| مقـالات
قال أبو عبدالرحمن: الأصل الوضعي الأولي الحقيقي وهو المعنى الجامع اطلاق رأى على ادراك العين، ثم تطلق مادة الرأي والنظر والبصر على العقل والفؤاد تجوزاً؛ لأن العقل يدرك بتأمله، والفؤاد يدرك باعتقاده؛ فالمجاز على التشبيه في معنى الادراك في بعض معناه,, وادراك العين متميز بادراك الألوان والأبعاد والأشكال، وعنه يتلقى العقل صور المدركات، فيختزنها.
والمصدر الرأي سواء أكان الرأي بادراك العين، أم بادراك العقل، أم بادراك الفؤاد,, ومع أن اصل المادة لادراك العين: فان استعمال الرأي مصدراً لرؤية العين قليل، لمعنى سأذكره,, ومما ورد على ذلك قوله تعالى:يرونهم مثليهم رأي العين سورة آل عمران/13 ,, قال الراغب:فعل ذلك رأي عيني، وراأة 1 عيني 2 .
وذكر الجوهري في صحاحه ثلاثة مصادر لرأى، وهي: الرأي، والراأة، والرؤية,, وأضاف ابن سيده مصدراً رابعاً، وهو رأية,, قال: هي مصدر مثل رؤية، ولا تكون الهاء منها للمرة الواحدة الا ان اردت ذلك.
واضاف الفيروزآبادي مصدراً خامساً هو الرُّؤيان، ولكنه عند ابن سيده في المحكم بلفظ الرئيان,, والنقل عن اللحياني 3 .
قال أبو عبدالرحمن: المصدر هو الاقل حروفاً وهو واحد لا يتعدد، ولكن ينوب لفظٌ منابَه في التسلط على المعمولات، فَيُعَدُّ مصدراً لاجل ذلك,, وينوب لفظه عنه في العمل، وفي أداء معناه وهوالمعنى المجرد من زمن الحدث، ومن الاضافة الى تجريده ببيان عدد او هيأة ؛ لنكتةٍ، ومن الأخير استعمال الرؤية مصدراً لرأى مرة، واسماً مرة,.
وذلك في رؤية العين مع استعمال المصدر الأصيل الرأي احياناً,, والسر في ذلك أن الرأي غلب اسماً ومصدراً لرؤية العقل,, والفؤاد لا يبصر ولا يرى، ولكنه مَقَرُّ الايمان والعقيدة، فأُطلِقت الرؤية بحقه مجازاً، لأنه محل التصديق بالمرئي والايمان به، ولأنه يقود السلوك,, والعوام يقولون: الذي يرى القلب لا العين,, يقولون ذلك بحق من زاغ بصره عن المرئي لشرود ذهنه,,والحق أن يقولوا في هذه الحالة: الذي يرى العقل لا العين,, فان زاغت العين عن الرؤية لانفعال مُغلِق فحينئذ يقال: الذي يرى الفؤاد أو القلب لا العين، لان القلب مجمع الانفعالات,, واما الآية الكريمة من سورة النجم فهي عن رؤية العين لا رؤية الفؤاد، لأن الله سبحانه قال: ما كذب الفؤاد ما رأى* أفتمارونه على ما يرى* ولقد رآه نزلة أخرى* عند سدرة المنتهى* عندها جنة المأوى* اذ يغشى السدرة ما يغشى* مازاع البصر وما طغى* لقد رأى من آيات ربه الكبرى سورة النجم 11 18 ، والمعنى ان فؤاد محمد صلى الله عليه وسلم لم يكذِّب ما رآه محمد صلى الله عليه وسلم ببصره، والبرهان على ذلك تاريخي وسياقي,, اما التاريخ فقد ثبت بالنقل والعقل: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أُسري به جسداً وروحاً، ولو كان اسراء ومعراج روح فقط لكان السياق عن رؤيا منام، فلا يكون في ذلك آية يُكذِّب بها الكفار,, وسورة النجم عما رأى في المعراج، وأما السياق فهو عن رؤية العين، لأن الله سبحانه قال: أفتمارونه على ما يرى ، فعاد الفاعل الى العينين,, أما رؤية الفؤاد ففيها مجال للممتري,, كما أن المرئي جبريل عليه السلام، ولقد عطف الله على الرؤية الاولى بقوله: ولقد رآه نزلة اخرى ,, رآه عليه السلام الرؤية الاولى وهو بالأرض، ولا مراء انها رؤية بصر، فلم يُنقَل خلاف في ذلك الا على مذهب من يرى أن المرئي ربنا سبحانه,, وهذا مذهب غير صحيح، بل المرئي جبريل عليه السلام، وبذلك صحت النصوص، ولقد قالت عائشة رضي الله عنها: لقد اعظم الفرية على الله مَن زعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه,, يعني في المعراج,, وكل ما قصه الله عن المرئي مفصلاً أو مجملاً عقّب عليه سبحانه بقوله: مازاغ البصر وما طغى ، اذن الرؤية رؤية بصر.
وللامام أبي زكريا يحيى بن زياد الفراإ 207ه رحمه الله كلام لا يخلو من سهو في تفسير هذه الآية الكريمة,, قال:قد صَدَقَهُ فؤاده الذي رأى,,و كذب يقرأ بالتشديد والتخفيف, خففها عاصم، والأعمش، وشيبة، ونافع المدنيان ,, وشددها الحسن البصري، وأبو جعفر المدني,, وكأن من قال: كذَّب بالتشديد : يريد أن الفؤاد لم يكذِّب الذي رأى، وقد يجوز ما كذَّب صاحبه الذي رأى,, ومن خفف قال: ما كذب الذي رأى، ولكنه صدقه 4 .
قال أبو عبدالرحمن: وجه السهو أن الخلاف في كذب بالتخفيف والتشديد مستقل عن الخلاف في الرائي: أهو العين، أم الفؤاد، فكل من الفعلين جائز اطلاقه على مرئي العين، مرئي الفؤاد, ولكن البرهانين اللذين اسلفتهما دلا على أن المراد رؤية العين,, والفراأُ رحمه الله جعل التشديد محتملاً لرؤية العين,, ورؤية الفؤاد، وجعل التخفيف لرؤية الفؤاد فقط,, وليس هذا بصحيح، بل الاحتمال وارد في الفعلين معاً، وانما تكون رؤية الفؤاد متعينة في التخفيف لو كانت الفؤاد منصوبة، ولكن الفؤاد مرفوعة.
وبايجاز فالمعنى على التخفيف وهو القراأة المشهورة : ان الفؤاد شارك البصر رؤيته بايمانه بالرؤية وتصحيحها، فلم يأت الفؤاد بكذب في اعتقاده,, وفائدة مشاركة الفؤاد تأكيد رؤية البصر، وأنها لم تكن رؤية غير واعية,, هذا معنى ما كذب الفؤاد ما رأى، ولهذا قال السمين الحلبي رحمه الله عن التشديد: ان ما رآه محمد ]صلى الله عليه وسلم[ بعينه صدقه قلبه، ولم ينكره,, اي لم يقل له: لم اعرفك,, وما قراأة التخفيف فقيل فيها كذلك,,وكذب يتعدى بنفسه 5 .
وقال الراغب بعد 425ه عن التخفيف في آية اخرى:من قولهم: كَذَبتُك حديثاً 6 .
وقال أبو جعفر أحمد بن محمد بن اسماعيل النحاس ] 338 ه[: ما كذب فؤاد محمد ]صلى الله عليه وسلم[ محمداً فيما رآه,, والقراأة بالتخفيف ابين معنى، وبالتشديد يبعد، لأن معناها قَبِلَه,, واذا قبله الفؤاد اي علمه فلا معنى للتكذيب, والقراأة بالتخفيف بيِّنة,, اي صدقَه 7 .
قال أبو عبدالرحمن: قراءة التشديد تؤيد قراأة التخفيف، لأن الفؤاد صدَّق البصر على قراءة التشديد ، ولأنه رأى عن وعي,, والفؤاد ما كذب الرؤية بالتخفيف ,, اي لم يأت بكذب في تصديقه، اذ هو مصدق لرؤية البصر، فالتقت القراأتان على معنى واحد.
وقول أبي جعفر: اي صدَقه : بتخفيف دال صدقه بيقين، لأنها تفسير لكذب المخففة، ولأنها لو كانت مشددة لكانت منكرة عنده مثل انكاره لقَبِلَهُ، وهو الآن في دور الترجيح لا الانكار,, ،لما كانت دال الفؤاد مضمومة علمنا بيقين أن قول ابن النحاس بمعنى: أن الفؤاد صدق ما رأى,, اي جاء بالصدق,, وهذا على معنى أن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه في المعراج، وليس هذا بصحيح، والقول قول عائشة رضي الله عنها.
وأما قول أبي جعفر: اذا علمه الفؤاد فلا معنى للتكذيب : فكلام غير تام الدلالة على مراده، وان كان مراده مفهوماً من سياقه,, وليكون تام الدلالة يجب أن يكون بهذا النص:اذا كان معنى نفي التكذيب اثبات العلم فلا معنى لنفي التكذيب .
وعلى اي حال فتعليل أبي جعفر غير متصور، ومردود من وجهين:
أولهما: ان الله قص الخبر بنفي التكذيب، فعلم بذلك تصديق الفؤاد للرؤية بصحة علمه، فكيف يقال: لا معنى لنفي التكذيب ما دام معنى نفي التكذيب هو اثبات الصدق وصحة العلم؟!,, اما قول أبي جعفر فلا معنى للتكذيب : فأكثر احالة، لأن الله لم يذكر التكذيب، وانما ذكر نفيه.
وثانيهما: اسناد نفي الكذب الى الفؤاد لاثبات الصدق والصحة: مفيد جداً، ووجه الفائدة تأكيد الرؤية بمصاحبة الوعي الذي ادى الى ايمان بالصحة في القلب.
وقال محمود بن ابي الحسن النيسابوري 553ه : اي رآه فؤاده,, يعني العلم، لأن محل الوحي القلب كقوله تعالى: فإنه نزله على قلبك سورة البقرة/97 8 .
قال أبو عبدالرحمن: تعالى ربنا سبحانه وجل أن يكون متدلياً، وقد صحت النصوص أن محمداً صلى الله عليه وسلم لم ير ربه في المعراج، وقال: نور أنَّى اراه؟!,, وانما الرؤية بصرية، والمرئي جبريل عليه السلام، والسياق عنه لا عن ربنا سبحانه,, قال تعالى: علمه شديد القوى* ذو مرة فاستوى* وهو بالأفق الأعلى ، فهذا عن جبريل عليه السلام الذي علَّم محمداً صلى الله عليه وسلم وحي ربه,, أما قوله تعالى: فأوحى الى عبده ما أوحى فجاء بعد سياق الرؤية الاخرى وهي الاولى لجبريل عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وسلم في الأرض، ولهذا قال السمين: فأوحى اي الله وان لم يجر له ذكر، لعدم اللبس 9 .
قال أبو عبدالرحمن: ومحل الوحي القلب، لان الايمان والعقيدة في القلب بعد أن حصل استقرار المعرفة في العقل، فتحولت الى ايمان، لأنها معرفة صحيحة.
وقال الامام ابن فارس: الراء، والهمزة، والياء: اصل يدل على نظر وابصار بعين او بصيرة,, والرِّئِيُّ ما رأت العين من حال حسنة، والرُّواء حسن المنظر 10 .
قال أبو عبدالرحمن: أما جعل ابن فارس رحمه الله رأى اصلاً في ادراك البصيرة فذلك خطأ، بل الصواب انها اصل في رؤية العين، لان الرؤية البصرية ذات مفعول واحد، فلما زاد السياق في رؤية العقل بمفعول آخر: علمنا أن ما يحتاج الى بناء أقل فهو الأصل, ثم ان مرئي البصر حسي، ورأي العقل معنوي، فاذا وجدنا المعنى المشترك بين الحسي والمعنوي علمنا أن الحسي هو الأصل، لأن المحسوسات أصول للمعنويات.
وأما الرُّواء فأراها غير مضبوطة ضبطاً صحيحاً، وأن الصواب بهمزة فوق الواو هكذا:الرُّؤاء ,, هذا على منهج القوم في الرسم، والرسم الصحيح لدي: الرُّآأُ , اما الرواأ بغير همزة فوق الواو: فهي من رويت بشراتهم بالنعمة فحسنت، ولهذا لا يحسن تسهيل الهمزة في هذا الوضع,, قال الجوهري عن قوله تعالى: هم احسن اثاثاً ورِئيا , من همزه جعله من المنظر من رأيت وهو ما رأته العين من حال حسنة، وكسوة ظاهرة ، وانشد ابو عبيدة لمحمد بن نمير الثقفي:
أشاقتك الظعائن يوم بانوا بذي الرأي الجميل من الاثاث |
ومن لم يهمز: اما أن يكون على التخفيف، او يكون من رويت ألوانهم وجلودهم رياً,, اي امتلأت وحسنت 11 .
وقال ابن خالويه -370ه :الحجة لمن همز انه اخذه من رؤية المنظر الحسن، والحجة لمن شدد انه اخذه من الري، وهو امتلاأ الشباب، وتحير مائه في الوجه,, او يكون أراد الهمز، فتركه، وعوض التشديد منه 12 .
قال أبو عبدالرحمن: الأرجح حمل التخفيف على الرِّي بمعنى الامتلاء، لأن التفيف بمعنى الرؤية ملبس، ولأن معنى التخفيف بمعنى الامتلاء نتيجة الرؤية الحسنة، فتلتقي القراأتان على معنى واحد.
الحواشي:
1 قال ابو عبدالرحمن: كل ما ارسمه مخالفاً للمعتاد من الرسم الاملائي ولا سيما في احوال الهمزة فعن اجتهاد حققته، وليس عن جهل مني بالقاعدة، وقد بينت وجهة نظري في تعليقات سبقت,, واضيف هاهنا ان كبار المثقفين لا يجهلون قواعد الرسم، ولكنهم ينسونها، لتشعبها، وتعقيدها,, والمطلوب التسهيل والتيسير، فنعود الى قاعدة: أن ما ينطق يكتب كما ينطق على صورته، او برمزه المجمع عليه كعلامة التنوين، وانه لا يعدل عن هذا الاصل الا بمسوغ معقول مؤثر.
2 المفردات ص 375 تحقيق صفوان عدنان داوودي/ نشر دار القلم بدمشق، والدار الشامية ببيروت/ الطبعة الثانية سنة 1418ه.
3 انظر تاج العروس 19/435/ دار الفكر للطباعة سنة 1414ه.
4 معاني القرآن 3/96/ تحقيق الدكتور عبدالفتاح اسماعيل شلبي، ومراجعة الاستاذ علي النجدي ناصف/ دار السرور.
5 الدار المصون في علوم الكتاب المكنون 6/206/ تحقيق الشيخ علي محمد معوض، وزملائه/ توزيع مكتبة دار الباز، ونشر المكتبة العلمية/ طبعتهم الاولى عام 1414ه.
6 المفردات ص 705.
7 اعراب القرآن 4/268 تحقيق الدكتور زهير غازي زاهد/ عالم الكتب، ومكتبة النهضة العربية عام 1409ه,,
قال ابو عبدالرحمن: وقراأة التشديد قراأة شاذة، وقد قرأ بها جماعة,, قال ابو البقاء العكبري 616ه في اعراب القراآت الشواذ تحقيق محمد السيد أحمد عزوز/ عالم الكتب/ الطبعة الأولى عام 1417ه 2/519 520: يقرأ بالتشديد, اي ما كذب الفؤاد ما رأت العينان ,, قال أبو عبدالرحمن: الا ان المحقق ضبط الذال بالتخفيف في قوله:اي ما كذب ,, وهذا وهم منه، لان العكبري يفسر قراأة التشديد.
8 ايجاز البيان عن معاني القرآن 2/771 تحقيق حنيف بن حسن القاسمي /دار الغرب الاسلامي/ الطبعة الأولى سنة 1995م.
9 الدر المصون 6/206.
10 مقاييس اللغة 2/472 473.
11 انظر تاج العروس 19/435.
12 الحجة في القراآت السبع ص 239 تحقيق الدكتور عبدالعال سالم مكرم /مؤسسة الرسالة/ الطبعة الخامسة سنة 1410ه.
|
|
|
|
|