| شرفات
هل ينتج الاكتئاب عن تنشيط التوتر للصدمات الموجودة في الدماغ على شكل ندبات ؟! أو بكلمة أخرى هل للاكتئاب أسباب بيولوجية إضافة إلى أسبابه النفسية ؟! إن أبحاثاً جديدة أثبتت ما يدل على ذلك إذ تبين منها أن الاكتئاب ينتج عن تفعيل التوتر لندبات موجودة في النسيج الدماغي منذ مرحلة مبكرة من العمر إذاً، الاكتئاب ليس ذا منشأ نفسي فقط، فالاختصاصيون في علم النفس العصبي يرون أن للندبات الحيوية الناتجة عن صدمات مبكرة ادت في مرحلة مبكرة من العمر إلى تلف النسيج الدماغي دوراً في الإصابة به.
لقد أصبح مرض الاكتئاب الذي يدعوه البعض داء العصر بمختلف تجلياته بدءاً من الإحساس البسيط بالفراغ وانتهاء بالأفكار الانتحارية السوداء مرضاً شائعاً جداً، ففي أوروبا يصيب هذا المرض شخصاً واحداً من بين كل خمسة أشخاص، ومع ذلك فإن هذا الاضطراب في الحياة النفسية الذي يؤثر بصورة رئيسية على المزاج ويؤدي إلى الإحساس بالألم والكآبة بقي غامضاً إلى حد ما لا سيما فيما يتعلق بسبب انطلاقه, بما صعب من مهمة علاجه، وذلك على الرغم من التقدم الكبير الذي أصابته الكيمياء الحيوية والذي استفاد منه صانعو مضادات الاكتئاب.
وإذا كان الأطباء اليوم يملكون وسائل علاج ناجعة لدى إصابة المرضى بنوبة الاكتئاب، فإن الحالة الاكتئابية التي تصيب المريض لا تشفى من الأعماق بل إنها في كثير من الأحيان تعود للظهور بعد التوقف عن تناول الأدوية، وفي الوقت الحاضر لا يوجد بين أيدي الباحثين أية طريقة للوقاية من الحالات الاكتئابية، منذ التوصل إلى تركيب مضادات للاكتئاب، تجري الأمور على مايرام بالنسبة لأنصار المنشأ الذاتي للاكتئاب وهو المبدأ القائل بأن الاكتئاب يحدث في غياب اضطرابات يمكن معرفتها أو كشفها في حين يقول أنصار المنشأ الارتكاسي للاكتئاب بأنه ينطلق على إثر صدمة ذات طبيعة نفسية انفعالية حداد ، تسريح من الوظيفة ، لأن مضادات الاكتئاب تسمح بتحقيق تراجع للأعراض الاكتئابية وذلك عن طريق تدخلها في عمليات الدماغ الكيميائية, فهي تؤثر على الاتصال المتبادل بين الخلايا,تستخدم خلايا الدماغ العصبية للاتصال مع بعضها البعض مواد بيوكيميائية رسولة وعندما تصدر خلية ما مادة رسولة تدخل هذه الأخيرة في اتصال مع الخلايا المجاورة وذلك بالتثبت على مستقبلاتها, ويمكن للمادة المرسلة إما أن تنشط الخلايا الموجهة وتثيرها أو على العكس أن تهدئها.
ويركز الاختصاصيون في الاكتئاب دراساتهم على السيروتونين الذي يعد أحد المواد الرسولة الأساسية، وبعد أن لاحظ الباحثون قلة معدلات هذه المادة عند الأشخاص المكتئبين، عمدوا إلى تركيب مضادات اكتئاب تساعد على سد النقص فيه وخلصوا إلى أن الحالة الاكتئابية تنتج عن عوز السيروتونين بيد أن فرضيات أخرى تشكك في صحة هذه النظرية، فقد وصف أطباء أميركيون لمرضى يعانون من الاكتئاب ويمرون في مرحلة نقاهة نظاماً غذائياً يؤدي إلى خفض معدلات السيروتونين ولاحظوا أن حالة معظم هؤلاء المرضى لم تتراجع على الرغم من ذلك.
ووحدهم المرضى الذين تناولوا مضادات اكتئاب تعرضوا إلى هبوط في معدل السيروتونين، ويبدو من خلال هذه التجربة أن عوز السيروتونين لا يقدم سبباً مقنعاً للحالة الاكتئابية الابتدائية, وبالإضافة إلى تأثيرها على معدلات السيروتونين، لا أحد يشك في قدرة مضادات الاكتئاب على ضبط التوتر الذي يعتقد أنه العنصر المفتاح في عدد كبير من حالات الاكتئاب إذ تبين التجارب أنه عندما يتعرض الحيوان للتوتر كأن يشعر بتهديد خارجي مثلاً فإن ضغطه الشرياني يزداد كما يحدث تسرع في نبضه القلبي، ويختار الحيوان في هذه الحالة أمراً من اثنين إما الهرب أو المواجهة وعندما يزول الخطر، يعود إرتكاس جديد ليظهر ويعيد حالة التوازن والراحة إلى الجسم.
** ماالذي يقف وراء السلوك الاكتئابي ,,, ؟!
يرتبط رد الفعل على التوتر عند الإنسان كما عند الحيوان بآلية هرومونية، ففي حال تعرضنا لخطر ما، يفرز دماغنا هرمونا يدعى CRT في الدم ، وتستجيب الغدتان الكظريتان لهذا الإفراز وتقومان بدورهما بتحرير هرمونات أخرى هي الغليوكورتيكويد التي تعد مسؤولة عن رفع الضغط الشرياني وعن وضع العضلة القلبية في حالة تأهب، وعندما يزول الخطر تتوضع هذه الهرمونات على عدد من المستقبلات الدماغية ويكون ذلك بمثابة ضوء أخضر للجسم لكي يسترخي ويعود إلى وضعه الطبيعي,لكن الأمور بدأت تسير في منحى مختلف بعد تعقد حياة الإنسان العصرية وكثرة همومها إذ أنه بات من المستحيل تقريباً الهروب من منغصات كثيرة فتهديد البطالة يدفع المرء إلى قبول أوضاع مهنية قاسية ومسببة للتوتر في كل لحظة، إن عجز الفرد عن القيام برد فعل مناسب على هذه الأوضاع يؤدي إلى تلف آلية الارتكاس ضد التوتر على المدى البعيد, وقد تبين للباحثين بعد تجربة أجروها على الفئران أن معدلات الهرمون CRH عند الفئران التي يتم تعريضها لأوضاع توتر مديد تزداد في حين أن إنتاج الغليكوتورتيكويد عندها يتناقص مما يؤدي إلى تناقص معدل مستقبلات هذه المادة في الدماغ الذي يبقى في حالة توتر بينما يكون الجسم مسترخياً ومفتقراً للطاقة, والأعراض الموافقة لهذا الوضع معروفة جداً عند الإنسان وهي تمثل ما يسمى بالحالة الاكتئابية، وعلى الرغم مما تقدم، فإن الظروف السابقة وحدها ليست كافية للتسبب في حدوث الاكتئاب، بل إن للمورثات دورها أيضاً في هذا الخصوص يقوم فريق باحثين ألمان من مان هايم حالياً بدراسة سلالات فئران تسلك سلوكا اكتئابيا دون أن تكون عرضت مسبقاً لأوضاع توتر أو تهديد ويقول الباحثون إن هذه السلالات هي ثمرة تراكم مورثات لها دور في الإصابة بالاكتئاب على مر عدة أجيال ويؤكدون أنهم سيتمكنون من تحديد هذه المورثات في المستقبل القريب, ونستطيع القول بأن فئران التجربة هذه منحدرون من أجدادٍ تم تعذيبهم عمداً وتحويلهم إلى كائنات مكتئبة،وتبين التجربة أنه عندما يتم تمرير شحنات كهربائية في قوائم الفئران فإنها تهرب إذا كان باب قفصها مفتوحاً وهي بذلك تعبر عن رد فعلها إزاء التوتر الذي يصيبها، لكنها بالمقابل تسلك سلوكاً مغايراً إذا كان باب القفص مغلقاً إذ أن عشرة في المئة فقط منها يصاب بحالة إحباط ويكف عن البحث عن طريق للهرب من الشحنات الكهربائية المؤدية للتوتر وهو سلوك يمثل أعراضا مميزة لمرض الاكتئاب، وقد لاحظ الباحثون أن عدد مستقبلات بيتسا للنورأ درينا لين الذي يعد هرمون التوتر عند الفئران المحبطة يزداد في القسم الدماغي الذي يدعى الحصين.
ويعتقد فريترزهين مدير المعهد المركزي لصحة الروح في مدينة مان هايم الألمانية أنه يوجد في الحصين مُقلع للتوتر يقوم بتفعيل عدد من المورثات التي تنشط بدورها إنتاج مستقبلات هرمونات التوتر في الحصين الأمر الذي يعني أن عوامل ذات طبيعية نفسية قد تؤدي إلى تغير في البنية البيولوجية للدماغ ، وما أن تدرك الفئران أنه بوسعها قطع التيار الكهربائي بالضغط على قاطعة تعود كمية مستقبلات البيتا للتناقص في دماغها مما يعني أن عملية التعلم هذه أدت إلى إحداث تغير فيزيائي في الدماغ!
الاكتئاب يرقد في الذاكرة البيولوجية ,,,!
بينت دراسة أجريت مؤخراً في بريطانية وشملت تسعة آلاف بريطاني مولودين مابين الثالث والتاسع من آذار من سنة 1958 أن 830 منهم تعرضوا للاكتئاب في سن الثالثة والثلاثين، كما تبين أن الغالبية العظمى من هؤلاء الأخيرين عانوا في طفولتهم من غياب الأم لفترات طويلة أو كانوا انعزاليين في مدارسهم وعرضة لاعتداء زملائهم أو أنهم تعرضوا لأزمات اقتصادية شديدة.
ويرى جورج ألد نهوف وهو استاذ التحليل النفسي في جامعة كيبل بألمانيا أن عددا كبيرا من المصابين بالاكتئاب تعرضوا في طفولتهم لتجارب قاسية مبكرة وأن منشأ الاضطراب الاكتئابي إما أن يكون نفسيا انفعاليا كغياب أحد الأبوين أو فيزيائيا فيروس أو وراثيا طفرة وراثية في بعض المستقبلات أو في رد الفعل على التوتر ويتحدث ألدنهوف في هذا السياق عن ما يسميه ندبات بيولوجية تخلفها في الدماغ صدمات تؤدي إلى تلف جزئي في النسيج الدماغي.
ويؤكد بأن من الممكن ترميم هذا التلف، ذاكراً كمثال على ذلك أن العلاقة الحميمة مع الأم في مرحلة الطفولة المبكرة تمحو الآثار السلبية لولادة صعبة مر بها الجنين لكن هذا لا يعني أن أثر هذه الولادة يزول تماماً بل إنها تخلف وراءها ندبة.
ويمكن أن تثار هذه الندبة بعد سنوات من ذلك بسبب التعرض لصدمة قوية كمرض أوحادث أو موت,,, الخ يؤدي ذلك إلى إيقاظ الآليات الهرمونية والبيولوجية العصبية التي تؤدي الى عملية اندمال جديدة وعليه فإن الخطر حقيقي عندما يسير الشخص في اتجاه الهرب من التوتر بدل السير في اتجاهترميم التلف الذي يلحق بالدماغ نتيجة الصدمات لأنه يخشى والحالة هذه من خطر انطلاق آلية الاكتئاب بفعل المخزون الانفعالي المكبوت في اللاوعي.
* عن مجلة الآفاق .
|
|
|
|
|