| شرفات
في قصيدته الحرية يقول:
كوني معقلي دائماً أيتها الحرية الغالية، يا أم الفضائل كلها، يا أم الوطن,,
***
ولد اندريه شنييه في اسرة مرموقة، اذ كان الاب تاجراً ثرياً وقنصلاً لفرنسا في بعض الدول، والأم اليونانية الاصل تتمتع بثقافة رفيعة وتدير صالوناً ادبياً يغشاه اهل الصفوة في المجتمع الباريسي,, مما اتاح لشنييه الفرصة كي يتتلمذ على يد اصدقاء والدته، بجانب تخرجه من كلية نافار العريقة ولاشك ان هذا الجو الهادىء اتاح له فرصة العزلة الناعمة كي ينهل من اللغات والآداب الاوربية بدأب شديد الى ان طلب الاب السياسي من ابنه ان يختار لنفسه مهنة في الحياة، فآثر ان ينتسب لحياة الجندية والحرب، والتحق باحدى فرق المشاة في ستراسبورج، وماهي الا اشهر قليلة حتى استقال بفعل الملل والسأم، وقفل عائداً الى الغناء والشعر تحت اضواء باريس.
كتب، ورسوم، واقلام متناثرة بغير نظام هنا أنام، وأغني، وأقرأ، وابكى، واعكف على الدرس، وهناك افكر فيما سوف اكونه يوماً من الايام فأجدني اصفق وحدي لنفسي، من فرط الاطمئنان: اني ابذر ما أريد ان اجني .
نوبة من التفاؤل والمرح وحيوية الشباب,, توق دائم الى الحرية,, الى الترحال في حنايا لندن وايطاليا واثينا بحثاً عن عرائس الشعر اينما وجدت، ولا مانع من النزق وبعض المغامرات العاطفية والحياة البوهيمية التي تعلى من سعادة اللحظة.
ثم جاءت ساعة الصحو وعُين شنييه موظفاً بالسفارة الفرنسية في لندن، ليقضي هناك ثلاث سنوات متواصلة، ومرة اخرى تصيبه نوبة السام والملل من العمل الروتيني، اذ شعر انه يقبض راتباً دون عمل ما يقوم به، كما ان الانجليز يتمتعون بصلف وبرود تأباه روح المرح والتفاؤل بداخله، فاعتزل الوظيفة الدبلوماسية واعتكف على الشعر وحده فحسب.
في تلك الاثناء كانت احداث الثورة الفرنسية تتوالى وتشتعل ناراً ودماً، ووجد شنييه نفسه ينخرط ضمن جمعية انصار الدستور التي انفصلت عن اليعقوبيين واصدرت جريدة الجمعية حيث يكتب فيها مالويه وكوندورسيه وغيرهما, وكان ان كتب شنييه بياناً للشعب الفرنسي عن اعدائه الحقيقيين، واذا بالجمعية تتصدع فيستقيل كوندور سيه واتباعه، وتغلق الجريدة، وتتلقف الدول الاروبية هذا البيان الثائر باعجاب ودهشة، لدرجة ان ملك بولندا ارسل الى شنييه خطاباً يثني عليه كما اهداه ميدالية شرفية عن هذا البيان,.
لقد آن اوان الانصهار في بوتقة الثورة,, في بوتقة الحقد والالم الذي يعصف بنفوس الكرام,, ويتقدم شنييه للانتخابات مرشحاً عن الجمعية الوطنية، دون ان يتزلف لحزب من الاحزاب، ودون ان يجاري الشعب في حالة الفوضى السياسية، قائلاً: ان على الانسان ان يقاوم الشعب ليستطيع ان يخدمه .
وكان السقوط والفشل في الانتخابات,, وكان المقال سلاحاً اشد ضد الخصوم السياسيين وعلى رأسهم شقيقه ماري جوزيف الذي بادأه بالخصومة والهجوم عليه وعلى افكاره لحساب كوندورسيه, ومما زاد الطين بلة ان شنييه كتب مقالاً نارياً ينتقد فيه احتفال اليعقوببين بالجنود النمساويين وتكريمهم كأنهم الغزاة الفاتحون, كم آلمته هذه الفضيحة وآلمه اكثر ان يشترك في الاحتفال شقيقه ماري جوزيف، فجهر برأيه قائلاً ان من الخير، من شرف النفس، بل من دواعي اللذة والسعادة ان يتعرض المرء جراء فضائله لمقت الجبابرة العتاة الذين يضطهدون الحرية باسم الحرية نفسها , كأنه يردد المقولة الشهيرة لاحدى نساء الثورة:ايتها الحرية كم من المظالم ترتكب باسمك .
وفي مشهد درامي عنيف افلت شمس الملكية في فرنسا وسيق الملك لويس السادس عشر الى المحاكمة، واذا بشنييه ينبري للدفاع عنه، ايماناً بالحرية والعدالة لا اعجاباً بالملك، وقيل انه صاغ الكتاب الذي تلاه الملك امام المؤتمر طالباً الاحتكام للشعب.
وبدلاً من الاحتكام قطعت رأس الملك واصبح شنييه مهدداً بالاغتيال او السقوط تحت مقصلة الثورة في اية لحظة حتى شقيقه وخصمه الياسي ماري جوزيف اشفق عليه وساهم مع الآخرين في تهريبه بعيداً عن بطش الثورة ليعيش شنييه اياماً عصيبة في عزلة اجبارية ينسج احزانه في قصائد لا تلين، وكأنه يكتب بأشعاره وثيقة اعدامه مبكراً.
ظن شنييه بعد وقت ان عين الثورة قد غفلت عنه، فقام بزيارة اسرة باستوريه المعتقل منذ فترة وجيزة، فاشتبه فيه احد افراد الامن العام واستصدر امراً باعتقاله، ثم سيق الى سجن سان لازار، في نفس الوقت الذي سيق شقيقه لويس الى سجن آخر,, ولم يستطع الاخ الثالث ماري جوزيف رغم نفوذه ان يفرج عن اخويه، وان كان قد تلقى وعداً بابقاء ملفات الاخوين تحت سائر الملفات.
بل ان البغض المتبادل بين ماري جوزيف وبين روبسبير سرعان ما جعل ماري جوزيف ايضاً عرضة للاغتيال والمطاردة، يفر كل ليلة من دار إلى دار، ليعيش الاب العجوز مأساة ابنائه الثلاثة دفعة واحدة، فراح يتوسل الى غرفة المشورة المكلفة بفحص حالات السجناء كي تفرج عن ابنيه,, وقيل ان طلبات الاب كانت السبب وراء تذكر افراد الامن العام بقضية شنييه، وكان تكرار سعي الاب لدى السلطات كان سبباً في تعجيل ارسال شنييه الى المقصلة.
ففي 25 يوليو غادر شنييه سجن سان لازار متوجهاً الى السجن الذي اودع فيه اخوه لويس وهو لا يدري!! ثم رحل عن السجن دون ان يودع اخاه ومضى في عربة حمراء مكشوفة الى محكمة الثورة التي اتهمته بنشر مقالات تنتقد الاحتفال بجنود الفرقة النمساوية وما ان قرأ ماري جوزيف اسم اخيه في قائمة الضحايا حتى خرج من مخبئه وذهب معاتباً الاب بأنه السبب في اعدام اخيه، وكان الاب وهو سياسي قديم يجهل العداوة الشخصية بين ابنه ماري جوزيف وبين مدير الامن العام، الذي طالما استعطفه كي يفرج عن شنييه فاذا به يعجل بارساله الى المقصلة.
وربما لو تأخر اعدام شنييه يومين اثنين لنجا من مقصلة الموت، اذ ان روبسبير نفسه عدو اخيه قد سار الى ذات المقصلة في يوم 28 يوليو وذاق من نفس الكأس، مما ضاعف احزان الاب واحزان الاخ على قدر شنييه الذي اودى بحياته يوم 26 يوليو!!
كان شنييه يسير الى المقصلة منشداً في ثبات:
مثلما يلمع شعاع أخير
وتسري نسمة اخيرة
في اصيل يوم جميل
أقف على سلم المقصلة وقيثارتي في يدي
أنشد على اوتارها لحن الوداع للوطن الحبيب
ثم انقطع صوته فجأة اذ يقترب الجلادون منه,, واذ يقترب هو خطوة اخيرة نحو نهايته,, واذا به يضرب بيده على جبينه قائلاً:
واأسفاه أن يُطاح بهذا الرأس ولم تزل فيه أشياء وأشياء!! ,
|
|
|
|
|