| مقـالات
لأن قدري أنني مغرم بتقصي النوازل واستكناهها، فقد رصدت لطوفان الحديث عن (العولمة) محلياً وعربياً وعالمياً، منذ ان بدأ تداولها في مختلف المشاهد بوصفها مصطلحا لفعل وهمٍّ سابقين: ممارسة وتاريخاً، فالدول الاقوى تفرز صيغاً للتعامل المهيمن منذ الحملة النابليونية ومروراً باتفاقية سايكس بيكو عام 1916م وانتهاءً بشرعنة التدخل العسكري لتأديب الخارجين عن السرب وواحدية القطب وسلام الشجعان والهرولة, وعبر ما تيسر من كتب ومترجمات ومقالات وأعمال لندوات ومحاضرات، وتغطيات إعلامية، ومقابلات مع أساطين الفكر والسياسة والاقتصاد واشتراك في المحاضرات والندوات، تبين لي عربياً على الاقل سوء الفهم وسوء المواجهة وبدائية التعامل عند الأكثرين, ومن الرصد الدقيق للممارسين: قولاً أو فعلاً في مشاهدنا العربية المتعددة، وأمام مجمل القضايا، ثبت أننا كثيراً ما نهتاج في وجه الطوارىء والمستجدات على كل المستويات: الدينية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية دون فهم دقيق ودون استعداد متكافىء، حتى إذا بحت الأصوات، انطفأ الوهج، وقام القبول مقام الرفض والإلف مقام التوحش والتسليم مقام التحفظ, وكان الاندفاع في الأخرى كالاندفاع في الأولى، وكأني بالنوازل يرقق بعضها بعضاً, ومن عيوب الأكثرين منا: ضعف الوعي، وقلة المعرفة، وجهل الواقع، وتناسي الإمكانيات، والادعاء العريض، ونقد الآخر والغفلة عن الذات، ثم التشظي على صخرة الواقع الأقوى، والناس في مواجهة النوازل بين: متضلع من آسن الغرب ينضح بما لا تقوم الحاجة إليه، محققاً المواطنة الخفية، يحرف الكلم عن مواضعه ومن بعد مواضعه، وآخر ممعن في التوغل في المثالية والانعزالية وتعميق العداوة مع الآخر، وثالث معتدل يعي الواقع ويعرف الممكن، ولكنه خفيض الصوت لا تصعد له كلمة ولا يسمع له قول، ورابع خلِّي منتفخ متفيهق لا يملك إلا توزيع الاتهامات وتصنيف الآخرين والحلم بالمشاريع, والإسلام الذي منَّ الله بهدايتنا إليه يرفض المواجهة دون إعداد، والتسليم دون فهم، فالنفور للتفقه واجب المقتدرين، والإنذار مسؤولية الداعين على بصيرة، كما أنه يؤكد على تبادل المصالح والخبرات, ومبادرة الرسول صلى الله عليه وسلم في مفادات الأسرى بتعليم أبناء المسلمين مؤشر ثقة بالنفس وبحث عما عند الآخر، ومن ثم فليس من حقنا مبادرة الرفض ولا مطلق القبول، إذ لا بد من التحرف الواعي بحيث لا يكون للقديم ولا للجديد ولا للمصدر دور في تجديد الموقف، إلا إذا كان نصاً تشريعيا قطعي الدلالة والثبوت إذ معه لا تكون خيرة.
والمواجهة الحضارية كالمعركة العسكرية تحتاج الى آلة وتخطيط وتوقيت وتقدير واختراق مقتدر للآخر، وهو ما لم يتوفر عليه كثير من المنازلين الذين لم يكتمل عندهم تصور الاشياء ومواجهتها بعقلية مستنيرة بنور العلم، والاشكالية أن تكون المواجهة حضارية وليست عسكرية ومعها لا بد من التصور الصحيح والمواجهة المتكافئة إذ الحكم على الشيء فرع من تصوره، وقراءة الأشياء أهم من القراءة عنها، والقلة الناصحة ضاعت في زحمة المتعالمين والمتخوفين والمتذيلين ودعاة العلمنة والتنوير، ومع التيئيس والظلامية والإحباط فإن الوطن العربي لا يعدم المفكرين الواعين، ولا يخلو من الناصحين لله ولرسوله ولعامة المسلمين وخاصتهم، إذ هناك أرضيات صالحة للانطلاق منها، وهناك هوامش متاحة للتحرك الإيجابي، وخوفنا من استفحال الغثائية التي أخبر بها من لا ينطق عن الهوى, لكل هذا أحسست أنني بحاجة الى جهد استثنائي لاستكناه (العولمة) بوصفها قضية الساعة، وبوصفها اقتصادية سياسية سلطوية بالدرجة الأولى، وقد تمتد لتكون ثقافية اجتماعية ايديولوجية، وذلك ما نسمع حسيسه بين الحين والآخر، ويقيني أنني لست من فرسان بعض هذه المضامير، ولكنه الهم بأمر المسلمين وامتثال الأمر بالتبليغ, و(العولمة) مصطلح جديد في صياغته، يعني العالمية أو الكوكبية، أو الأمركة أو الكونية على اختلاف في الآراء وتباين في التصورات، والقصد منه تجنيس العالم وتماثله ودرء الصدام وهي على زنة (فوعلة)، والصرفيون يرون شذوذ هذه الصياغة وإن جاء على زنته (صومع) و(جورب) ولكنهم لا يرون القياس، وهذا الوزن يفيد التطويع، ومن ثم اصبح الميزان الصرفي موائماً لأهداف العولمة التطويعية القسرية التحكمية, والكم الهائل من الكتب والدراسات والندوات والمترجمات مما أفاءت به المتابعة المبكرة كشفت لي عن فوضوية مستحكمة وآراء متناقضة وتصورات متباينة ونمو عشوائي يضل فيه القطا، وعجيب أمر المتعالمين والمتزعمين لإصدار الأحكام وتصنيف الآخر، يحمِّلون الأشياء ما لا تحتمل، ويكرهونها على أن تقول ما لا تفعل وتقرَّ بما لم تتضمن، حتى إذا صيغت الأوصاف على هوى المتحاملين جاءت النتائج والآراء غاية في الجور والمخالفة, ولو قرأ منتجو المصطلح من الغربيين ما نقوله عنه لأنكروه, إننا نخلق المصطلحات الوافدة علينا خلقاً آخر، ونظل في صراع مع طواحين الهواء, والناشطون في الاستغراب يمارسون تخلية المواقع لكل طارىء، يستقبلونها باحتفالية ويتعهدون تربيتها كما يربي أحدنا فلوَّه، ولا يبالون بأي واد هلكت مصالح أمتهم، ولا يقل عنهم من تشغلهم عيوب الآخرين عن عيوبهم، ممن يرقبون سقوط الآخر ليظفروا بالصدارة، وكأنهم على موعد معها بالأحلام والأماني، دون أن يحاولوا العمل من أجل التكافؤ، لقد سقط الاتحاد السوفيتي، وفرحنا، ولكننا وقعنا في ويلات القطب الواحد، ولم نتقن معه إلا لعبة العداوة والبغضاء.
أن يكون الغرب أمة مغايرة: عقيدة وتصوراً وحضارة: فكرية واجتماعية لا ترضى إلا باتباع ملتها، وأن يكون الغرب غازياً متآمراً ماكراً متسلطاً مستغلاً، حريصاً على تبعيتنا التي لا تتحقق إلا بتجهيلنا وتجويعنا وتفريقنا، وأن نكون أمة مسلمة مستضعفة مستهدفة ذات حضارة مغايرة فأمر لا غبار عليه، ومن أحسن الظن أتاح فرص الضياع، ولكن أن يكون كلُّ شيء ينتجه الغرب داخلاً ضمن دائرة الغزو والتآمر، وأن يكون خيارنا الوحيد حمل السلاح، فأمر فيه نظر, إننا بحاجة إلى فرز مفردات الغرب، وتصنيف ممارساته، وتقصي المعلومات عن فعله ومواقفه ومنتجاته، وإعطاء كل شيء ما يقتضيه، وتحديد المواقف على ضوء ما يتوفر من معلومات صحيحة، ودراسات علمية موضوعية منهجية، لا تعتمد الإثارة، ولا تميل إلى كسب الغوغاء وسرق الأضواء وصناعة الذات على حساب المصلحة العامة, وقدرنا العصيب أننا نعيش خلطة مستحكمة مع الغرب، نستثمر كل منجزه المادي، نستهلك ولا ننتج، ونستعمل ولا نصنع، نعتمد خططه ومناهجه، ونقتفي أثره حذو القذة بالقذة، لا يختلف تصورنا للأشياء عن تصوره، وشارعنا العربي كثير الشبه بالشارع الغربي، لا نستغني لحظة واحدة عن آلياته ومكتشفاته ووسائله ومناهجه وأسلوب تعامله مع الأشياء، ونحن مع كل هذه الخلطة والحاجة والتبعية نعيش معه في حرب كلامية حامية الوطيس، نثير اشمئزازه، ونصعد مكيدته، ومع هذه المتابعة الغبية لسننه نؤكد أننا أمة عربية مسلمة، لها حضارتها وقيمها وضوابطها ومحظوراتها ومباحاتها, إن لعبة المؤاخاة بين الشرعي والغربي لعبةٌ خطيرةٌ وحساسةٌ لا ينهض بها الأفراد، ولا يرسمها الخطاب العاطفي الاستهلاكي، وإنما ينتجها جهد مؤسساتي مكتمل الأهلية، يضع الضوابط، ويحدد الممكن وغير الممكن.
ولأن (العولمة) واحدة من مفردات الحضارة الغربية المثيرة نراها تلح بحضورها وفق مفاهيم وتصورات ورؤى متباينة، ونحن: إما مكرهون على قبولها، أو مضطرون إليه بحكم الخلطة والحاجة والتوسع في استغلال منجز الآخر، فإن أمر التعامل معها هو الآخر من الخطورة بمكان، وليس من مصلحة الأمة أن نخدِّرها بمعسول الوعود وجميل الأماني، نحجب الرؤية أو نزيف الحقائق, نصالح أو نقاوم، فنضج تارة في وجه العولمة: نهول أمرها، ونحملها ما لا تحتمل، ونضفي على أنفسنا سمة الفدائية في وجه الشيطان الأكبر، أو نرتمي في أحضانها واعدين بالدفء والسكون, إن علينا ألا ندلس عليها ونحسن لها سوء العمل ونجعل من العولمة حملاً وديعاً وغنيمة باردة وفتحاً مبيناً, إن واقعنا يتطلب الوعي: وعي الذات ووعي الآخر، ويتطلب وضع صيغة معقولة للتعامل مع القضايا المتحفظ عليها، ومنجز الآخر: إما أن يكون علمياً يمس ظاهر الحياة الدنيا، أو فكرياً يمس جوانب الحياة ويمتد إلى الآخرة والمغيبات، أو اجتماعياً يمسُّ السلوك والقيم، أو تربوياً يمس طرائق التكوين، أو ما سوى ذلك مما يعرفها الشجيون ويجهلها الخليون، والعلميُّ التجريبي وظواهر الحياة الدنيا وما تحكمه السنن المدركة وما لا يقوم العلم إلا به عالمي الانتماء ومن واجبنا الأخذ به، وأما الفكري فله مستوياته في القبول والرفض والتوقف، ومثله سائر السمات والممارسات, والإسلام له نصه بمستوياته الأربعة: القطعي الدلالة والثبوت، أو قطعي الدلالة احتمالي الثبوت، أو قطعي الثبوت احتمالي الدلالة، أو احتماليهما, والدخول على النص لاستفتائه أو لفهم مقاصده وتحكيمه في شؤون الحياة، له ضوابطه التي يعرفها الفقهاء والأصوليون، وهذه المستويات الثبوتية والدلالية توفر فضاءات رحبة لمواجهة النوازل وتحديد المواقف واستنباط الأحكام، ولأن علاقتنا بالآخر المغاير: فكراً وسلوكاً وتصوراً للكون والحياة والإنسان والقيم من أخطر العلائق وأكثرها تعقيداً، فإن الأمة الإسلامية تفتقر إلى صياغة حضارية لأسلوب التعامل، إذ لم يعد الخطاب العاطفي مجديا، ولاسيما أننا مستبطنون للغرب متداخلون معه بوصفه حضارة مهيمنة ومستجيبة لمتطلبات العصر الدنيوية على الأقل، ولأن الجانب العلمي والتجريبي في الحضارة الغربية من مقتضيات الإسلام إذ هو السبيل لإعداد القوة: قوة السلاح والعلم والاقتصاد فإننا في الاهتياج الأعزل لا نفرق بين العلمي والفكري والاجتماعي ولا بين النص القطعي الدلالة والثبوت واحتماليهما ولا بين الرؤية الشخصية والرؤية الإسلامية, والعولمة آتية بأقدار متفاوتة ومفاهيم متعددة وصيغ مختلفة ومستويات متباينة شئنا أم أبينا وهي بلا شك مؤثرة تحفظنا أو اندفعنا، بل هي قائمة منذ قيام الاستعمار البغيض، وليست عربة قطار سريع كما يصورها البعض، إنها مشروع حضاري بطيء الحركة قوي النفاذ واسع الانتشار كثير المغريات خفي الدبيب متعدد المجالات كثير الخيارات، وهي واحدة من مفردات الغرب المتوغل في أدق تفاصيلنا.
وعلاقتنا معه على مستويات:
الصدام العسكري.
أو الصدمة الحضارية.
أو التعايش والتصالح المرحلي.
أو الانكفاء والانعزال.
أو الاستجابة والاندفاع.
وقد مرت الأمة عبر تاريخها المرير بتلك المستويات، تمثلت بعضها بالحروب الصليبية، وهي قائمة بما يوقعه أو يباركه الغرب فيما بيننا من حروب حدودية أو أهلية أو طائفية، وتمثلت الصدمة الحضارية بحملة (نابليون) المسلحة بالعلم والآلة وفق سياقها، واستمرت الصدمة تكرر نفسها كلما فاجأنا الغرب برؤية جديدة، وهي فيما بعد ذلك تأتي بأشكال وألوان وصيغ من السيطرة، تأتي على شكل استعمار عسكري بثكناته ومناديبه، أو على شكل سيطرة مدنية بأجهزتها وثقافتها، أو على شكل هيمنة حضارية بمناهجها ومؤسساتها وبنوكها وصناديقها وهيئاتها ومؤتمراتها ومذاهبها وبما يفرزه كل ذلك من اتفاقات جائرة أو تدخلات عسكرية لتأديب الخارجين من بيت الطاعة، أو غزو ثقافي أو اجتياح إعلامي أو سيطرة اقتصادية، ثم بما هو قائم من تواصل متعدد القنوات، مما أثر على المفاهيم والقيم، وفيما بين هذا وذاك علائق لا تحصي لها عدداً وتلك العلائق تنطوي على مآس تستدعي الشك والارتياب والحيطة والحذر والتدبر، وحقائق التاريخ تشهد بما يسوِّغ أخذ الحذر وحمل سلاح المعرفة، والغرب يمثل حضارة مغايرة ومطابقة في آن، إذ تنطوي حضارته على إيجابيات وقيم ومثمنات نحن أحوج ما نكون إلى الكثير منها، ولكن تواصله معنا مخيف ومفجع، وغزوه وتآمره مما لا يحتملان إلا قولاً واحداً، ولن أعيد الشواهد فذلك معروف ومتداول، ولكنني بصدد أمر في غاية الأهمية، وهو (مفهوم الغزو والتآمر), لقد عولنا عليهما كثيراً وجعلنا منهما مناطات لفشلنا وتخلفنا، نعلق عليهما كل ما صنعناه بأيدينا واقترفناه بجهلنا، واستمرار الهروب من تلك النافقاء عمَّق تخلفنا، وأعطى صورة ساذجة عنا, إن فهمنا (للغزو والتآمر) أصبح من أخطر الإشكاليات، بحيث شل تفاعلنا، وحال دون محاسبة أنفسنا، فما من إخفاق أو نكسة أو حرب أو ثورة أو تغيير لا نريده ولا نقبل به إلا ويكون نتيجة غزو أو تآمر، ونحن أبرياء ملائكيون، وفات المعولين على هذا الادعاء التواكلي التبريري أن الغزو والتآمر كالجراثيم والفيروسات لا تفعل فعلها إلا في الأجسام المريضة التي لا تملك المناعة.
والقول في الغزو والتآمر يتطلب وضع صيغة حضارية لتداولهما، فلا نغفو على كف الغرب ونحسن الظن به، ولا نجعل أي تواصل معه غزواً أو تآمراً, وأكاد أجزم بأن فهمنا للغزو والتآمر أخطر من فعلهما فينا, والذين يجعلون كل تواصل مع الغرب غزواً وتآمراً ليسوا بأقل خطراً من الذين ينفون الغزو والتآمر، فكلا الفريقين يشكلان خطراً على ذهنية الأمة، لأنهما يشكلان هدنة أو مواجهة ليستا على شيء من الفهم السليم، والمقدمات الخاطئة تؤدي بالضرورة إلى نتائج خاطئة, والاختلاف حول مفهومي: الغزو والتآمر أدى إلى نتائج سلبية، فالذين يستبعدون الغزو والتآمر يقعون في التبعية والإمَّعية، والذين يعدونها في كل تواصل أو تبادل أو تصالح أو تعايش يحولون دون الاستفادة المشروعة، وقد يمتد هذا الاختلاف إلى ضرب مشروعات إصلاحية على مستويات الدين والاجتماع والاقتصاد، ومشروعات سياسية على مستويات النظم والدساتير، قبل بها قوم ورفضها آخرون.
لقد استقبل العالم العربي في فجر نهضته مشروعين كان يمكن أن يفعلا شيئاً لو تآخيا هما: مشروع محمد بن عبدالوهاب السلفي الوحدوي ومشروع محمد علي التمديني، ولكن المواجهة الدامية بين التحضير والأسلمة حال دون تفعيل المشروعين عربياً وإسلامياً، وإن كان لبعضهما فعل اقليمي.
|
|
|
|
|