| الثقافية
داهمني النبأ المتوقع منذ قابل صديقه الوفي سعد الدوسري بصدٍ إلحاح القشعمي والجهيمان والحميدي والصعقبي عندما عزمنا أن نعوده قائلاً:
لا فائدة من الزيارة فهو تحت تخدير مستمر.
وعقبَّ ابن عمته علي الغامدي.
حالته صعبة نتوقع بين حين وآخر نبأ غير سار.
فوطَّنا النفس والقلب لاستقبال النبأ الذي كنا نراه يلوح حوله في مد وجزر منذ عشرين عاماً منذ استبد به داء السكري, ألم يستدعنا أخوه أحمد في يوم من عام 1986م قائلا:
اخي يحتضر.
هرعنا الى بيته، كان رأس عبدالعزيز في حضن أخيه أحمد يهذي مثقل اللسان، ران صمت القبور وخيم حزن قاتم، لكن عبد العزيز كطائر العنقاء نفض رماد الموت عن جسده ونهض, لم يسترح, لم يسترد انفاسه، اسرج القلم ليقدم لنا بسخاء عطاءه الغزير.
عبر لجة الموت مراراً فلم نعد نفكر في مغادرته المبكرة، كففنا عن عد سنواته الباقيات، ورحنا نحصي ثماره الخالدات: الوسمية، أسفار السروي، الزهور تبحث عن آنية، الغيوم على منابت الشجر، ريح الكادي، الحصون، مكاشفات السيف والوردة، أحوال الديار، في عشق حتى، صالحة، وموت على الماء.
عبدالعزيز كيف تموت على الماء يا ابن الصخور الصلدة، يا من آليت ان تبقي قوياً عنيداً لا تنحني، مكابراً تمارس اصطياد الغيوم لتقطرها وسميات كي تروي بها قلب بلادك الصدى, استثمرت كل لحظة يخليها لك المرض وكأنك مدرك انك ماضٍ في منتصف النهار، قبل ان تميل شمسك نحو الغروب، وأن الثمرة ستسقط قبل الأوان,, أن العمر قاصر جداً عما تريد ان تنهله من منابع المعرفة، وعما تريد ان تتركه لنا من إبداع, رحت تقذّ السير، تستحث الخطى تحرق المراحل حتى وثقنا ان الموت لن ينتزعك منا، وأنك قد أجلت باصرارك الرحيل، فالمرض الذي هيأك لموت صرت تهزأ منه، نتحلق حول سريرك لنواسيك فتواسينا، تبدد الحزن عنا بما تبث من طرائف وبما تغدق من نصائح حتى نتعافى من الحزن، ونصاب بعدوى ابتسامتك الجذلي ونغادر مجلسك المحتشد بالأنس دائما, فأكتب ما كنت اردد داخلي كلما رأيتك تحت وطأة ألم لا يحتمل:
فلو انها نفس تموت جميعة ولكنها نفس تساقط انفسا |
هكذا عبرت المفازة نفس تساقط أنفساً .
عبدالعزيز معذرة لن انزل اليوم عند رغبتك، سأسمح لنفسي أن أرسم بعض ملامح المك، سأتجاهل رفضك الدائم، للحديث عن الوجع الناشب في جسدك، مادمت قد ألقيت المجاديف وهجعت على الشاطىء لتموت على الماء، دعني من فضلك أذكر اخاك الإنسان بسير الألم المظفر بالعطاء لعله يتخذك مثلاً، أيها المثل الذي لا يعرف التكرار.
عبد العزيز خذ قسطاً من الراحة في مثواك، لقد أنهكت كثيراً نفسك لم تراع صحتك,, ليس في الوقت متسع لن أوغل في تفاصيل الألم الناشب في عظمة الساق المبتورة للتو، وقد أسندتك مع أخيك الأصغر عبدالرحمن وأنت تحاول النهوض من مرقدك على ساق واحدة، وقد ارتخيت لأبحث عن حذائك فطعنت القلب بمزحتك الدامية الثقيلة على السمع:
يا صاحبي لا تلزمني الآن إلا فردة حذاء واحدة.
عبدالعزيز لن أتمادى في وصف خيول دمك الراكضة خارج جسدك لتحتم في أحشاء ماكنة غسيل الكلى فتلك تعد أهون الأوجاع، حيث كنت أساعدك في استثمار الوقت مردداً على مسامعك قصصاً وأشعاراً، حتى يجتاحني هدوءك فأنظر إلى وجهك,, جبهتك العريضة بدأت تكتسي بقطرات العرق، وعيونك أسبلت الأجفان فأكف عن الكلام.
لن أزعج محبيك فالجرح طري ولي وقفة مع فواصل الألم والبهجة منذ عرفتك في جريدة اليوم والأجدى أن أواسيهم بتقديم العزاء، ويكفيهم عزاء أنك غادرتهم كما غادر مبكراً مثلك من عباقرة الإبداع: الشابي، دنقل، السياب، رامبو، كافكا ولوركا، وبوشكين وجوجول ودازاي، تاركين بصماتهم بارزة قوية على آداب شعوبهم وآداب الإنسانية، كما تركت بصماتك على أدبنا بارزة قوية، سيبقى عطاؤك ناهضا في مكتباتنا وأكف القارئين والدارسين وستبقى في قلوبنا وفي ذاكرة المدن والقرى حياً.
|
|
|
|
|