| مقـالات
تابعت بشيء من الاهتمام وبعض من الاستغراب الاهتمام الإعلامي الفائق بمسلسل أم كلثوم الذي عرض في كثير من المحطات العربية خلال شهر رمضان ويعاد عرضه هذه الأيام في بعض المحطات الفضائية, وسر اهتمامي أن المسلسل يروي تاريخ حياة تداخلت كثيرا مع أحداث تاريخية هامة وعهود سياسية مؤثرة فات على جيلنا إدراكها, من تاريخ الاستعمار البريطاني، الى حكم الملك فاروق، الى عهود تلت لا تقل وقعا ضاريا على صدر الأمة وواقع المنطقة ومصائر شعوبها، عهود فقدنا خلالها، مع الكرامة والنضج والوعي، فلسطين وبلادا عربية لا تزال تئن الى يومنا هذا تحت وطأة الاحتلال الإسرائيلي بعد أن أسلمها لهم من يتباهى بعض المؤرخين العرب بوطنيتهم وقوميتهم وعظمة تاريخهم.
كان هذا سر الاهتمام، أما سر الاستغراب الذي شعرته تجاه ردة الفعل الإعلامية فهي أولا في هذا التمجيد الذي لا يعكره نقد يذكر لمنتجي وممثلي العمل، لدرجة أن تتباهى بطلة المسلسل بأنها ضحت بجنينها، وكادت تضحي ببيتها، من أجل المسلسل، فلا يستنكر أو يستغرب مستمع, رغم أن العمل، مع كل إيجابياته يبقى ناقصا من الناحية الفنية بالمقاييس الدولية، ومن الناحية التاريخية بمقاييس منهجية البحث العلمي.
وهذا يقودني الى ملاحظتي الثانية، وهي أن تاريخنا يُكتب قبل أن يُكتب, فهوية المؤرخ، وميوله، وانتماؤه تحكم الطرح نفسه وطريقة المعالجة، وتمتد لتشمل حتى الحقائق نفسها إخفاء أو تمييعا أو شقلبة ، فأنت تقرأ لناصري أو بعثي أو إخواني أو قومي أو رافضي نسبة لجبهة الرفض وجهة نظر في التاريخ، وليس التاريخ نفسه مهما كان الادعاء وتصنيف الناشر للكتاب, فجلال كشك يكاد يكون مؤرخا لمصر غير مصر محمد حسنين هيكل، ولمرحلة غير المرحلة ومنطقة غير المنطقة وقادة غير القادة.
ورغم توافق التواريخ والأسماء، تنطق الرواية بحقائق غير الحقائق.
وحتى لو اتفقنا على أن من حق المؤرخين ان يفسروا الوقائع ويحللوها كما يريدون طالما أن التحليل ضمانا لحيادية البحث والباحث مبني على أسس علمية متعارف عليها، وليس مجرد عواطف وانتماء حزبي وشعوبي وعقائدي، إلا أن اختلاف الوقائع نفسها بالتشويه أو الانتقاء أو التزوير الكامل يعني أن نتيجة البحث ستنتهي متحيزة لوجهة نظر الكاتب، وكأنما كتب التاريخ ليؤيدها لا توثيقا للتاريخ نفسه, وفي هذه لا يختلف مؤرخونا عن أي أصحاب خلاف في أي قضية، فالحقائق، أو ما يسمى حقائق، تورد كإثباتات وحجج لتدعيم موقف الأطراف المتنازعة ليس إلا, أما الفرق فهو أن هذه الأطراف لا تدعي أنها تكتب التاريخ فيما يدعي مؤرخوناأو مزورونا العظام ذلك.
نعود الى مسلسل أم كلثوم الذي يفترض أنه بحث تاريخي لمرحلة مهمة من حياة الأمة عبر حياة شخصيات تاريخية تشابكت وتداخلت وتوافقت أحداثها مع جوانب متعددة سياسية واجتماعية وإعلامية وثقافية، شأن المسلسل في ذلك شأن مثيلاته من الأفلام والمسلسلات العالمية الدوكودراما حول احداث وشخصيات تاريخية وفنية كتشرشل ومارلين مورنو وسناترا, لقد كان من المفترض والمأمول أن يكون الطرح علميا، محايدا، وصريحا، كما كان في المسلسلات والأفلام الأجنبية المشار إليها، خصوصا على يد كاتب بخبرة ومكانة محفوظ عبدالرحمن، ولكن النتيجة كانت، كعادة مؤرخينا، رواية حب وتعظيم وإجلال لشخصيات بدت وكأنما خلقت من جنس الملائكة، لا جنس البشر.
فكل الحوارات التي دارت بين تلك الصفوة المختارة كانت مثالية، حالمة، رائعة، فالمادة مثلا، كانت آخر ما كان يفكر فيه هؤلاء الرائعون، وكذا الشهرة والمجد الشخصي، فيما توقفت حدود المنافسة عندهم على الإبداع الفني والشعري والإنساني العظيم، أما خصومهم، فقد كانوا وكأنهم شربوا من ماء إبليس، فهم عدوانيون ليس فقط في أسلوب عملهم وطريقة فهمهم للفن والتنافس الشريف، ولكن أ يضا في حياتهم الخاصة وأسلوب تعاملهم مع الآخرينلاحظ الفرق في العلاقة والتعامل بين أم كلثوم ومنيرة المهدية وبين خادميهما , وفي الوقت الذي لم أكن، بحكم السن على الأقل، لأعرف حقيقة الأمور، إلا أنني بحاستي الصحفية وخبرتي المتواضعة في الحياة والناس، أجزم بأن الناس لم ولن يكونوا بهذا التسطح وبهذا البعد الواحد: ابيض أو أسود، صالح أو طالح، محسن أو مسيء, فالنفس الإنسانية والطبائع البشرية أعقد كثيرا من هذا التبسيط المخل، والحقيقة أثرى من الصورة التي يقدمها لنا هذا التحيز المجامل، الظالم.
وكما تظهر كثير من الحقائق التاريخية، إن لم يكن المؤرخون ، فإن أم كلثوم ومعها عائلتها وفريقها الفني كالقصبجي ورامي ومصطفى أمين، والسياسي كفاروق وعبدالناصر وهيكل لم يكونوا بهذا البياض الناصع كله، كما لم يكن خصومها في المعسكرات الأخرى كمعسكر المهدية وعبدالوهاب، والذين تم تجاهلهم كأسمهان وليلى مراد وفريد الأطرش، بهذه السوادية أو الرمادية أو اللا أهمية كلها.
وطبعا ستخرج علينا الأفلام التي تدافع وتلوم بأن اذكروا محاسن موتاكم وكأن هذا ينطبق على من نحب من الموتى فحسب، وبأن الحساسيات السياسية والاجتماعية تفرض على الكاتب والمخرج تجاوز القضايا الحساسة حتى لا ترفع قضايا الورثة وتقوم قيامة المحبين, ولكن يبدو أن هذا أيضا كيل بمكيالين، لأنه لم يشمل الجميع.
وهناك من تعذر بأن عرض المسلسل في شهر رمضان فرض تجاوز بعض السقطات الأخلاقية لأم كلثوم، وكأنما التاريخ يفصل على شهور السنة، أو كأن الرقص والمغنى ، والفوازير مثال عليها، تليق بالشهر الفضيل فيما لا يليق الإشارة لا تلميحا ولا تصريحا بسقطات نجوم الرقص والمغنى.
أما الأهم، الذي لم يذكر بالطبع، فهو أن من مثقفينا من لا يرى إلا الكمال فيمن يهوى، والنقص فيمن لا يطيق, وأن هؤلاء يتصورون أننا، كشعوب، لن نفرق بين مجد الشخصية ومجد عملها, وأننا نؤمن بأن النجاح، كالحب: مطلق، وأن التعريف بجوانب الضعف، واستذكار كبوات الفرسان، والاعتراف بضعفهم الإنساني إفساد للحلم الجميل، ويقظة موجعة من أسطورةالساندريلا وفارس الجواد الأبيض .
وكأننا لم نتجاوز مرحلة الطفولة بعد الى نضج الوعي ووعي الناضجين, وليس لي كمراقب ومعلق إلا أن أقول ليرحم الله الأمة أن كانت كذلك، ويكافي المثقفين إن لم تكن.
* رئيس الشئون المحلية ، جريدة الوطن ، أبها
|
|
|
|
|