| مقـالات
شكا إليَّ أحد الكبراء ما يصل إليه من شائعات وإشاعات بحق الآخرين وما يروجه البعض من أقاويل كاذبة ولغط ممجوج قد تفعل فعلها وتحفز المتسرعين إلى أخذها مأخذ الجد وتصديقها، ومن ثم البدء بمواجهتها خطابياً وكتابياً وهاتفياً للاعتراض والرفض لما حصل والتحذير من الاستمرار فيه، مع أن شيئاً من هذا أو ذاك لم يكن، والفضلاء من الناس يستبعدون الافتراء والكذب ويغيظهم مايبلغهم من كلام مفترى، وقلت له وكأني أواسي أو آسو أو أتوجع: إن حديث المجالس لايعول إلا على الكبراء ولا تعذب أطراف الحديث ويحلو تداولها إلا حين يكون موضوعها عن علية القوم، وتذكرت مقولة إسرائيلية مفادها :( ان موسى عليه السلام سأل ربه : أن يكف عنه ألسنة الخلق, فقيل له : (إن الله جل وعلا لم يسلم من النيل,, والله قادر على أن يختم على أفواه الكافرين وأن يطمس على عيونهم، ولكنه لم يفعل)، وقد حكى الله عما قاله اليهود والنصارى بحق الله (وقالت اليهود يد الله مغلولة) (وقالت اليهود عزير ابن الله) (وقالت النصارى المسيح ابن الله), وهو قول منكر قالوه بأفواههم بحق خالقهم، ومع ذلك ظلوا في الحياة يأكلون ويشربون ويمشون في الاسواق ولم ينلهم الله بسوء.
والمفكر العربي عباس محمود العقاد حين تحدث عن العبقريات الإسلامية أشار إلى أن من مؤشرات العبقرية أن يختلف الناس حول الإنسان فيجله قوم ويحقره آخرون، وضرب مثلاً بعلي بن ابي طالب رضي الله عنه وهو الخليفة الراشد والمبشر بالجنة وممن تجلت فيه مخايل النبل والشجاعة والعبقرية ومع ذلك كرهه قوم حتى قتلوه وأحبه آخرون حتى عبدوه, وما من أحد تخطى بفعله أو عمله أو شجاعته أودهائه أوحلمه وأناته الحد المتوقع والممكن إلا وكان عرضة للأخذ والرد، وكل العلماء الذين ضحوا بحياتهم لإصلاح العقائد وهداية الناس دارت حولهم الشائعات والإشاعات, فهذا ابن تيمية وابن عبدالوهاب ومن سبقهما من العلماء ومن لحق بهما أوسعهم الناقمون ذماً وتجريحاً، ويكفي أن نضرب مثلاً بحديث الإفك وما لاقاه الرسول صلى الله عليه وسلم وأم المؤمنين رضي الله عنها من النيل، وهل بعد القدح في العرض وإشاعة الفاحشة من إشاعة مؤذية ومخلة بالأهلية؟ ومع ذلك صبر الرسول صلى الله عليه وسلم واعتزل زوجته حتى نزلت براءتها من السماء، وحين اقسم ابوها الصديق الا يطعم (مسطحاً) الذي لم يكف عن تداول الخبر المنكر، نزلت آية تنهاه عن ذلك (ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى) وكان مسطح الذي شارك في إشاعة الفاحشة من اولي القربى الذين ينفق عليهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه فلم يمنعه قربه من أبي بكر ولا إنفاق ابي بكر عليه من أن ينقل تلك الشائعة المنكرة، وقد اقام الرسول صلى الله عليه وسلم حد القذف عليه مع حسان وحمنة بنت جحش وطهرهم الله بحد القذف وعوقب حسان بأن كف بصره.
وأصحاب المكانة والشرف الرفيع لا يسلمون من الأذى، ويجب عليهم أن يعرفوا أن الأضواء والشهرة لها ثمن باهظ، ويجب ألا يتعامل الإنسان مع القيم على حرف، فإذا مسه الأذى فكر في التراجع عن مبادئه، ويجب أن يعرف المحظوظون أن الحسد يعمي ويصم، وأن لغط الحاسدين كالنار مع الطيب والشاعر يقول:
وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت, أتاح لها لسان حسود لولا اشتعال النار فيما جاورت ماكان يعرف طيب عرف العود |
فالناس الجوف إما أن يكونوا نمامين أو مغتابين والأسوأ أن يكونوا باهتين يفترون على الله الكذب, إذ النميمة والاغتياب يكونان حين يكون في الإنسان ما يقال فيه، غير أن الشائعات من البهت والافتراء، فهي الاسوأ والأحط، والمحظوظ من يبهته الناس ويكون عبدالله المظلوم, سئلت عائشة رضي الله عنها عن أولئك الذين ينالون من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين مات وهو عنهم راض, وهو سؤال استنكاري، إذ من الغريب أن يكون كبار الصحابة عرضة للنيل, فقالت ما معناه: ليس هذا بغريب فلربما أن الله أعد لهم منازل في الجنة لم يبلغوها بأعمالهم فسلط عليهم من العاملين من ينال منهم، ليأخذ لهم من أعمال أولئك ويضيفها إلى موازين الصحابة ومن ثم يبلغون منازلهم.
ولو أننا تعقبنا الشائعات ومصادرها وأهدافها ودوافعها وأسباب تكاثرها والفئات التي تخلقها وتروجها لوجدناها ظاهرة عالمية وتاريخية، وقد تكون ممارسة وظيفية، إذ لا يجوز أن نحصر الشائعات ضمن إطار سوء الخلق، فالقيم تحددها المقاصد والدوافع والمبررات الميكافيلية،وحرب الشائعات معروفة منذ القدم، وقد ألف علماء الناس والتاريخ والسياسة عنها، وكتب العسكريون وأصحاب المذكرات الحربية عما تفعله الشائعات الموظفة، والشائعات قد تصنع من قبل المباحث والاستخبارات وتشاع في أوساط خاصة أو عامة وترصد ردود الفعل والنتائج، وقد تخلق الشائعة لجس النبض ومعرفة مدى تقبل الرأي العام لها وحجم انفعاله او تفاعله.
وقد ألفت كتب كثيرة عن ظاهرة الحرب النفسية تشعبت فيها الآراء وتعددت الاتجاهات وكانت (الإشاعة) واحدة من أهم مفردات الحروب النفسية, حتى لقد ألفت كتب عن (الشائعات) وأنواعها وأثرها وأسلوب ترويجها ومصادرها وممن ألف في ذلك الأستاذ أحمد نوفل، ومن المترجمات المهمة كتاب ألبرت جولدن .
والإشاعة الموظفة تختلف عن الإشاعة العفوية والساذجة والكيدية، فالأولى قصدية، والثانية نتيجة أوضاع اجتماعية أو نفسية كالخوف مثلاً أو سوء التربية أو الفراغ، وبالرجوع إلى جريدة المراجع في كتاب الحرب النفسية للدكتور محمد بن مخلف المخلف يتبين حجم الاهتمام في هذا الموضوع وتعدد مستويات الشائعات ووظائفها وحواضنها المتعددة وطرق كفاحها وإبطال مفعولها.
والحرب الباردة ومقدمات الحرب العسكرية ينسل منها حروب عدة كحرب الإشاعات والحرب النفسية وحروب الدعاية والإعلام وحرب الأعصاب وغيرها, ونحن هنا لا نجد متسعاً من الجهد والوقت لتقصي تلك الحروب وتقويمها، والحديث عن المحظور والمباح منها، وتلك الحروب تواجهها مؤسسات مماثلة تعترض سبيلها وتبطل مفعولها، وتتبادل معها الأدوار في صناعة الإشاعات, إن اهتمامنا منصب حول ما يتداول في المجالس من إشاعات قد تضر بسمعة البعض، وهي إشاعات غريبة في حبكها وفي سرعة انتشارها واختفاء مصادرها والتردد في تحديد أهدافها، والمؤسف أن الذين يتداولونها يعتقدون بصحتها، ولا يفكرون أبداً في فحصها والتأكد من مصداقيتها, والأكثر إيلاماً استفحال البلاهة والسذاجة في اوساط المتعلمين الذين لا يتوفرون على أدنى حد من اليقظة ولا يساورهم أدنى شك حول أي إشاعة.
وقد لا تكون الإشاعة في مستوى التصديق لإغراقها في الخرافة والمبالغة، والأشد سوءاً أن تمس الإشاعات أعراض قوم مؤمنين آمنين أوتعطي سمعة سيئة عن مجتمع لا تقوم فيه مثل هذه الأحداث, أوتنسب الممارسات إلى إنسان لا يتوقع من مثله مثل هذا الفعل, وهذه الشرائح التي تتدنى لتكون من الرويبضات تؤذيك بما تقول، ولا تجد بداً من إعلان أسفك واستيائك وتألمك، لأن هذه الشرائح من المجتمع عليها المعول في التصدي لمثل هذا اللغط السخيف الذي لا يحتمله العقل ولا يصدقه الواقع, اذكر أنني قرأت كتاباً تحدث فيه مؤلفه عن انواع من الزواج كالمتعة والعرف والمسيار وسماه الفجور المباح، واعتبر ظاهرة زواج المسيار من الممارسات الشائعة في المملكة، لمجرد أن واحداً من التافهين قال بوجود هذه الظاهرة ليروج لمهنته بوصفه يمارس الخطبة على جُعلٍ ينتفع به، إذ تقطعت به الاسباب، فدخل لعبة الإثارة، وزواج المسيار لم يبلغ حد الظاهرة والإثارة، ولا قيمة لحالات نادرة رضي الطرفان فيها لظروف خاصة أن يعقدا قرانهما، وأن تسقط المرأة بعض حقوقها بمحض إرادتها، كأن يكون لها أطفال صغار لا تود مضايقتهم، أو تكون مطلقة أو ارملة غنية أو موظفة وترغب في العفة وظل الرجل، وهي ممارسة سليمة لا تنال من كرامة المرأة، ولأن تلك العادة غير شائعة وغير موجودة بشكل واضح ، فقد طارت بها بعض الصحف الفضائحية، وجاء من يعالجها على أنها ظاهرة مستفحلة وأنها بإزاء المتعة والزواج العرفي، وفيما نحن نتداول تلك الظواهر في مجالسنا، قال لي أحد المسؤولين عن الأمن: لقد تناول أحد الخطباء حدثاً أمنياً أخاف الناس وأزعجهم، وحين طُلب منه الإثبات لم يستطع، مما اضطره إلى التراجع معلناً تسرعه وأسفه,
إننا إذ نواجه مثل هذه الظواهر العالمية نود من العامة الوعي ومحاصرة تلك الظواهر السيئة لأننا مجتمع مسلم يحاسب عاجلاً أوآجلاً على حصائد الألسن (مايلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد).
|
|
|
|
|