| محاضرة
أود أن أتحدث في هذه الورقة عن عدد من المواطنين المتميزين من أبناء هذه البلاد الذين سيقوا الى المنفى خارج بلادهم لنشاطاتهم السياسية أثناء فترة الحكم العثماني في القرن التاسع عشر.
ففي خلال الفترة ما بين 1811م ونهاية ذلك القرن كان المئات، إن لم يكن الألوف، من المواطنين من مختلف انحاء شبه الجزيرة العربية قد كتب عليهم أن يتحملوا ذلك المصير، ومع ذلك حسب معرفتي لم يتم إجراء أية دراسة حول هذا الموضوع المهم من قبل.
ولهذا السبب سأحاول في هذه الورقة معالجة مهمة التحقيق عن متى، ولماذا، وكيف، وأين حدثت عملية ارسال هؤلاء المواطنين الى المنفى, ولكن قبل ان أبدأ بذلك أود ان اوضح ان هذه الورقة تنقسم الى قسمين: أولهما يتخذ طابع عرض للأحداث، مع تناول الكيفية الدقيقة التي تم بها تنفيذ هذه العملية، والتي أجبر بموجبها هؤلاء القادة والساسة على الذهاب الى المنفى من مختلف انحاء الجزيرة العربية، وتحديدا المملكة العربية السعودية بجغرافيتها السياسية الحديثة، بدءا من العقود المبكرة من القرن التاسع عشر.
أما الجزء الثاني من هذه الورقة فكنت سأفرده أو أخصصه لدراسة تجربة الشيخ الشاعر والفقيه أحمد بن عبدالخالق الحفظي في المنفى، لولا انني قمت بنشر دراسة عميقة ومتأنية عن حياة هذا الشاعر في بحث باللغة الانجليزية (1) , وسوف يكون الحديث عنه في هذه الورقة بصفته واحدا ضمن رفاقه الاسرى السياسيين من منطقة عسير، كما سيتضح مفصلا في ثنايا هذه الورقة.
ولقد وقع اختياري على هذه الفترة من القرن التاسع عشر، وبالتحديد، بسبب الحقيقة المرة التي مفادها اننا لا نعرف الكثير عما كان يحدث في الجزيرة العربية قبل نشوء الدعوة الاصلاحية، وقيام الدولة السعودية, ويعتبر هذان الحدثان الهامان في واقع الامر بمثابة مؤشر لبداية تاريخ الجزيرة العربية الحديث والمعاصر، من حيث ان الجزيرة العربية لم تشكل قبل ذلك الوقت أهمية كبرى بالنسبة لتاريخ مشرقنا العربي، وظل دورها هامشيا، ان لم يكن نسيا منسيا، نظرا لعدم توفر عوامل تجذب اهتمام اي قوة اجنبية، أو أداء أي دور في شؤون شبه الجزيرة بهذا المعنى.
ومع ذلك وبمرور الوقت فإن الدولة السعودية التي تأثرت بتعاليم الشيخ محمد بن عبدالوهاب قد برزت بقوة عظيمة، مما أدهش جيرانها كثيرا، وعلى وجه الخصوص فقد اصيب العثمانيون الذين اصيبوا بالدهشة والحيرة، وبرهنوا على فشلهم في الدفاع عن كل من ولايتي بغداد ودمشق، عندما وجهوا بالتهديد الواضح من قبل السعوديين، وما يحملونه من افكار دينية تهدد الكيان العثماني في الصميم، ناهيك عما تعرض له الحجاز والمدينتان المقدستان، حيث سقط هذا الاقليم المهم بايدي السعوديين الذين سلبوا كل سلطة للمسؤولين العثمانيين في هذه المنطقة، واخضعوا شريف مكة لسلطتهم, وقد شكل هذا تحديا سافرا ومباشرا للعثمانيين لم يكونوا يتوقعونه قط في هذا الجزء من الجزيرة العربية.
وقد شكلت الانتفاضة التي حدثت في الجزيرة العربية تحت قيادة السعوديين الذين وجدوا دعما قويا، والتفافا مذهلا من القبائل العربية، التي اتحدت لأول مرة تحت قيادة عربية واحدة منذ قرون ثورة عربية خالصة صارت تبحث لنفسها عن مكان بين كيانات المنطقة لاثبات الذات، والاعتراف بها بوصفها أحد التحديات التي عقدت العزم على اجتثاث نظام الحكم غير العربي، وتصحيح كل ما شاب صفاء العقيدة الاسلامية من شوائب, صحيح ان الشيخ محمد بن عبدالوهاب لم يركز كثيرا من اهتمامه على مفهوم العروبة، كما ركز على الاسلام، ومع ذلك فلم يكن هناك من شك في ان حركته كانت ذات تصميم شديد، وحماسة مخلصة هدفها تنقية العقيدة الاسلامية من المفاسد التي علقت بها، وربما كان هناك اعتقاد بأن الحكم غير العربي النقي، هو أحد مصادر فساد العقيدة الصحيحة، كما خرجت نقية في اول عهدها من الجزيرة العربية.
لقد شكل هذا التحدي المباشر للسلطة العثمانية في هذه المنطقة محور الاهتمام الرئيسي للباب العالي، مما اضطرهم الى اللجوء الى والي مصر، بعد ان فشل واليا العراق والشام كلاهما في وضع حد للتهديد السعودي، وكخطوة أولى، البدء بتحرير الاراضي المقدسة من حكمهم، وبالتالي استعادة سيطرة السلطان التي ذهبت أدراج الرياح، بسبب فقد سلطته على الحجاز، إحدى دعائم شرعية حكمه كخليفة للمسلمين.
حدث الغزو المصري للجزيرة العربية في حوالي العام 1811م, وقد واجهته مصاعب جمة في استعادة السلطة العثمانية على المدينة ومكة (2) ، وفي أثناء شن هذه الحرب ضد أهالي الجزيرة العربية، نجح المصريون ومن معهم من العثمانيين وغيرهم في اعتقال اثنين من كبار القادة السعوديين هما: مسعود بن مضيان، من أبرز قبائل حرب، الذي تم القبض عليه بعد الاستيلاء على قلعة المدينة المنورة بتاريخ 17 ذي القعدة سنة 1227ه وعثمان المضايفي، وهو الزعيم والساعد الايمن للسعوديين في إدارة الحجاز،وقد تم القبض عليه في مطلع شهر صفر 1228ه، وقد تم ارسال كل من هذين الزعيمين اسيرين الى مصر، وبعد ذلك تم ارسالهما بعد أن اخذ فيما يطلق عليه (استعراض العقاب) عبر شوارع القاهرة الرئيسية الى استانبول، حيث تم التشهير بهما ثم إعدامهما، وقد نفذ الحكم عليهما امام البوابة الرئيسية لقصر السلطان في (قل هانة) (3) , كان هذان القائدان العربيان هما أول من تعرض للنفي والاعدام (4) .
وفي سبتمبر عام 1813م كان محمد علي باشا قد حضر شخصيا الى الحجاز لقيادة جيشه الذي كان قد فشل في وضع حد لتهديد السعوديين واتباعهم المستمر للمدينتين المقدستين، وكان من أول الإجراءات التي اتخذها التصميم على خلع الشريف غالب، أمير مكة، بالقوة من إمارة الحجاز, وقد كانت تلك هي الخطوة الأولى أو هكذا يفترض فيها من أجل تمكين الباشا من ترسيخ سلطة العثمانيين علىالحجاز نفسها، كوسيلة لتسهيل فرض تلك السلطة خارج الحجاز، وعمل الباشا على اعتقال الشريف غالب بن مساعد الذي كان يرى في استمرار وجوده في سدة شرافة مكة ما يحول دون تحقيق اهدافه في فرض سيطرته على الحجاز اضافة الى رغبته في الاستيلاء على أمواله الضخمة ونفاه بصحبة البعض من ابنائه، حيث تم ارسالهم الى القاهرة ومنها أخذوا الى استانبول، ومؤخرا الى سالونيكا، حيث توفوا جميعهم هناك خلال فترة قصيرة، أي قبل عام 1816م (5) , وقد كانت تلك المحنة هي الأولى من نوعها التي يتم فيها نفي احد الاشراف الكبار، والذي اصبح فيما بعد شيئا مألوفا لدى العثمانيين.
وفي يناير 1815م قرر الباشا توجيه كل قواته العسكرية، والتي كان يتم تحضيرها واعدادها لهذه اللحظة خلال العامين الماضيين، لدخوله مواجهة حاسمة مع العسيريين، إدراكا منه كما سبق له ان علم ان هناك وهناك فقط، يكمن الخطر الاكبر الذي ينتظر العثمانيين، ويحبط كل محاولة لهم لغرض سيطرتهم على ما هو خارج منطقة الحجاز، وقد تمكن من هزيمتهم في معركة (بسل) جنوب الطائف في يناير 1815م والتي تعد من المعارك الحاسمة في معارك المواجهات الكثيرة بين محمد علي وخصومه, الا ان هدفه لا يقف عند الحاق الهزيمة العسكرية بهم بل كان يرنو الى اخضاعهم لحكمه، وبالتالي قرر حشد قواته البرية كافة لهذه المهمة المتعلقة بالتوغل عميقا في داخل اراضي عسير، وهي مهمة لم يتم القيام بها قط من قبل على ايدي أي غزاة اجانب منذ أبرهة (الحبشي) في عام 570م.
أما بالنسبة لزعماء عسير فقد كانوا رافضين تماما لخطط الباشا الخاصة باخضاعهم، وكانوا مصممين على تهيئة أنفسهم لمقاومة عنيدة، ومع ذلك فقد ادى عدم التوازن في العتاد الذي كان بحوزة الطرفين الى هزيمة عسيرية اخرى في عاصمتهم طبب، مع انها لم تؤد الى اخضاعها نهائيا، كما كان يأمل الباشا, وقد انتهت هذه الهزيمة بأسر طامي بن شعيب، أمير عسير، عندما تم اصطياده بواسطة شريف أبو عريش الذي قدمه هدية لمحمد علي، متزامنا مع أسر أحد قادة عسير المشهورين الآخرين، وهو بخروش بن علاس أبرز زعماء قبيلة زهران وهو واحد من أشهر محاربي الجزيرة العربية وفرسانها المعدودين، وقد قتله الباشا بطريقة بشعة لا تليق بفارس مثله، وهو في طريقه مأسورا الى مصر ووضع الجزء العلوي من جسمه معلقا، يتدلى من نفس سرج الامير طامي بغرض عرضهما على مشهد من جموع المارة بشوارع القاهرة الرئيسية، وبعدها تم ارساله لاحقا مع طامي الى استانبول، حيثتم تعلق رأسه الى جنب مع طامي الذي تم إعدامه هناك (6) .
لم يكن الاثنان (طامي وبخروش) الوحيدين اللذين نفيا من موطنهما الاصلي، ليتم قتلهما على أيدي المصريين أو العثمانيين، وإنما هنالك ايضا العديد من الاطفال من ابناء مشاهير عسير الذين تم حملهم الى القاهرة بواسطة محمد علي سجناء سياسيين, ومن هؤلاء الاعيان الصغار احد أقرباء الأمير طامي الذي كشف عن تفاصيل أسرة مع بقية رفاقه، بعد العديد من سنوات الاسر، الى موريس تاميزيه (وهو رحالة فرنسي زار عسير في عام 1834م)، الذي أورد الرواية التالية عن قصة أسر الامير العسيري، الذي يدعي دوسري: كما رواها الامير نفسه:
(عندما هزم باشا مصر الوهابيين في بسل مر ببيشة، ثم ذهب الى عسير لاحتلالها, ومن اجل ارغام السكان على الاخلاص والولاء له قام بأخذ اطفال اكثر الشخصيات النافذة، وهدد بقتلهم متى ما فكر اهاليهم بنسيان انهم تحت سلطته، وبعد مغادرة نائب الملك (محمد علي) بدأ العرب، الذين لم يكن بمقدورهم احتمال وجود اعدائهم على ارضهم ويفرضون سيطرتهم عليهم، بشن القتال من اجل استعادة استقلالهم وتم طرد الجنود الاتراك خارج اراضي عسير, وقد ادرك العرب ما هو بانتظار ابنائهم الا ان حب الحرية جردهم من كل العواطف المستندة على الابوة، وبالتالي فقد تمت التضحية بالأسرى من أجل مصالح الأمة (7) .
وفي عام 1816م هبت عسير تحت قيادة محمد بن احمد المتحمي الملقب بالجزار لكثرة ما جزر في خصومه في ثورة ضد المصريين والاتراك, وبعدها بسنتين تم توجيه حملة مصرية تحت قيادة الشريف محمد بن عون ووالي الحجاز ضد عسير، نتج عنها اسر قائد حركة المقاومة بصحبة ابنه مداوي وتم ارسالهما الى مصر.
كان الاسيران كلاهما شاعرين، اكتسبا شهرة واسعة في نظم قصائد رائعة عن مواطنهما، سواء كان ذلك بحس قومي أو من خلال شعورهما بالحنين الى الماضي والوطن, وقد عملا على تحريض العسيريين ومناشدتهم حب الوطن لدرجة ان العديد من الاغاني القائمة على ذلك بقيت شائعة بصورة كبيرة على شفاة المواطنين في عسير حتى يومنا هذا, كانت مهاراتهما الادبية فائقة، فمداوي الأمير الشاب على سبيل المثال لم يكتب قصائده باللغة العربية الفصحى فقط، وإنما صاغها ايضا فيما يعرف في الجزيرة العربية بالشعر النبطي او العامي، ومن المؤسف حقا ان عددا محدودا فقط من قصائد ذلك الامير الشاعر هي التي وصلت إلينا في زماننا, ومع ذلك، وبمزيد من البحث والتعاون من قبل اصحاب المكتبات الخاصة في المنطقة، يمكن لنا ان نتطلع بكل تفاؤل نحو الحصول على المزيد من قصادئهما التي يمكن ان يتم الكشف عنها.
أما قصائد الأمير مداوي فلاتقتصر اهميتها على كونها صيغت بعناية فائقة، وبراعة شاعرية فقط، وإنما تعود لاهميتها الفائقة بالنسبة للمؤرخين وعلماء الجغرافيا والاجتماع، لانها توفر لنا ثروة غزيرة من أسماء الشخصيات، والأماكن والجبال والأودية، بل وحتى النباتات، خلال تلك الفترة.
في العام 1818م انقلب محمد علي ضد أحد أصدقائه القدامى، وهو الشريف أحمد بن حمود من اشراف أبو عريش، آمرا قائده في السواحل العسيرية بأن يلقي القبض على الشريف المذكور، ويبعث به إلى مصر بصحبة أسرته (8) .
وفي تلك السنة نفسها التي نفي فيها الشريف أحمد (9) ، تم ايضا نفي عبدالقادر العواجي التهامي، قاضي اللحيّة، الذي توفي في عام 1235ه, وقد كان شاعرا، وقد نجحت بعض قصائده الوطنية في الوصول الى موطنه الأصلي (10) .
وإذا ماوضعنا في اعتبارنا الشجاعة الفائقة لهذه المجموعة من القادة البارعين والمتميزين الذين تم اخذهم الى المنفى في هذه الفترة، نجد انه من المؤسف كثيرا أن بعض قصصهم وأخبارهم قد أهملت تماما من قبل المؤرخين.
حملة إبراهيم باشا على نجد
وتدمير الدرعية وأسر قادتها
في سنة 1818م جهز محمد علي باشا قوة عسكرية كبيرة بقيادة ابنه ابراهيم باشا تم توجيهها صوب نجد من أجل وضع حد للدولة السعودية الأولى التي هي سبب كل المصاعب للعثمانيين في الجزيرة العربية, وقاد الامير عبدالله بن سعود مقاومة بطولية قام بها بكل ثبات على مدى عدة أشهر دفاعا عن عاصمة ملكه، لكن ابراهيم باشا بتفوقه العسكري قام باخضاعها مجبرا الإمام عبدالله على الاستسلام, وكانت المحصلة النهائية لهذه الحملة ان تم تدمير عاصمة نجد (الدرعية)، وتم اسر معظم الأحياء من عائلة آل سعود المالكة بأكملها، وتم ارسالهم الى مصر، عدا القليلين منهم، وتحديدا أولئك الذين لا يتجاوز عددهم اصابع اليد، والذين تدبروا امر هروبهم، ليقوموا لاحقا بقيادة المقاومة ضد الاحتلال المصري (11) .
وقد تم ايضا ارسال أبناء الشيخ محمد بن عبدالوهاب (12) وأحفاده الى مصر بصحبة آل سعود, وقد كان العدد الاجمالي لأسرى العائلة المالكة السعودية واتباعم 254 فردا ومجموع اسرى ال الشيخ مع اتباعهم (31) فردا ومجموع افراد العائلتين ممن غادروا الدرعية في طريقهم الى المنفى (285) (13) شخصا، بما فيهم الرجال والنساء، والمسنون والأطفال، وقد وصل هؤلاء جميعا الى القاهرة عن طريق السويس، في شهر رجب 1234ه مايو 1818م (14) ، بخلاف الأمير عبدالله بن سعود الذي تم ارساله الى القاهرة قبلهم بسبعة أشهر (15) , وقد بقي بتلك المدينة فقط لأيام قليلة قبل إرساله بواسطة محمد علي الى استانبول, وفي تلك العاصمة جرعى إعدامه في 19 نوفمبر 1818م (16) ، بعد أن أمضى أياما قليلة تحت الاستجواب (17) .
وفي سنة 1820م قام تركي بن عبدالله بن محمد بن سعود الذي نجا من الأسر على ايدي المصريين بتنظيم حركة مقاومة ضدهم وهي أعنف مقاومة شهدتها نجد ضد الاحتلال، وبالإضافة الى ذلك فقد تمكن ابنه فيصل بن تركي ايضا من الهرب من الأسر في القاهرة (في عام 1827م)، وقد عاد إلى نجد ليصبح أقرب أعوان ابيه في شن حروب التحرير ضد قوات الاحتلال, وبالاضافة الى ذلك عمل على إعادة تقوية وتوحيد البيت السعودي واستعادة سلطته على نجد والمناطق الشرقية.
وفي العام 1834م تم اغتيال تركي بن عبدالله الذي يعتبر بمثابة المؤسس للدولة السعودية الثانية على يد ابن اخيه المدعو مشاري بن عبدالرحمن، الذي كان في السابق واحدا من افراد المجموعة السعودية التي تم نفيها الى القاهرة، والذي تدبر امر العودة الى نجد, وهناك بعض من المؤرخين يثبتون وجهة النظر القائلة إن عملية الاغتيال هذه قد تم تنفيذها بالتواطؤ مع المصريين.
وقد هرع فيصل بن تركي الذي كان وقت اغتيال والده بالمنطقة الشرقية عائدا الى الرياض، وهناك قام بقتل قاتل ابيه وتولى مقاليد السلطة والاستمرار في سياسة الحفاظ على استقلال نجد.
وبحلول العام 1838م قرر محمد علي باشا اخضاع نجد لقبضته الصارمة، واضعين بذلك حدا لحكم فيصل بن تركي الذي تم اعتقاله للمرة الثانية بعد الهزيمة النجدية بمعركة الدلم (18) .
وقد اخذ سجينا سياسيا بواسطة المصريين، بصحبة كل من أخيه جلوي وابن عمه عبدالله بن ابراهيم (19) ، الى الأسر بمصر وفي واقع الامر فقد اجبر عدد كبير من أفراد اسرته على اللحاق به، حيث ظلوا جميعهم بالمنفى حتى العام 1843م.
وقد أوضح خورشيد باشا (الحاكم العام لنجد) في تقريره الى محمد علي، المؤرخ في 21 محرم 1255ه ابريل 1839م، ان عدد افراد عائلة فيصل وأقاربه الذين تخلفوا وراءه بلغوا حوالي (200) شخص, ويشمل هذا العدد اثنين من اخوته، يبلغ احدهما العاشرة من عمره، والآخر لايزال صغيرا، واثنين من ابنائه الذين يبلغ احدهما الثامنة من عمره، والآخر السابعة ولنقل هذه المعلومة بصورة اكثر وضوحا، فقد عبر الحاكم عن رغبته في أن يلحق هؤلاء جميعا بالانضمام الى فيصل في منفاه، موضحا ان وجودهم في نجد قد سبب له بعض القلق، لانه يشكل وضعا خاصا ينطوي على التهديد بتقويض حكمه الصارم هناك.
وافق محمد علي على اقتراح خورشيد باشا، وبالتالي فقد طلب الباشا من فيصل ان يقوم من جانبه بطلب أسرته، وأن يتخذ ترتيبات قدومهم الى مصر، للانضمام إليه هناك (20) .
في وقت مبكر من العام 1843م عاد فيصل من منفاه في مصر الى نجد لاستعادة حكمه، الذي تم تحويله بعد نفيه الى خالد بن سعود (21) , وبعد الانسحاب المصري من نجد عام 1840م بحوالي السنة تم خلع خالد عن السلطة وحل محله عبدالله بن ثنيان آل سعود.
وفي خلال أشهر قليلة من استعادة فيصل لسلطته على نجد، تم الافراج عن عائلته التي كانت في الاسر في القاهرة بأمر من الباشا لكي تعود الى الاسر في جدة هذه المرة، على ايدي السلطات العثمانية هناك، حتى قدم فيصل كامل التعهدات بألا يقوم بأي نشاط سياسي لا يتفق مع رغبات الدولة وان يعترف ولو اسميا بسلطتها, وبالفعل كان عليهم ان يبقوا في جدة الى ان حان الوقت الذي قام فيه فيصل بتوقيع ضمان خطي، أعلن فيه اعترافه الكامل بالسيادة العثمانية الاسمية على اراضيه، تحت وطأة تلك الظروف الحرجة رأى فيصل ان من الانسب الاستجابة لشروط العثمانيين، فقام بتوقيع الضمان اللازم بشأن التعاون وإعلان الولاء الاسمي، قام بهذه السفارة نيابة عنه الشيخ أحمد السديري الذي قام بدوره بكتابة تعهد آخر لضمان التزام الإمام فيصل بتعداته، وبالتالي أعيدت اسرته للانضمام إليه بالرياض بصحبة الشيخ احمد السديري.
وقد تم من خلال هذه الطريقة، وفي شهر جمادى الأولى، 1259ه يونيو 1843م وهو الشهر نفسه الذي كانت عائلة فيصل قد غادرت فيه القاهرة متجهة الى جدة أن تناقصت اعداد اولئك السجناء السياسيين من نجد والذين كانوا معتقلين بالقاهرة ليصلوا الى عدد لا يتجاوز اصابع اليد الواحدة فقط، وقد اقتصر من تبقى من هؤلاء المنفيين الذين استمر اعتقالهم بتلك المدينة على: عبدالمحسن بن ابراهيم بن مشاري آل سعود، وابنه ابراهيم اضافة الى اثنين من العلماء، زائدا عائلاتهم وحاشيتهم (21) .
ومنذ الآن فصاعدا لم يتم نفي اي شخص من بيت آل سعود، عدا أولئك الذين غادروا نجد الى استانبول للاقامة هناك عن رغبة.
وقد كان أحد هؤلاء القادة، هو ولد عبدالله بن ثنيان، والذي بقي هناك حتى وفاته (23) , اما عن الظروف الخاصة التي يمكننا منها معرفة من هو صاحب القرار في ذهابه والبقاء هناك، فلا نعرف عنها الا القليل, وقد ظل ابناؤه في تركيا حتى اندلاع الحرب العالمية الاولى, وقد عادوا فقط الى موطنهم عندما استعاد المرحوم الملك عبدالعزيز آل سعود الحكم السعودي على نجد، مؤسسا بذلك الدولة السعودية الثالثة في عام 1902م.
أما فيما يتعلق بالأشخاص المنتمين الى الزعامات القبلية العربية في نجد، فهناك حادثة واحدة فقط تم فيها نفي واحد من تلك الزعامات، وهو علىوجه التحديد راكان بن حثلين من قبيلة العجمان، والذي تم القبض عليه من قبل العثمانيين بعد فترة وجيزة من فرض سلطتهم على الحساء في 1288ه 1871م.
يعود اصل راكان الذي يوصف بانه واحد من أشجع مشائخ العرب الذين عرفتهم نجد في كل تاريخها المعاصر اساسا الى منطقة نجران، حيث كانت قبيلته العجمان التي تعتبر فرعا من قبيلة يام الكبيرة قد هاجرت الى نجد في حوالي الربع الأول من القرن التاسع عشر (24) , وقد سبب راكان قدرا كبيرا من المصاعب للعثمانيين، إلا إنه وقع في أيديهم أخيرا، وقد تم نفيه إلى إحدى المحافظات العثمانية غالبا ما كانت في منطقة ما من البلقان، أو هكذا نفترض، استنادا في ذلك الى تلميح راكان واشارته الى ذلك في إحدى قصائده التي يصف فيها فترة من فترات منفاه هذا عندما شارك في الحرب العثمانية ضد الروس.
وايا كان ذلك، فقد أمضى راكان حوالي سبع سنوات في المنفى بأمر من الباب العالي، وقد سرت إشاعة كبيرة اثناء تلك الفترة بأنه قد توفي أو تم قتله، وقد سُجِّل ان واحدة فقط من زوجاته الاثنتين قد رفضت تصديق هذا الزعم، معلنة على الملأ قولها (سوف لم أصدق هذه الرواية الى ان يأتيني من اثق به ليقول لي إنه قد دفن راكان بنفسه), اما فيما عدا ذلك واصلت قولها فإن راكان لايزال حيا وسيعود يوما ما, وفي مقابل هذا الاعتقاد، كانت الزوجة الأخرى وتدعي الشقحاء وبعد عدة سنوات من الغياب التي انقطعت فيها تماما اية اخبار عنه، قد بدأت تدريجيا في تصديق الاعتقاد السائد بأن راكان قد توفي, وتبعا لذلك قامت وبما يمكنها منه الشرع بالزواج من الدويش، زعيم قبيلة مطير، وأنجبت له فيصل الدويش، الذي اكتسب شهرته كواحد من أبرز زعماء الإخوان، وكأبرز القادة المؤيدين للملك عبدالعزيز يرحمه الله (مع أنه تحول فيما بعد إلى اشد معارضيه).
وعندما عاد راكان فجأة الى الجزيرة العربية، بعد أن وافقت السلطات العثمانية على الإفراج عنه (25) جاءت اليه الشقحاء زوجته السابقة طالبة منه السماح، فرفض طلبها معبرا عن هذا الرفض في قالب شعري غاية في الروعة (26) ، مليء بالحدة وإثارة المشاعر، لدرجة ان تلك المقاطع ملتصقة بأذهان الناس منذ ذلك الوقت، وحتى يومنا هذا.
ومن اللافت للنظر أن ركان كان قد بدأ ينظم أشعاره في فترة مبكرة جدا من طفولته، وأنه قد اكتسب منذ ذلك الحين اطراء على تطويره لموهبته الشعرية من خلال ابتكاره للملاحم البطولية القبلية المستندة على مواضيع مزدوجة من البطولة والرومانسية.
وقد جاءت اهمية تلك القصائد النبطية من كونها سجلا شاملا لتاريخ قبيلته، كما انها تسلط الضوء ايضا على تقاليدها ومورثاتها المتداولة منذ القدم، وفي هذا الصدد يمكن اجراء مقارنة بين تلك القصائد، وبين غيرها من القصائد التي يعود تاريخها الى فترة مبكرة من التاريخ العربي، قبل ظهور الاسلام، وفي فترة لم تكن توجد فيها أية وثائق أو سجلات مكتوبة, وقد ظلت أشعار راكان محفوظة كاملة في أذهان الناس حتى يومنا الراهن.
أشراف مكة
وبالعودة الآن الى عرض لتاريخ أشراف مكة، فيما يتعلق بما شهدوه من فترات المنفى، فانه مما يجدر ذكره انه لم يكن احد من اولئك الاشراف الذين تولوا منصب الإمارة هناك إلا كان منفيا، عندما تم اختياره ليصبح أميرا, وقد سارت الأمور، في الواقع على هذا النحو، منذ الوقت الذي قام فيه محمد علي بنفي الشريف غالب بن مساعد، في عام 1814م، وصولا الى تلك الفترة التي تولى فيها آخر شريف، اي حسين بن علي (1908 1923م).
ودعنا نبدأ بحادثة الشريف محمد بن عون، الذي كان، في وقت توليه لاعباء الإمارة لأول مرة، (كأول واحد من فرع آل عون يقوم بذلك) يعيش في المنفى بالقاهرة, وبعد عقود قليلة لاحقا ارسل الى المنفى تماما للمرة الثانية من قبل محمد علي باشا الذي كان له الدور الاكبر في تعيينه شريفاً لمكة بينما جرت العادة أن يصدر السلطان العثماني امره مباشرة في تعيين شريف مكة، نتيجة لدخوله في نزاع مع أحمد باشا حاكم الحجاز, ثم عاد في عام 1840م الى الحجاز عندما رغب محمد علي باشا نفسه في عودته لتقلد منصبه شريفا على مكة.
وفي العام 1850م تم نفي ابن عون الى استانبول ومن قبل الباب العالي هذه المرة وتم استبداله بواسطة الشريف عبدالمطلب بن غالب، والذي كان نفسه بالمنفى منذ عام 1827م.
وفي عام 1856م تم خلع الشريف عبدالمطلب واعتقاله بواسطة الباب العالي، وأرسل الى منفاه في استانبول، حيث تم استبداله بالشريف محمد بن عون مرة اخرى,
وعند وفاة هذا الشريف الأخير لاحقا فقد تم ملء منصبه الشاغر بواسطة ابنه عبدالله، الذي كان قبلها منفيا في استانبول.
وفي العام 1877م أزيح الشريف عبدالله بن عون ايضا عن منصبه، وخلفه في المنصب أخوه حسين باشا، الذي كان شبه منفي في استانبول لعدة سنوات.
يتبع غدأ
* أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة الملك سعود وعضو مجلس الشورى |
|
|
|
|