| الاقتصادية
مهما وصل إليه العالم من تقدم في مجال الآلة وفي ميدان التقنية والأتمته (Automation)، يظل الإنسان بما حباه الخالق من علم وقدرة ومهارات وسلوك هو المحور الرئيس للأداء والإنتاجية, لقد وقع الكثير من الباحثين والممارسين في خطأ مفاهيمي عندما أفرطوا في التفاؤل بفاعلية الآلة، والنظر الى الأتمتة والميكنة على أنهما العصا السحرية التي ستقضي على كافة الأمراض الإدارية والفنية المستعصية في العالم النامي والمتقدم على حد سواء, وكان من نتائج هذا الاعتقاد الخاطىء أن سارع كثير من القائمين على المؤسسات الإنتاجية في المجتمعات النامية على وجه الخصوص بشراء واستيراد التقنية دون التركيز على تهيئة البيئة الاجتماعية داخل المنشأة بشكل مسبق، وقد أصيب هؤلاء بخيبة أمل كبيرة عندما استمرت معضلات الأداء ومعوقاته كا هي عليه قبل إدخال التقنية ان لم تتفاقم، وأدرك البعض خطأ اعتقادهم عندما اتضح للجميع أن ميكنة العمل أو تطويره آليا كما أشار إليه مايكل هامروجمس شامبي 1995 قد لا تعدو إحلال تقنية عالية مكان تقنية متخلفة لأداء نفس الأعمال القديمة (أو توفير أساليب متقدمة) لأداء نفس الأخطاء السابقة، وهو أمر اشبه ما يكون بتفريغ مشروب عديم الصلاحية في كأس جديدة.
لقد حذرت من هذا المفهوم الخطير في كتب ومقالات سابقة لما ينطوي عليه من مخاطر كبيرة في مقدمتها احتقار فاعلية الإنسان ودوره في مقابل الآلة, فتحت عنوان (الإبداع والأفكار تنبع من البشر وليس من الأجهزة) ناقشت دورية (Quality Express) في عددها الأخير ملخصاً لكتاب عن عقل الإنسان اللامحدود وضرورة التركيز عليه باعتباره مصدر التنمية والإبداع والابتكار، وليس الآلة.
أولئك الذين مازال يخالجهم الشك في ريادة دور الإنسان، ما عليهم الا مراجعة أداء المؤسسات التي تمتلك التقنية في الدول النامية مقارنة بزميلاتها في الدول المتقدمة، حيثما تتشابه المؤسسات في امتلاك التقنية ويبقى الفرق في اختلاف المجتمع البشري الذي يتعامل معها ويسخرها للإنتاج.
الذي أردت أن اقوله انه مهما بلغت درجة استعانة المؤسسات الإنتاجية بوسائل التقنية والميكنة ووسائل تدفق وتحليل ومعالجة المعلومة فإن أداءها وإنتاجها يظلان محدودين بالمفاهيم الاجتماعية والسلوكيات الإدارية السائدة في بيئة العمل أو ما يعرف ب (Administrative Ecology).
ولنأخذ على سبيل المثال لا الحصر (الصراعات الاجتماعية داخل الجهاز التنظيمي) كأحد مظاهر البيئة الإدارية في المجتمعات النامية وأثرها في الحد من الأداء المؤسسي.
رغم أنه لا يتوفر لدي دراسة علمية عن بيئة العمل الإداري التنفيذي في الدول العربية إلا أنه يبدو لي من خلال الملاحظة أن صراعات العمل والعلاقات غير الجيدة داخل المؤسسات التنفيذية تؤثر بشكل سلبي يحد من فاعلية الجهاز بشكل ملحوظ, ومع العلم بأن هذه الظاهرة (إذا صح تسميتها بذلك) تختلف من جهاز لآخر تبعاً لعدة أسباب في مقدمتها شخصية رئيس الجهاز وثقته بنفسه وقدرته الإدارية، إلا أنها ومن وجهة نظري الشخصية عامل رئيسي وراء تدني الاداء في كثير من المؤسسات الإنتاجية في مجتمعنا.
في كتابه الذي صدر تحت عنوان (The Bad Attitude Survival Guide 1998) ذكر هاري تشامبرز بعضا من مظاهر السلبية التي تنتج عن صراعات العمل في البيئة الإدارية، لعل من أهمها:
انخفاض الروح المعنوية لدى الأفراد وغياب روح الفريق وسيطرة مشاعر الصراع والمنافسة.
غياب الحماس لدى الأفراد والعمل بشكل رتيب دون هدف أو رغبة حقيقية.
سيطرة السلبية وعدم المبالاة على البيئة العملية للمنظمة.
في بيئتنا الإدارية التنفيذية، قلما أن يتحدث إليك شخص عن المؤسسة التي ينتمي اليها دون أن يتحدث عن صراعات العمل، وكأن تلك المؤسسات ميادين للصراعات والمنافسات السلبية وليس للعمل والإنتاج.
وطالما أننا اعتمدنا في هذا الطرح المتواضع على الملاحظة لا على الدراسة العلمية المنهجية فإنه يبدو لي ومن خلال الملاحظة أيضاً بأن هذه المعضلة تعود لعدة أسباب، قد يكون من أهمها:
قلة الثقة بالنفس (هناك دراسات تشير الى أن واحداً فقط من بين ثلاثة أشخاص يتمتع بالثقة بالنفس).
عدم الوضوح فيما بين الرئيس ومرءوسيه.
شيوع طابع المجاملة في اجتماعات العمل بين الرئيس والمرءوسين وعدم الرغبة في (او الخوف من) المصارحة والمكاشفة.
عدم التسليم بوجود صراعات سلبية ومحاولة إيهام النفس والآخرين بعكس ذلك.
اعتقاد بعض المدراء التقليديين والضعفاء بأن صراعات المرؤوسين تعزز قدرتهم القيادية وبقاءهم في المقدمة.
اعتقاد بعض التنفيذيين بأن القمة لا تتسع لأكثر من شخص واحد.
والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام هو: هل الصراعات العملية تمثل بالفعل ظاهرة إدارية داخل مؤسساتنا العامة والخاصة؟
موضوع من وجهة نظر الكاتب يستحق الدراسة والتحقق، فإذا ما تبين أنها تمثل ظاهرة ملموسة كما افترضته هذه المقالة فإن الأمر يتطلب مراجعة متأناة وعلاجا فوريا، فنحن مقبلون على فترة حرجة في ضوء عولمة الإدارة والاقتصاد، حيث تعتمد الميز النسبية والتنافسية فيها على كفاءة الأداء وجودة الانتاج، وتمثل الصراعات داخل البيئة الإدارية عائقاً من معوقات التنمية والإبداع, ونحن أحوج ما نكون إلى بيئة تتوارى فيها صراعات العمل وسلبية الأفراد العاملين، فالوقت والإمكانات والطاقات المحدودة أهم بكثير من تشتيتها في صراعات تستنزف كثيرا مما تضيف.
وكيل وزارة الشئون البلدية والقروية المساعد للتخطيط والبرامج .
|
|
|
|
|