق الحياة والوطن يتغلغل في قلبه ويزهر في كتاباته عبدالعزيز المشري.
ربما هو اول واحد فينا لم يفقد اصالة اللغة الطفولية,, وأول واحد فينا حاور الوطن ببساطة اللهجة القروية ونقاء الاجواء الجبلية وعمق الارث الذي يأتي من الارتباط بالارض ثم فوق ذلك هو يتكلم بوضوح الصوت الذي رعته فضاءات الجبال وافاقها وزهورها فاكتسب على بساطته ذلك الصدى القوى المجلجل.
كان يكتب عن الوطن وعشقه له بصوت يفهمه كل عاشق آخر لهذا الوطن,, ولم يكن صوتا يستقي نكهته ولانبرته ولا جذوته من مصدر اخر عاكس كمرآة ثم لا يحتوي شهقة او بحة العشق الحي.
قبل سنوات كتبت عن عبدالعزيز المشري وعن تميز ما يكتب هاتفني عندها وعرفني بنفسه, وشكرني على ما كتبت عنه,, قلت له: انما كتبت ما أومن به,.
وإبداعك متميز فعلا.
وظللت اتابع ابداعه ويهديني مؤلفاته كلما استجد كتاب.
ثم,, وصلني مؤخرا انه في المستشفى,, ورفضت ان أصدق أن صوتا مثله يخضع للغيبوبة,, يصمت دون خيار.
وكتبت عنه,, بل له هذه المرة,, وتمنيت له الشفاء.
قبل أن ينشر ما كتبت جاءني نعيه,, موجعا ومذكرا بالحق, رحم الله عبدالعزيز المشري,, وتغمده في جنان المبدعين.
وأحسن عزاءنا فيه كلنا,, ذويه ومواطنيه وعشاق أدبه.
وألهم ذلك الوطن الذي عاش عاشقا لجباله وحصونه وزهوره,, الصبر والسلوان,, والوعي بقيمة المبدع قبل فقده نهائيا,.
ولعل إحساسنا بهذا الفقد يدعم مطالبتنا بأن تقوم مؤسسة رسمية تظلل المبدعين وتمنحهم الشعور بالانتماء والرعاية كحق لابداعهم على الوطن,, قبل أن نفقدهم,, ويفقدهم الوطن.
|