| الثقافية
فكرت كثيراً في أمر هذا الكائن الغريب، هذا الشعر، أمور كثيرة وشكوك وتساؤلات تراودني حوله، منها ما استطعت مواجهته بها، ومنها ما أدركته من ملاحظتي وتأملي لأحوال محبيه وأعدائه,, ومن ملازمته كظله، ومنها الذي ما يزال يتراءى لي بين الصحو والنوم، بين أحلام اليقظة والحقائق، بين ما رأيت وأرى وما أتوقع أن أراه.
ما هي ماهية هذا الكائن؟ إذا كان القبض على هذه الماهية يحتاج إلى أعمار تضاف إلى عمري وإلى جهود خارقة تضاف إلى جهودي, وهل سيكون له في النهاية ماهية ثابتة أستطيع معرفتها وتعريفها؟
لست أول المحاولين، ولن أكون آخرهم، بالتأكيد، ولكن تعلمت منه وبه وله أن لا أحاول أخذه كاملاً دفعة واحدة وفي كل مرة,, إنه القبض على المستحيل، بل يمكن القبض على المستحيل أحيانا، ولو في الأحلام، أما هو ,, حتى ولا في الأحلام، والفائز من عشاقه من استطاع الحصول على جزء يسير منه يضيفه إلى جزء آخر كلما انفتحت له طاقة من طاقات الحدس أو العبقرية أو الإلهام أو الصنعة أو الجهد والمثابرة أو الوعي أو اللاوعي.
هذا الكائن الغريب ناقص وكامل، ناقص من شدة كماله وكامل من شدة نقصه، ناقص أشعر بأنني في حاجة ماسة إلى إكماله من خيالي، وكامل أشعر أنه لا يمكن الإضافة إليه.
صدقته عندما قال لي إنه مع ذلك كله (كامل دائماً)، فأنا أحبه وأحب أن أصدقه، ولكن أين تكمن عبقريته ومصدر ما يدعيه (عبقريتي قادرة على اكتشاف العلاقات بين المشاعر والأشياء) ومع ما ينوء به ويبعثه ويثيره من عواطف فهو (قادر على التخلص من العاطفية الزائدة وإدراك العالم جيداً).
أما هذا الذي يجلس في زاوية ما، مظلمة واضحة، يراقبنا، مسؤول ولامسؤول، صادق وكاذب، صافي النية مشوبها، محايد ومنحاز، مخلص وغيور، ويغار أحياناً مني فيحاول مع أنه يعدو ورائي دائماً أن يحاذيني أو يسبقني، وهو عاقل ومنطقي ومنهجي ومدرسي ويتظاهر صادقاً أو كاذباً أو مجرد رغبة؟! أنه مثلي,, عاشق لحضور الشعر وغيابه، ومكتشف مثلي في غابة أسراره وأغواره وأجوازه اللامتناهية، ولكنه يتفلسف وينظر وعيناه حادتان، ويحب ويكره، ويظهر ذلك كله فيما يقول, وهو الوحيد في مجلس الشعر الذي يقول ويقول، أما الشعر ونحن ,, فنشير ونومىء ونوحي ونلمّح ونتراسل بالمجاز، أما هو الباحث عن الحقائق فقد كان واحداً في جماعة وجماعة في واحد، بعضهم أدرك أن مهمته ليست (أن يكشف عما يعبر عنه الشعر، بل أن يرى الشعر في ذاته ولذاته فلا يُقيّمه بمقاييس خارجة عنه، سواء كانت هذه المقاييس خلقية أو اجتماعية أو لغوية لأن كل ما لا ينبع من الشعر نفسه,, هو في الواقع دخيل عليه) وبعضهم أدرك أن (العلم يسعى إلى هدف معين، أما الشعرفلا هدف له إلا أن يكون) وبعضهم أدرك أن (الشعر كائن مستقل له حياته الخاصة وهي الحياة التي تهمنا، أين هي وكيف قامت وما هو هدف الشاعر الفني وماذا أراد أن يحقق وهل حقق ما أراد وكيف، وأن هذه الاسئلة هي التي يجب أن نجادلها لنرى الشعر كما هو، والأداة الجديدة التي يستخدمها هذا البعض هي التحليل لا التفسير، فتحليل الشعر من ناحية بنائه ونسيجه يزيدنا علماً به دون أن يخرجنا عنه، أما تفسيره في ضوء آرائنا والانطباعات والظروف التي أحاطت به والعوامل التي أثرت في إنتاجه، فكل هذه الأشياء (لا تقربنا منه بل تبعدنا عنه) وبعضهم أدرك أنه لا بد من وسائل ومناهج وطرق لتحليله، للاقتراب من عالمه، للدخول في فضاءات أسراره، للوقوف أمام أضوائه وغموضه وشفافيته، لمعرفة جدته من قدمه وحداثته من تقليديته,, فلجأ إلى استخدام (المقارنة لتحديد التقاليد الشعرية التي ينتمي إليها الشاعر ولمعرفة إلى أي مدى أضاف الشاعر إلى هذه التقاليد، وبذلك استطاع وضع انتاجه في موضعه الصحيح بالنسبة لغيره، فازداد إدراكه له).
في مجلسه أدركت أنه (ليس تدفقاً طبيعياً للمشاعر وانسيابياً مهما كان صدق هذه المشاعر، بل هو من يعمد إلى الرمز أو الطريق غير المباشر بدل الافصاح عن الاحساس بالطريق المباشر، والتصوير بدل التقرير والتجسيم بدل التجريد والدقة بدل الابهام) ثم استمعت إلى جدل بينه وبين بعض عشاقه حول هذه الأفكار والمفاهيم حوله مما جعلني أتخيلها لكثرتها ولما تحظى به من تكرار وإعادة وشرح وأمثلة، أتخيلها وقد أصبحت قواعد جديدة وأنماطاً وقيوداً كنت وما أزال أسعى إلى التفلّت منها وإلى الخروج من أسرها.
ماذا لو كان كل ما سمعته في مجلسه صحيحاً، ولكن لا صحة ولا كذب لما يتعلق به، إذن,, ماذا لو أصبح كل ما سمعته مما لا يحصى ولا يعد من الأوصاف والأعراف والنصائح والأمثلة ,, ماذا لو أصبحت قيوداً فنية وشعرية جديدة,, تكبل من رسالته تحطيم القيود.
من كتاب ما هو الأدب لرشاد رشدي (بتصرف).
|
|
|
|
|