| محليــات
حضرت في العقدين الأخيرين من المؤتمرات العالمية في المجالات المختصة بعملي واهتماماتي ما يكفي لكي أتوصل الى حقيقة جذرية: إن القرارات التي تسيّر العالم لا تتخذ بناء على ما تؤكده حقوق الإنسان,, بل بناء على مدى قوة من يطلب هذا القرار او ذاك ومدى ما يستطيع تحقيقه من دعم ومساندة من الآخرين,, والقوي يفرض رأيه بالترغيب حينا وبالترهيب حينا.
ولذلك مصيري ان نحقق حضورا محسوسا كمجموع واع لهويته المجتمعية ولمصالحه المشتركة اقتصاديا، تخدمها السياسة الموحدة الهدف, ثم تستوعب الآخرين وتحترم حقوقهم لتضاعف العطاء, وقراءة تاريخنا العربي الإسلامي تقنعنا بذلك,.
حافظ العرب والمسلمون على موقع الصدارة في العالم الذي عرفوه بروح القيادة التي تتقبل للآخرين, وإتاحة الفرصة لهم لعضوية فاعلة تشترك في صنع الحضارة الإسلامية وتساهم بالفعل في الاضافة اليها,, نعم,, لقد كان الدين الإسلامي رسميا قوة توحد المجموع,, وضاعف تلك القوة ان الكتابي والقادم من المجتمع اصول غير عربية، والمنتمي الى الطبقة الدنيا اجتماعيا لم يوصموا بالدونية وعدم استحقاق المواطنة الكاملة,, بل اتيحت لهم الفرصة عبر اتقان اللغة العربية وممارسة العطاء العلمي والمهني للمساهمة في بناء الأمة ومجدها الأعلى, هكذا كان للخوارزمي وابن ميمون وابن خلدون والفارابي والخراساني، والرومي، والفارسي ان يعتزوا بانتمائهم للمركز الحضاري الجديد ولا يعانون القهر الداعي لمحاربته في الخفاء والانقسام الى عرقيات وأقليات يأكل بعضها بعضا وتنخر في دعائم الأمة حتى يسقط الهيكل على رؤوس الجميع, وحين تهتكت العلاقات بين فئات المجتمع الى معاناة التحيزات العرقية كان هذا التهتك أهم أسباب تشقق الدولة الى دويلات زائلة.
في كل فترة من فترات المد والازدهار الإسلامي حكم العرب والمسلمون العالم عبر تقدمهم العلمي والحضاري ووعيهم بقيمة الاستقرار الاجتماعي عبر استقرار الاقليات نفسيا وماديا,, ثم فقدوا سيادتهم حين أفلتوا عنان الريادة الحضارية العلمية الواقعية من أيديهم فانشغلوا عن الحفاظ على الريادة العالمية والتقدم الاقتصادي بالصراعات الداخلية,, وتركوا للغير السيطرة على زمام التقدم الحضاري في العالم الواقعي.
اليوم آلاف العلماء والمبدعين العرب والمسلمين يهاجرون للغرب,, ثم يفقدون هويتهم, إننا لو احتويناهم وتعهدنا براعم قدراتهم دعمنا قدرتنا على الريادة العلمية المطلوبة للمستقبل, إن كثافة وجودنا في العالم قادرة ان تكون قوة شد لتثبيت قواعد ريادة وسيادة في حضارة متفوقة روحيا وماديا تسيّر العالم من حولها,, لو ان الهوية المحلية ارتكزت على نظرة واقعية منطقية منتجة,, ولم تتآكل في صراعات التشكيك بانتماء الفئات، او محاولة الهرب من الجذور والتجرد من التراث، او الانشغال الهامشي بالمصالح، او قسر الآخرين في قوالب قشورية تخضعهم لمصالح المتسلط، بينما تنتهي الضغوط المتحاملة الى تنفير المنتمين من هويتهم المتعبة.
هكذا يتآكل المجموع بنخر ذاتي يعيدنا لتشرذم عصور الانحطاط.
|
|
|
|
|