| مقـالات
لأنظمة الحكم الناجحة سمات مميزة، وركائز تعتمد عليها في تأسيسها لكياناتها السياسية والادارية, وأي نظام حاكم لا يستطيع التعاطي المباشر مع مواطنيه هو نظام يتصف بالجهل، ومحكوم عليه بالفشل في مد جسور الود والصراحة مع مواطنيه.
ففي الغرب وما يسمى بالدول الديمقراطية هناك نظام الانتخاب المباشر للحكومة، وهو نظام يسمح للمواطن بانتخاب اصحاب البرامج التي تخدم مصالحه الشخصية, وفي هذه المرحلة من عملية الانتخاب يقع هذا المواطن تحت تأثير غير محايد للآلة الدعائية للمرشحين, وبعد انقضاء فترة الانتخاب ينسى ذلك المواطن الذي شارك في اختيار حكامه تماما ويبقى تحقيق الوعود الانتخابية امرا يخضع للظروف والمتغيرات.
ولكن هل يستطيع كلينتون او طوني بلير او غيرهما من رموز الديموقراطية في العام، أو اي من اعضاء حكوماتهم ان يضرب موعدا يلتقي فيه يوميا او اسبوعيا جموعا من المواطنين يناقشون امورا شخصية واخرى عامة؟! اشك الى درجة اليقين ان يحدث ذاك، فالذي يدعى لقصر الرئيس الامريكي لممارسة رياضة القولف هم نفر من مشاهير المجتمع فقط, صحيح ان وسائل الاعلام تعد لسانا صاخبا لقياس ردود فعل المجتمع على سياسة الرئيس الا ان الرئيس هنا خاضع لمزاج رئيس التحرير او مدير القناة الذي يسمح بنشر ما يشاء ويمنع ما يشاء بحسب مواقف مؤسسته من الحزب الحاكم.
انني لا اجتر هذه المقدمة للنيل من تجارب الآخرين الديموقراطية، ولا أستل قلمي متجنيا على احد، رغم ان الكثير يعلمون الوجه القبيح للديمقراطية الذي لا تسلط عليه الأضواء.
كما اننا نعلم ان اهم معطيات الديمقراطية وهي حرية التعبير (واحدة من اربع حريات اطلقها هرتزل) تعطل متى كان هناك ما يصوغ تعطيلها, فالى حد قريب كانت كلمات (جري آدمز) ممنوعة من ملامسة آذان البريطانين من خلال وسائل الاعلام البريطانية، فقد كان يُكتَفَى بصورته ودبلجة الصوت بلسان آخر, كما انه ابان حرب الفوكلند كانت الصحافة البريطانية تعبر بلسان المحافظين المبين حيث لم يسمح لصوت آخر له وجهة نظر معارضة للحرب بالنفاد الى الشعب البريطاني، هذا فيما يخص الحريات.
اما فيما يخص حقوق الانسان فانها محمية بشرط الا تتعارض مع مصالح الدولة، ولعل اكبر دليل على ذلك الحملة التي شنتها الحكومة البريطانية على الاميرة ديانا عندما تبنت حملة نزع الالغام وتحريمها دوليا ، فقد كانت ثورة الحكومة غير مواربة، حيث فتحت النار على ديانا لانها تريد تدمير الجندي البريطاني بحسب تعليق الساسة البريطانيين, اذا فالجندي البريطاني هو الانسان الذي يجب ان تحمى حقوقه اما المساكين الذين تحصدهم الالغام وتنتشر اشلاؤهم على اسنتها فهؤلاء ليس لهم حقوق, وعلينا ان نقيس ذلك على نظام الحكم الامريكي والكندي والغربي عموما.
هذه توطئة لنمط متميز من الممارسة الديمقراطية اسمها المجالس المفتوحة والتي تطبقها هذه البلاد كتقليد سعودي خالص نصت عليه الاعراف وجسدته التجربة وغذته العادات والتقاليد فصدرت به التوجيهات الكريمة لان يكون سمة من سمات نظام الحكم السعودي, ولعلني اقتطف بعض ما نص عليه تعميم من نائب رئيس مجلس الوزراء عام 1401ه (الأمير فهد بن عبدالعزيز ) ما نصه:
على الوزير ورئيس المصلحة الحكومية ووكلاء الوزارة ان يحددوا ساعة على الاقل في كل يوم لاستقبال المواطنين ذوي العلاقة والاستماع الى شكاواهم المتعلقة بالوزارة او المصلحة اذ من خلال تلك الشكاوى يمكن التعرف على الادارات والاقسام محل الشكوى وبالتالي يتم البحث عن اسباب الشكوى والعمل على حل ما يعترض تلك الادارات من صعاب اذا فالمجلس له هنا وظائف منها الاستماع الى الرأي الآخر، والتعرف على مواطن الخلل، والاصلاح الفوري للاخطاء, هذا الحديث مقدمة لاستعراض كتاب صدر حديثا لصاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن مشعل بن سعود بن عبدالعزيز آل سعود، وعنوانه المجالس المفتوحة والمفهوم الاسلامي للحكم في سياسة المملكة العربية السعودية , وبمجرد قراءة هذا العنوان يمكن تصور دقة وحساسية طرق مثل هذا الموضوع في مؤلف يتداوله الناس.
فالمؤلف قد يقع بين خيارين اما الوصف والمبالغة في المثالية، واما الدراسة العلمية للواقع من خلال جميع الآراء التي تناولت هذا الموضوع والتعاطي معها بمنتهى الموضوعية.
والذي يرجح الاختيار الثاني هو ان الكتاب قد بني على اساس رسالة علمية نال بها المؤلف الماجستير من احدى الجامعات الامريكية عام 1408ه وبالتالي فاننا نتوقع منه العلمية بموضوعيتها التي تثري الطرح وتزيد من قدرته النقدية نحو فهم افضل لواحد من اهم ركائز الحكم السعودي.
ان هذه السمة الاساسية قد قوبلت بتعتيم متعمد من قبل المثقفين الغربيين الذين يعانون من عقدة التحيز العقلي التي تدفعهم الى اتخاذ آراء وتصورات انتقائية تجاه مؤسسات المجتمعات الشرقية، كما توحي باحساس بالتفوق النوعي في النواحي الثقافية والحضارية ص 14 ولذلك فان هذا الكتاب هو في واقع الامر رصد امين لآلية المجلس والدور الذي يؤديه في نظام الحكم الملكي السعودي وذلك بغية تحقيق فهم افضل وتوفير معلومات اكثر دقة عن المجلس المفتوح، فقلة المعلومات المتوفرة عن المجلس في المكتبة الغربية وحتى العربية كما يقول المؤلف هي في حد ذاتها دليل مادي على وجود ذلك الموقف العقلي المتحيز للمثقف الغربي, ويأمل المؤلف في البرهنة من خلال مؤلفه هذا على ان الديقراطية التي يعتنقها الفكر الغربي ويفضلها يوجد لها بديل يتفق مع طبيعة المملكة وينسجم مع هويتها المسلمة التي لا شك تختلف عن المعطيات الغربية العلمانية.
ويتعرض المؤلف في كتابه (257 صفحة) الصادر حديثا عن مجموعة المعراج الدولية للنشر والاعلام لعدة قضايا في نقاشه للمجالس المفتوحة، فقد قسم كتابه الى: المعلومات وادوات جمعها، والاطار النظري الذي يؤسس لكل المناقشات العلمية في الكتاب، وخلفية تاريخية وطبيعية وجغرافية عن المملكة العربية السعودية، والاسس الدينية والحضارية للدولة السعودية، ومقارنات دولية، والمجالس المفتوحة: الإجراء والوظيفة، واخيرا استنتاجات وتطلعات, وقد ختم مؤلفه بستة ملاحق هي: تعميم حول ضرورة فتح الابواب للمواطنين من قبل كل مسؤولي الدولة، ونظام مجلس الشورى، والاستبانة التي جمع بها معلوماته، والنظام الاساسي للحكم، ونظام مجلس الوزراء.
والطرح لذي تضمنه هذا المؤلف القيم الذي يعد مرجعا في مجاله هو طرح علمي يبتعد عن المجاملة والتطبيل، حاول المؤلف فيه ان يستقصي جوانب موضوعه من خلال تأطير نظري تأصيلي من الكتاب والسنة والفكر الاسلامي ومن خلال كتابات المنصفين من الغربيين عن المملكة العربية السعودية ونظامها السياسي.
كل هذا التوثيق تم تدعيمه من خلال العمل الميداني المتمثل في لقاء علمي عن المجالس المفتوحة مع امير منطقة الرياض وهو الرجل الذي يستقبل نحو ألف مواطن يوميا في جلستين فضلا عن جلسته التي يقيمها في منزله, والى جانب هذا اللقاء استقصى المؤلف رأي المواطن في المجالس المفتوحة من خلال استبانة وزعت على عينة ممن يحضرون المجالس المفتوحة لولاة الامر.
ويصف الامير سلمان، ذلك الرجل المتمرس في الحكم، المجالس المفتوحة في تقديمه بانها صورة صادقة للتلاحم بين الشعب وقادته، وسنة حميدة يحرص عليها الراعي، ويحتاج اليها الرعية، فالمجالس المفتوحة مضمار متعقل متزن لتبادل الآراء من اجل خدمة ديننا ونهضة بلدنا، والمحافظة على استقراره وامنه .
وفي اجابته عما اذا كانت تسمية المجالس المفتوحة بالديمقراطية المباشرة تسمية مناسبة قال الامير سلمان نعم ، فعند مقارنته بالمفاهيم الغربية استطيع ان اسمي عمل المجالس بالديمقراطية المباشرة لانك ترى المواطنين وهم يتناقشون ويتبادلون الحجج المباشرة مع المسؤولين الحكوميين من الملك حتى اصغر مسؤول في الحكومة، حيث يعبرون عن آرائهم ويتلقون النصحية في نفس الوقت .
ويؤكد الامير سلمان في اجابته على سؤال آخر بانه من المهم جدا ان يستمر العمل بنظام المجالس، وبالرغم من انني اواجه مشقة كبيرة في حضور المجلس كمسؤول، الا انني اعتقد بانه من المفيد بالنسبة لي ان افهم واجبي كما يجب ان أؤديه وبذلك فانه عندما يحضر شخص ما اليّ ويشرح مشكلة معينة، فان هذا الاجراء المباشر افضل من الاجراء البيروقراطي (الحكومي الروتيني) الاكثر تعقيدا وكون المجلس تطرح فيه مشكلات شخصية، وحقوقية، وتناقش فيه مشكلات سياسية ايضا فانه يعد من وجهة نظر الامير سلمان بن عبدالعزيز احد الاجراءات المهمة لقياس الرأي العام في المملكة العربية السعودية .
وحول ما اذا كان بامكان المواطن في حالة عدم رضاه بالحل ان يتوجه لمسؤول اعلى، اوضح الامير سلمان في توضيح مباشر لآلية العدل واحقاق الحق في هذه البلاد ان المواطن يستطيع ان يذهب الى وزير الداخلية او النائب الثاني او ولي العهد او الملك شخصيا كما يستطيع المواطنون ان يذهبوا الى رئيس ديوان المظالم او الى ادارة التفتيش والتحقيق حيث يستطيعون مقاضاة المسؤولين او رفع الشكاوي ضدهم .
والحقيقة ان احدا لا يستطيع ان ينكر الدور الايجابي الذي تقوم به المجالس المفتوحة من خدمة للمواطن والمسؤول وهذا التقليد السعودي الخالص يعد دليلا واضحا على تطور الآلية السعودية في الحكم، واستجابتها لرأي المواطن وحرصها على حقوقه كاملة، وقد اشار 67% من المواطنين الذين ترددوا على المجلس الى ان قضاياهم قد انجزت في الحال ووجدوا جوابا مناسبا.
ويخلص المؤلف معلقا على نتائج المقابلة مع صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز ونتائج الاستبانات الى انه اذا كانت المجتمعات الغربية الحديثة فخورة بمجالسها النيابية وسياساتها الديموقراطية التي تضمن وجود ممثلين عنها لمناقشة مشاكلها لدى المؤسسات الرسمية فان المجتمع السعودي والقادة السعوديين فخورون ايضا بوجود نظام المجلس لديهم باعتباره قناة اتصال فعالة جدا بين المواطن والمسؤول حيث ان المجلس هو احد التقاليد السعودية التي يستطيع المواطن عن طريقها مقابلة المسؤولين وجها لوجه للتعبير عن آرائهم دون وسيط, وقد اعتاد الناس في المملكة العربية السعودية اشراك المسؤولين في مشاكلهم بطريقة شخصية جدا لان لديهم نفس المشاعر، وعليه فان المجلس يؤكد اسس الدين والحكم والتقاليد، كما يعزز الطموحات الشخصية في آن واحد.
ان افراد الشعب في المملكة العربية السعودية (قادة ومواطنين) يشكلون مستوى اجتماعيا واحدا حتى لو كانوا يحتلون مناصب رسمية مختلفة, ويعتقد القادة بانهم ليسوا سوى خدم لشعبهم، مما يعني انه لا توجد طبقات اجتماعية متفاوتة في المملكة العربية السعودية .
ويوصي المؤلف بايجاد مكتب لدراسة المجالس المفتوحة من حيث مدى الاستفادة منها بالصورة المطلوبة، ونوعية القضايا المطروحة فيها ومدى انجازها خاصة اذا كانت تلك الشكاوى تخص جهة او وزارة من الوزارات، حيث يقوم هذا المكتب ايضا بدراسة القضايا والشكاوى وتحليلها للافادة منها في اتخاذ القرارات.
كما ان المؤلف يتطلع الى اليوم الذي يرى فيه المملكة تشرك العالم معها في تجربتها الناجحة المتمثلة في المجالس المفتوحة.
ان هذا الكتاب هو مصدر ثري بالمعلومات عن واحد من اهم ركائز الحكم في السياسة السعودية, والاطلاع عليه يعطي انطباعا بالثقة بموروث هذه البلاد وثوابتها عندما توجه لخدمة الحكم ومصحلة المواطن, كما ان المؤلف يشدد على ان هذا الاجراء الذي بدأ تقليدا بدويا هو اجراء قابل للتطوير والتحديث والتنظيم بحيث يصبح منتجا موسوما بعلامة الاصالة السعودية، ويمكن بيسر وسهولة تصديره لتلك الدول التي اعاقها بريق الحضارة الغربية عن دراسة مالديها من موروث وما تكتنزه حقيبتها التاريخية من معطيات حضارية تحتاج فقط الى نفض الغبار عنها لتصبح قادرة على قيادة انظمة الحكم التي تسعى الى التميز والنجاح بنكهة وطنية خالصة.
فالجيل الناشئ مدعو للاطلاع على هذا الكتاب وذلك لتوثيق صلته بجوانب التميز في سياسة بلاده ليكون محصنا امام الهجمات التغريبية التي تصور الآخر فقيرا يستجدي مخرجات حضارتها المهيمنة في وقت نملك فيه من المقومات ما يجعلنا قادرين على تصدير نمط مختلف للحكم والممارسة الشورية من خلال سياسة المجالس المفتوحة ونظام مجلس الشورى كما ان المثقف والباحث بحاجة الى المعلومات الثرة في هذا المصنف القيم.
معلومات الكتاب:
العنوان: المجالس المفتوحة والمفهوم الاسلامي للحكم في سياسة المملكة العربية السعودية.
التقديم: صاحب السمو الملكي الامير سلمان بن عبدالعزيز آل سعود أمير منطقة الرياض.
التأليف: صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن مشعل بن سعود بن عبدالعزيز آل سعود.
الناشر: دار المعراج الدولية للنشر.
عدد الصحفات: 257 صحفة.
تاريخ النشر: 1420هـ - 2000م
|
|
|
|
|