| شرفات
يقول يانيس ريتسوس
ظل أبي كان شاهقا، كان يظلل المنزل كله،
ويسد الأبواب والنوافذ من أعلى لأسفل،
وأحياناً ما كنت أتخيل أنه سيكون عليّ من أجل رؤية النهار
أن أعبر برأسي من تحت إبطيه ,.
***
كان الأب إقطاعيا دمر ثروته على صالات القمار والملاهي، فأظلت البيت خيمة من الحسرة والحزن, وتعمّق الاحساس بالكآبة أكثر حين مات الابن الأكبر ثم لحقت به الأم أيضا، وكأن البيت أحد بيوت الأشباح التي توشوش البحر، في الجنوب الشرقي لليونان.
موت، وسل، وفقر، وتقاليد شرسة، وصوت مرعب للأب وبكاء وراء الجدران، وريتسوس طفل بلا طفولة، قد تسمم صباه بكراهية الأب وماجره على الأسرة من سقوط اجتماعي, وبافتقاد حنان الأم أيضا كان عليه ان يتآلف مع الملامح الخشنة للحياة اليومية,, يتآلف مع أنقاض أسرة,, مع أنقاض السنين المتداعية.
وبعد أن نال الشهادة الاعدادية توجه ريتسوس الى اثنيا أعرق المدائن وهو يعاني المرض والفاقة,, أثينا أيضا كانت تعاني,, فثمة مليون ونصف المليون من اللاجئين من آسيا الصغرى يعيشون على هامش المدينة بلا مأوى أو مأكل, وكان ريتسوس مشردا، قد أتى من أعماق البلاد يتضور جوعا الى حد الشراسة، فعمل في البدء كاتبا على الآلة الكاتبة ثم ناسخا لوثائق البنك الوطني، الى أن أصيب بكابوس المرض العائلي فعاد مرة أخرى الى منزل الأشباح,, الى بيت الطفولة التي لم تكن أبدا وردية, ليقضي أربع سنوات ما بين مصحة وأخرى,, بين النقاهة والانتكاس,, ولا خلاص الا بالشعر,, يكتب قدر الطاقة، ويمتص رحيق النغم اليوناني بدءاً من هوميروس وانتهاء ببالماس, وفي عام 1931م عاد من جديد الى اثينا، ولأنه لم يستطع بسبب المرض استخراج الشهادة المطلوبة للتوظيف، اتجه ريتسوس الى خشبة المسرح، يكتب ويمثل ويخرج ويلقي القصائد، ويسميها وظيفة اللعب والتخفي التي تكشف عن عالم مرير ومزيف.
ويبلغ الزيف مداه حين يعود الملك جورج الثاني على عرشه في استفتاء عام مزيف، ليمنح الجنرال ميتاكساس رئاسة الوزراء وصولجان الاستبداد، فلا يتورع ميتاكساس عن اطلاق الرصاص بلا انذار وضد المتظاهرين جميعا,, وتطول قائمة الجرحى والقتلى، ليعود ريتسوس الى غرفته ذات مساء وفي يده المأساة منشورة في احدى الصحف، وثمة صورة لأم تجثو أمام ابنها القتيل, يعتكف ريتسوس عدة أيام ويكتب عشرين نشيدا جنائزيا لتلك الأم,, يستحضر فيها آلام الفقد ونيران الغضب,, وتنشر القصيدة وتوزع آلاف المرات، فتشتعل الشوارع والميادين ويعلن ميتاكساس الأحكام العرفية، بينما دماء أثينا تتفجر من النوافذ والأبواب وتمضي حزينة الى بحر بعيد.
خمسون ألفا من الشرفاء يذهبون الى السجون في قلاع العصور الوسطى، ولا يملك ريتسوس الا ان يناضل ويتألم ويغني للشرفاء:
ها هي راية الربيع
أعلى المقابر
والأكفان المختلجة تنتصب
أشرعة مراكب
والمراكب تنطلق
ثم يصاب ريتسوس بانتكاسة صحية ويذهب الى احدى المصحات عام 1938م في تلك الفترة يقرأ بالماس سيد شعراء الجيل ديوان أغنية شقيقتي فيرسل اليه قائلا: نحني لك أيها الشاعر كي تمر أي أن ريتسوس غدا شاعرا قديرا يثير الاهتمام على كافة المستويات,, حتى أجهزة الأمن صارت أكثر اهتماما به وبأوراقه الشعرية، تصادرها من حين لآخر.
وبينما كانت أوروبا تهلل بانتصارها على الفاشية كان ريتسوس يعيش في اثينا محطما تحت وطأة المرض، طريحا في غرفة تقع على نفس مستوى الشارع في أحد الأحياء الشعبية, ويطلق أحد الصحفيين الكبار صرخة تحذير في جريدة اكرو بوليس واسعة الانتشار يدعو لانقاذ هذا الشاعر الفذ، وتنهال الخطابات ويتم فتح اكتتاب عام لانقاذ حياة ريتسوس، الذي رفض ذلك ببساطة وطلب تحويل النقود الى جمعية الأدباء الشبان.
ثم جاء عقد الأربعينيات ليفتح صفحة جديدة في تاريخ العنف السياسي ويتم اعتقال ريتسوس عام 1948م الى أحد المعسكرات البعيدة ليقاسي آلام النفي وفظاظة السلطة، وهو يقول: بموتي,, أكمل أشعاري وتقود مجلة الآداب الفرنسية وكذلك أراجون حملة للدفاع والافراج عن الشاعر, ولأن السلطات خشيت من صنع لوركا جديد تم نقل ريتسوس الى معتقل آخر يتواءم حالته الصحية.
لم تكن تلك هي المرة الوحيدة التي اعتقل فيها ريتسوس، ففي الستينيات وعقب اغتيال النائب البرلماني لا مبراكيس واجتياح المظاهرات للعاصمة أثينا، أجريت أول انتخابات حرة في البلاد وسطع نجم السياسي الشهير باباندريو ثم سرعان ما استولت على الحكم عصبة من الضباط المتعصبين الذين اعتقلوا في بضع ساعات عام 1967م جميع القيادات السياسية والثقافية، وأدرك ريتسوس ان الوقت قد حان لاعتقال جديد، فأعد حقيبته وجلس ينتظر رجال البوليس الذين اعتادوا ان يطرقوا بابه من وقت لآخر.
يقول ريتسوس عن شهور الاعتقال والمحنة وراء الأسوار:
انتظرنا شهورا وشهورا كنا نرقب الطريق ولا شيء.
لم يظهر أي رسول, والدرب من حجر وشوك.
أكتوبر، نوفمبر، ديسمبر.
وأخيراً، ها هو المنتظر قد جاء.
وضع على المائدة المبلولة اثنا عشر كوبا كبيرا.
انزلق واحد منهم وسقط الى الأرض مهشماً.
وكان علينا من جديد أن نبدأ الانتظار.
***
ولم يطل الانتظار اذ بدأت في أوروبا حملة لتحرير ريتسوس مرة أخرى يتزعمها أراجون وموروا وساروت، خاصة مع التدهور المخيف لحالته الصحية ونقله الى أحد مراكز علاج السرطان, وبعد عام تقريبا عاد ريتسوس الى الحياة، وذهب الى منزله محملا بحقيبتين متخمتين بمئات الأحجار، اذ كان يكتب الأشعار ويبلورها في ساعات الصبر الطويلة على الحجارة.
عندما كنت في المنفى لم تكن لي وسيلة أعبر بها سوى الحجر، الحجر مادة الأرض الأساسية، ثم هو أيضا رمز الانغلاق والصلابة .
ويكتشف العالم شاعرية ريتسوس فيحظى بتكريم الاتحاد السوفيتي، ثم يحصل عام 1972م على الجائزة الدولية الكبرى للشعر، والتي سبق منحها لأونجاريتي وسان جون بيرس وأكتافيوباث,, وهكذا كانت مسيرة شاعر من معتقل الى آخر,, من مصحة الى أخرى,, هكذا كانت مسيرة قصيدة من دم وحجر تكشف عن أعماق انسان وأعماق وطن,.
شريف صالح
|
|
|
|
|