| الثقافية
حين تسمع بالتفجير سواء كان للغة أو كان لنوع من أنواع الأدب كالرواية والقصة والشعر، أو حين تسمع بالنص المفتوح أو النص المغلق أو بفضاء النص أو بانفتاح النص أو بادعاءات باذخة لا يفقدها المتابع لفيوض الحداثة والنقد الحديث تتوقع إضافة معرفية أو فنية أو لغوية، تنقل الطاقات اللغوية والفنية من النمطية والمحاكاة إلى آفاق التجديد والزخم المعرفي والمغايرة الفنية المتجاوزة، ولكنك وعلى كل مستويات القراءة ومن خلال كل الممكن من نظريات التلقي لا تجد شيئاً ذا بال، تجد أدباً وتقف على امكانيات عادية ولكنك لا تجد شيئاً مثيراً، وتحفظنا لا يمس أدبية ما يقال، وإنما هو حول القطع باستثنائية ما يقال، وسأضرب الأمثال وأقدم الشواهد (وما راء كمن سمع)، وما على المترددين إلا أن يتساءلوا، وما على المعارضين إلا أن يرشدوا، فما أنا إلا صاحب رأي أولي يرقب ردود الفعل, قيل عن إميل حبيبي في (المتشائل) الشيء الكثير، ولاقيت الأمرين حتى وقعت يدي على العمل، وكنت قد قرأت عنه الشيء الكثير، وتوقعت أن أجد عالماً روائياً يفوق الأنموذج القديم والجديد إلى الأجد، يكسر الرقم القياسي، ويظل الأنموذج المتحدي غير أني لم أظفر بشيء أكثر من مغامرة جريئة تحللت من كل الضوابط والشروط، ولم تقدم الأفضل بحيث لا يصعب الأتيان بمثل ما أتى به، وليس ما أتى به من السهل الممتنع، ومحاولته تلك تتوخى شيئين: استثمار التراث الشعبي في البعد الدلالي والنصي والشكلي، والخروج على البنية الروائية بكل شروطها المستقاة من النماذج المتميزة التي تنتظر التحدي والتجاوز، وكأني بالكتبة وهم يودون شرعنة تجاوزاتهم يتخطفون سقط التراث ليوهموا بجمع الحسنيين: عصرنة التراث وشرعنة رؤاهم، ثم هم مع هذا يخرجون على التواضع ليؤكدوا أنهم فوق الشرط والحد، على حدِّ: علنيا أن نقول وعليكم أن تتأولوا, والكاتب أو المبدع حين يضرب الفن في الصميم يتوقع منه أن يحقق نقلة إلى الأفضل، فالنصوص السابقة كالأرقام القياسية، تبحث عن متحد ومحطم ينتزع الثقة والإعجاب, فعل ذلك أبونواس وبشار بن برد وفعله من بعدهما أبو تمام وخلَّف بتحديه للأنموذج مذاهب واتجاهات نقدية, وفعل التجاوز ذاته المتنبي، فكان سهر الناس حول شوارده نقلة نوعية للنقد العربي, إننا نرحب بالفلتات وبالمبدعين الاستثنائيين الذين ينتزعون الإعجاب والإكبار بما يقولون لا بما يقال عنهم، ومصائبنا الجسام ما نشاهده من ترديات وانحسار وتضليل نقدي، وإذا أبنَّا النصح لم يتبينوه ولا في ضحى الغد.
قرأت (المتشائل) لأميل حبيبي ووجدت عملاً ليس هابطاً في ذاته ولا في مراميه وأهدافه، ولكنه غير قادر على إحداث تغيير إلى الأفضل في الرواية والفن فضلاً عن أن يحدث تفجيراً في البنية الروائية كما يدعي النقاد المتشايلون مع هذه النوعية من التجاوزات, ومخالفة الشروط والخروج على المقتضى الفني لا يكون بالضرورة إضافة ولا مؤشر تألق ولا وثيقة تجديد ما لم يقدم المبدع عملاً متميزاً تحمل إلى جانبه النماذج السابقة أو يستجيب لذائقة العصر ويسد حاجة قائمة، ويسلم له النقاد بالتجاوز والإفاضة، وكل هذا لم نلمسه في تلك الأعمال التي وصفت بالتفجير، والمشهد النقدي بحاجة الى تعرية ومواجهة جريئة لإيقاف فيوض التزييف والموطأة المشبوهة وهذا ما سأحاول فعله متى تيسر الجهد والوقت, لقد استخدم حبيبي ألواناً مغايرة من السرد لا تشتم فيها نكهة الإبداع، وليست على شيء من فنيات الرواية ولا على شيء من بنيتها، ولم تكن مع هذا التخطي مؤشر براعة، ولا علامة تجاوز إلى الأفضل, لقد حاول بفعله المغاير أن يؤاخي بين أنواع السرد، ولكنه بهذه المغامرة يشبه إلى حد كبير ما يفعله الشعراء المحدثون حين خربوا الإيقاع والغنائية، وقدموا مشروع (القصيدة النثرية) فأحدثوا خلطاً عجيباً لا يحكمه شرط ولا يحميه أنموذج، ومع هذا التسيب يقولون بتحرير الشعر من قيوده، وفات هؤلاء وأولئك أن الفن قيود وضوابط ونظام وأن الجمال تناسُق شكلي وصوتي، ومخاض الفن الأصيل لا يلد العبث والإنشاء والنثر المقدور عليه، الفن صعب وطويل سلمه، ولست أدري ماذا سيفعل أولئك بأقوالهم حين يتخلى الكبار عن مشاريعهم التخريبية وقد فعلوا فهذا أدونيس غيّر موقفه من قصيدة النثر، والمؤكد أن أولئك البائسين سيقولون ما قاله غير عابئين بما تركوه من وثائق تسود الوجه ولا أحسبهم بالنقد الجنائزي سيوارون سوآتهم ولايغني عنهم القفز من شاخص لآخر مثلما تفعل القردة.
وبالعودة الى الأمثال التي ضربناها نجد الأشكال السردية الجديدة التي لجأ اليها إميل حبيبي ليست عصية على سائر الخارجين على الشرط والحد، إن التجديد الحقيقي والتجاوز يعنيان أن تقدم أنموذجاً عصيّ المنال صعب المرتقى، يفوق السالف، ويطفىء وهجه، ويصرف نظر المتلقي عنه، و(القصيدة النثرية) عمل أدبي لا يقدر على تحدي القصيدة العربية، والرواية الرافضة للشرط والحد لا تكون بإزاء الملتزمة لهما، إلا إذا أحدثت شرطاً واحداً يبهت الأدعياء، ويقمعهم، ويحمي حوزة الفن، إذ بإمكان أي مغامر أن يفعل فعل إميل حبيبي وفعل كتبة قصيدة النثر، إذ لا صعوبة أمام أي كاتب، لان ما جاء به أولئك لا يعد نقلة نوعية متميزة، يقال إنه عمل أدبي وحسب، وهذا أقصى ما يمكن أن يوصف به، وقد يكون أولئك على قدر من التمكن ولكننا نتحدث عن وثائق ولا نعرض لإمكانيات، فقد يكون أميل حبيبي عبقرية فذة ولكنه بالمتشائل دون ذلك بكثير، ذلك ما نراه ولا نكره أحدا على رؤيتنا ولكننا ننبه لإعادة القراءة وعدم التعويل على زيوف النقد وفيوض التزييف.
ولو أن أدعياء التجديد يقدمون أشكالهم ورؤاهم ثم لا يسخرون بمن سبق لما عيب عليهم، ولكنهم يفعلون فعل من ألجأ أبا العلاء المعري إلى القول:
فيا موت زر إن الحياة دميمة ويا نفس جدِّي إن دهرك هازل |
والنوادر والمبادرات الاستثنائية لا تحتاج إلى مدَّاحين ولا إلى هجائين في آن، لقد كانت سخريتهم بالتراث والجيد من القول مدعاة إلى كشف سوآتهم، ثم لو أننا عدنا إلى المضمون عند أميل حبيبي وتركنا البنية الفنية لوجدناه يرتد إلى التراث فيلتقط الأشعار والطرائف والأشخاص كشخصية (جحا) التي أكدها (عبدالرحمن بسيسو) ويحاكي المقامات بطريقة عشوائية لا توصف بالوعي التام، ثم هو لم يستطع دمج هذا المستلب في البنية الروائية المغايرة التي استحدثها؛ وقد عول كثيراً على ظاهرة أسلوبية عرفت فيما بعد ب (المفارقة)، وقد يكون تعويله دون مواطأة لهذا المصطلح، مثلما يقال عن اليابانيين والصينيين من أن نصوصهم توحي بالمفارقة دون أن يكونوا واعين لهذا المقتضى الأسلوبي.
وأول المفارقات عنده اسم البطل (سعيد أبي النحس) وممارسات البطل المتناقضة، فهو عميل وهو فدائي، وهو متشائم وهو متفائل، وقد نحت من الكلمتين (المتشائل), والعمل بجملته خلط عجيب في البنية الفنية والدلالية، ففي البنية الدلالية تحس بالتلفيق وتداخل الأشكال التراثية بالبنية الروائية الحديثة، وإذا جاء الخروج على البنية الروائية بهذه الفجاجة، فلماذا يرفض الحداثيون إطلاق مصطلح الرواية على الأعمال التراثية المماثلة كالمقامات والقصص العربي؟ ولماذا يعيبون على الأدب العربي القديم خلوه من العمل الروائي؟ وهم يكتبون ما هو أردى مما يعيبون، ويخرجون على الشرط الروائي بمثل خروج أصحاب قصيدة النثر على الشرط الشعري؟ والفارغون من التأصيل الفاقدون للمواقف لا يجودون إلا بكلمات التجهيل للناصحين الساخرين بالمتحدين والمفسدين للنقد بالخروج به عن الموضوعية إلى الشخصية.
لقد جرني إلى الحديث عن (المتشائل) ما يقال من أنه تفجير لبنية الرواية الكلاسيكية، وهو تفجير افقدنا البنية الفنية، ولم يعوضنا بما هو أفضل ثم هو عمل أدبي لغير الممكن فالجانب الخرافي فيه أبعد من الواقع, وإميل حبيبي يكاد يكون على موعد مع رواية جمال الغيطاني (الزيني بركات) التي طبعت عام 1974م وسبقتها مجموعتان قصصيتان: (أوراق شاب عاش منذ ألف عام) ط 1969م و(أرض أرض) ط 1972م, ولكن المشهد النقدي لم يحفل بالعملين احتفاله (بالزيني بركات) لأسباب أشرت إليها في دراستي للنقد البنيوي للرواية العربية، إذ عرض لعمله الدكتور سعيد يقطين وعرض له آخرون، والرواية تتخذ من رجال الحسبة ورجال الاستخبارات والثورة منافذ للأتراك والصهاينة، وتلك معادلات وأقنعة صعبة واسقاط مع الفوارق لا مع الفارق، مع أن (الزيني بركات) بوصفه شخصية تراثية لم يكن بسوء رجال المخابرات، والأتراك لم يكونوا بسوء الصهاينة، والاستدعاء الفج يعمق الإخفاقات ويكشف عن خطأ التقنع.
ورواية (الزيني بركات) تذكرني هي الأخرى بثلاثية عبدالرحمن منيف (أرض السواد) التي أهدانيها أحد الأبناء بعد أن قرأها، ولم تثر فيه إلا الاشمئزاز والامتعاض، والتي تأتي بعد خماسية (مدن الملح) الأكثر إثارة وتجويداً، لقد أضاع بإهدائه - سامحه الله - شطراً من جهدي ووقتي لقراءتها بحثاً عن إضافة جديدة في عالم الرواية، ومنيف روائي ومفكر وحزبي تعرف أبواعه الطويلة لا باعه ولكننا كما اشرنا أمام عمل جديد نقول فيه ما نرى دون فيض من التزييف وعمله دون عمل الغيطاني، إذ أن ميزة (الزيني بركات) التكثيف والتركيز، على أن الكم التراثي والمعرفي في العملين واحد، في حين تقع (الزيني بركات) في مائتين وست وثمانين صفحة عبر خمسة سرادقات، وتقع (أرض السواد) في ألف وأربعمائة صفحة عبر إطالة مملة وأحداث رتيبة وجمود مخل بالبنية الروائية والتقاط أحداث بسيطة ومنحها مساحات واسعة من القول مثلما فعل في حديثه عن رسالة لا تشكل أي نقلة بحيث مطط في القول لينيف على مائة صفحة.
وكل الثلاثة: أميل حبيبي، والغيطاني، ومنيف، يمارسون الهروب إلى التراث للتقنع وتفادي قمع السلطة، والسلطة لا تكون بالضرورة سياسية، والأخذ بعصم التراث لا يكفي لإضفاء سمة التميز، وبخاصة عندما يكون التعويل على التراث الشعبي وعلى الحكايات الخرافية، ثم لا بد أن يكون هذا الأخذ على شيء من حسن الانتقاء وحسن التعامل وحسن التوظيف، والثلاثة ربما كانت رغباتهم ودوافهم في الهروب الى التراث متفاوتة، واسلوب تعاملهم متفاوت، ولكنهم جميعاً يتناظرون في ذلك الأسلوب الجديد الذي لم أتبين مثيره الأول، والثلاثة يتعمدون الخروج على البنية الروائية بيد أنه خروج لا يوصف بالاصالة ولا بالتأسيس ولا بالتميز، ومع هذا يتواطأ النقد معهم، وكأنهم جاؤوا بما لم تأت به الأوائل، ولو أن النقد وقف عند هذا الحد لقلنا تلك ذوائق وانطباعات، ولكنه تخطى ذلك إلى النيل من واقع الرواية العربية، وعد فعل أولئك آتياً على قدر، في حين أن ما يكتبونه كلام عادي لو كتبه غيرهم لما التفت إليه أحد، ولما حفل به أحد.
إن الحديث عما يردده النقد الحديث من دعاوى لا تقوم على بينات ربما يثير بعض الحفائظ، ويذكي بعض الحزازات، ويوغر بعض الصدور، بدعوى أنني لا أقيم وزناً للجديد، وإنني مقلد لا أتبين ولا أتثبت، وأنني أقتحم أجواء ليست لي، ولست من أهلها، وأنني بهذا التقحم أتورط وأفضح نفسي وأخجل قبيلي، وتلك محصلة ما يقوله عني البعض وهي كافية لإثبات إفلاس أولئك من الحد الأدنى لادبيات الحوار، وما أحد من أولئك استطاع أن يثبت بعض اما يدعي، وما أحد استطاع أن يرشدني إلى الصواب إذا كنت بتفجعي على المشهد النقدي متجاوزاً للمعقول، وتلك تجشؤات من فراغ مللت من سماعها، وسئمت من الرد عليها، وهي يتيمة الدهر عند من لا يجدون أيسر منها, ولكن لا بأس من القول: إن القارىء الذي يواجه بالدعاوى العريضة من تفجير للغة وللبنية الروائية وبالنص المفتوح والفضاءات الدلالية، ثم لا يجد شيئاً من هذا يدخله الشك أولاً في كفاءته القرائية، فإن وثق في قدرته على التعامل مع النصوص فلا مناص من أن يتهم النص ويكذب النقاد، وهنا تقوم اشكالية أخرى، مفادها الشك في أهلية النقاد في تجسيد الرؤية النقدية، والتعامل مع النصوص بقدرات كافية لممارسة دور الوسيط، وتتنامى المخاوف من عمليات التضليل، فالوسيط الجاهل أو غير الأمين كالطبيب المزيف يخطىء في التشخيص وفي وصف الدواء، ومن ثم يضاعف المرض، والنقاد المتشايلون يرددون كلمات باذخة ويتوسعون بها، ولو سألت أحدهم عما يريد أو طالبته بإثبات ما يدعي لسمعت كلمات سوقية تضاف إلا ما سبق من مثل سوء الفهم، وسوء الظن وتزوير الشهادة والجهل وعدم القدرة على الفهم وعدم القدرة على التعبير, وقد تجرك هذه الاستفزازات الى قول ما لا تريد وفعل ما لم يعهد منك، ثم تنم بعد فوات الأوان وتلك المحاذير حجبت أقلاماً كثيرة وحرمت المشهد النقدي من نقاد أفذاذ يؤثرون السلامة، وشيء آخر يتبدىء للمتابع الحصيف، وهو ان المشهد ومن فيه من بعض شهود العيان قد يلتزمون الصمت ولا يصدعون بالحق حرصاً منهم على ستر عيوبهم المتمثلة بعدم القراءة وعدم المتابعة للمستجدات، وتمسكاً بمواقعهم التي وصلوا إليها في غفلة من الرقيب، ولو أنهم قالوا ما يعتقدون لا نكشفت نواقصهم، وهو ما لا يريدونه، والمعول عليهم طائفة قارئة ومتابعة وقادرة على قمع الادعاء,، وهم بحمد الله كثيرون
ولكنهم صامتون ترقباً للمكافىء من النقاد والتميز من القول، فإلى متى يظل القادرون صامتين، والادعياء وأنصاف المثقفين يخبون ويضعون ويرشقون المارة بآسن المستنقعات؟
|
|
|
|
|