| أفاق اسلامية
الحمد لله الذي منّ علينا بالأمن والإيمان، وغمرنا بالفضل والنعم والإحسان، وأشهد أن لا إله إلا الله الرحيم الرحمن، وأشهد ان محمداً عبده ورسوله المؤيد بالمعجزات والبرهان، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه، والذين اتبعوم بإحسان، وسلم تسلمياً كثيراً، أما بعد:
أيها الناس اتقوا الله تعالى، واشكروه على نعمه التي أجلها نعمة الإسلام، قال تعالى: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً المائدة 3 ، وقال تعالى: هو اجتباكم وماجعل عليكم في الدين من حرج ملّة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير الحج 78 .
عباد الله، ان المحافظة على الإنسان في الإسلام قضية مهمة جداً، فالإنسان في الاسلام ليس جسداً فقط، وإنما هو جسد وروح، فكما اننا مطالبون بالمحافظة على أرواح المسلمين، فكذلك مطالبون بالمحافظة على عقيدتهم وأخلاقهم وتمسكهم بدينهم، ولا يحمي المجتمع من التفرق والاختلاف إلا شريعة الله، لأنها تجمع الناس وتحكم الأهواء، أما اذا ابتعد الناس عن شريعة الله تعالى اصبح كل أمرىء يتبع هواه، وأهواء الناس لا يضبطها ضابط.
وإننا نعلم من الدين بالضرورة أنه لا يجوز للناس ان يتخذوا غير الله رباً، وكذا لايجوز ان يتبع غير شرع الله، او الحكم بغير ما أنزل الله، ولكن هناك من يحسدنا على نعمة الاسلام، قال تعالى: ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ماتبين لهم الحق البقرة 109 ، وقال تعالى: ودوا لو تكفرون كما كفروا النساء 89 .
نعم إنهم لا يريدون لنا الخير، وإنما يريدون الشر كما قال تعالى: مايود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزّل عليكم من خير من ربكم البقرة 105 ، انهم لايريدون ان تكون شريعة الله تعالى هي أصل أحكام القضاء، ولا يريدون ان نعيش آمنين بتطبيق شرع الله، وإقامة الحدود، ويريدون منا الحكم بغير ما أنزل الله، والتحاكم الى قوانين وضعية صاغها البشر.
عباد الله، كم من الأمم والشعوب من ينشدون الأمن، وكم من المجتمعات تتسابق لتحقيقه بكل امكانياتها الفكرية والمادية، ولكنهم عجزوا وفشلوا، لقد جربوا البطش والجبروت والاستبداد، وهو مايسمى بالدكتاتورية، وطبقوا التساهل والتسامح مع المجرمين والمفسدين الى حد الفوضى، وهو مايسمى بالديمقراطية، فلا أفلحوا في أولاهم ولا أخراهم، استخدموا القوة واللين، وطوعوا العلم والتقنية، وعجزوا في تحقيق مرادهم، وفقدوا نعمة الأمن الذي هو مقدم على الغذاء، لأن الخائف لا يتلذذ بالغذاء، ولا يهنأ بالنوم، ولا يطمئن في مكان، ولهذا دعا خليل الله إبراهيم عليه السلام لمكة المكرمة: رب اجعل هذا بلداً آمناً وارزق أهله من الثمرات البقرة 126 ، فدعا بتوفير الأمن قبل توفير الرزق.
ولما لم يتوفر لأهل الضلالة هذا الأمن، قام أهل الكفر باسم الحضارة والتقدم بالنّيل من الاسلام وشرائعه والقائمين على أحكامه، واتهامهم بأن الإسلام وشرائعه ضد الانسانية، وان تطبيق شرع الله فيه كبت لحرية الانسان وحقوقه، وهم لايريدون ان نسعد ببناء مجتمع آمن قوي متماسك نزيه، بل يريدون منا ان نخل بتعاليم شرع الله، وان نتبع أهواءهم حتى نتردى، إن هؤلاء الذين يرموننا في ديننا، وينادون بأن نتخلى عن ديننا إنهم ينادون بتحطيم مجتمع آمن، يريدون تعطيل حدود الله حتى تسود الفوضى، وقد سبقهم الى هذه الدعاوى الخبيثة اقوال أمم سابقة صار مآلهم الى الخسارة والبوار، وآخر دعواهم المناداة باسم حقوق الانسان، ونسوا ان شرع الله كفل حقوق الناس فيما بينهم ، وأمر بالعدل في كتابة المبين: إن الله يأمر بالعدل والإحسان النحل 90 ونهى عن الجور والظلم والعدوان، حتى في حقوق الكافرين، نعم إن دين الاسلام هو دين الحقوق، ودين العدل، فالله سبحانه وتعالى أمر بالعدل عموماً، وأخبر أنه يحب أهله: إن الله يحب المقسطين المائدة 42 ، وقال صلى الله عليه وسلم : إن المقسطين عند الله على منابر من نور الذين يعدلون في حكمهم وأهاليهم وماولوا رواه مسلم.
إن ديننا الإسلامي كفل حقوق الناس فيما بينهم، وأوجب على المسلم ان يكون عادلاً حتى مع أعدائه من الكفار، قال تعالى: ولا يجرمنّكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى المائدة 8 ، أي لا يحملنكم بغض قوم على ترك العدل، فإن العدل واجب على كل أحد وفي كل حال، لأن العدل قامت به السموات والأرض، وهو مطلب كل نفس، وبه تنظم المصالح، ويأمن الناس على دمائهم وأموالهم وأعراضهم، ان حقوق الإنسان كفلها الإسلام، وكما أراده الشارع الحكيم، وفي حجة الوداع قال صلى الله عليه وسلم : إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا ، وفي صحيح البخاري أفرد باباً أسماه ظهر المؤمن حمى إلا من حد أو حق، وفي شرع الله المساواة في العقوبات بين الشريف والوضيع، لأن الهدف المحافظة على حقوق الناس جميعاً، يقول صلى الله عليه وسلم إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا يقيمون الحد على الوضيع، ويتركونه على الشريف، والذي نفسي بيده لو فاطمة فعلت ذلك لقطعت يدها رواه البخاري.
وكما حافظ الإسلام على حقوق المسلم، حافظ على حقوق أهل الذمة يدخلون في ذمة المسلمين، فإن دخلوا تحت أحكامهم حفظوا لهم حقوقهم ماداموا في ذمة الله ورسوله، فعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على يهودي محمم مجلود فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قالوا: نعم، فدعا رجلاً من علمائهم فقال: أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى، أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قال: لا، ولولا أنك تنشدني بهذا لم أخبرك، نجده الرجم، ولكنه كثر من أشرافنا، فقلنا اذا اخذنا الشريف تركناه، وإذا اخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، قلنا تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع فجعلناه التحميم والجلد مكان الرجم، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم إني أول من أحيا أمرك إذا أماتوه، فأمر به فرجم فأنزل الله: يا أيها الرسول لا يحزنك الذي يسارعون في الكفر المائدة 41 .
أيها المسلمون، ان ديننا قائم على العدل في جميع أحكامه وتشريعاته قال تعالى: وتمّت كلمة ربك صدقاً وعدلاً الأنعام ، فهو صدق في أخباره، عدل في أحكامه لا يقر الجور والظلم والعدوان، ولا فرق في أحكامه بين غني ولا فقير، ولا شريف ولا وضيع، نعم إنه الإسلام، الدين الصالح لكل زمان ومكان: ذلك الدين القيّم ولكن أكثر الناس لايعلمون الروم 30 .
إن الشريعة الإسلامية بنيت على العدل والرحمة، لا على الجبروت والقسوة كما يصفها أعداء الله، فلا خير إلا أمرنا باتباعه ولا شر ولا مكروه وأذى إلا أمرنا باجتنابه، ولم يكن الدين يوماً قيداً على الحريات وتحريم للطيبات، بل سما بالإنسان على كافة المخلوقات، يقول ابن القيم رحمه الله : أعلم ان الله سبحانه وتعالى اختص نوع الإنسان من بين خلقه بأنه كرّمه، وفضّله، وشرّفه، وأنزل إليه، وعليه كتبه، وأرسله وأرسل إليه ، فللانسان شأن ليس لسائر المخلوقات .
نعم، لقد كرم الله هذا الإنسان وفضّله على كثير من مخلوقاته، وسخر له مافي السموات ومافي الأرض، وحرم الاعتداء على حياته، أو على بدنه، او على ماله بغير حق، فشرع القصاص ممن اعتدى على حياته بالقتل، او اعتدى على جسمه بجرح او قطع طرف: وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدّق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون المائدة 45 ، وحرم الاعتداء على العرض بقذف، فشرع حد الزنا وحد القذف صيانة لأعراض بني آدم، وحرم الاعتداء على أموال الناس فشرع حد السرقة، وحد قطاع الطريق، وحرم الاعتداء على العقل، فشرع حد المسكر، كل ذلك تكريماً لهذا الانسان، وحماية لمقوماته في الحياة ليعيش كريماً آمناً مطمئناً، وأوجب عليه عبادته وحده لا شريك له، ليواصل تكريمه في الدنيا والآخرة حين ينعم بجنته وينجو من ناره.
عباد الله، لقد بعث الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، لا خير إلا دل الأمة عليه، ولا شر إلا حذرها منه، فشمل دينه أحكاماً ووصايا وأوامر وتوجيهات في نظام متكامل مربوط برباط الفضيلة، بجميع أنواعها وشتى كمالاتها ووسائلها، وإن من أعظم مقاصد هذا الدين، إقامة مجتمع طاهر الخلق سياجه، والعفة طابعه، والحشمة شعاره، والوقار دثاره، مجتمع لا تهاج فيه الشهوات، ولا تثار فيه عوامل الفتنة، تضيف فيه فرص الغواية، وتقطع فيه أسباب التهييج والإثارة فشرع الله الحدود حفاظاً للمجتمع، وليكون في تطبيق شرع الله، وإقامة الحدود حياة للمجتمع، مجتمع آمن لا ظلم فيه ولا عدوان.
وإلى كل من يرمينا في ديننا نقول له: إننا لن نحكم إلا بما أنزل الله، لأن الله اخبرنا في كتابه الكريم بقوله تعالى: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون المائدة 45 ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما روى البخاري ومسلم واللفظ له عن أم المؤمنين رضي الله عنها ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ، فلهم جميعاً نقول: إننا رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً ونبياً، نحتكم الى كتاب الله وسنّة رسوله، ونترك مايخالفهما، وان الأحكام التي تصدر مخالفة لشرع الله تعالى باطلة مردودة ولا نتحاكم إليها، لو كانت عن اجتهاد فأولى ان كانت عن قصد.
أقول ماسمعتم، واستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هوالغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً كما أمر وأشكره وهو الكفيل بالزيادة لمن شكر، وأشهد ان لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إرغاما لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله سيد البشر، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى أصحابه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، ولا يغرنكم ما يقوله أعداؤكم في سعيهم لصرفكم عن دينكم، فتعاليم ديننا الحنيف تأمر المسلمين ان يكونوا متعاونين في السراء والضراء، أمنا وسلاما على بعضهم البعض، يصلون ذات بينهم ويجمعون كلمتهم، ويوحدون شملهم، ويحرصون على إكساء كل معاملاتهم طابع السماحة، والرفق واللين والدفع بالتي هي احسن، والصفح والعفو وابتغاء العذر، وإصلاح ذات البين، وعلى كل هذه الاخلاق الرفيعة شواهد وأدلة وحجج وبراهين قاطعة من الكتاب والسنّة النبوية الطاهرة، والسيرة المحمدية العطرة تعد بأعظم الأجر وجزيل الثواب، بل تعتبر مثل تلك التصرفات من المسلم نحو أخيه المسلم هي التعبير الصادق عن التدين الخالص لوجه الله تعالى الدين المعالمة ومثل هذه الأخلاق الرفيعة والمعاملة السمحة لم تقف عند حدود المسلمين، بل تجاوزتهم الى سواهم من بني الانسان مهما كانت ألوانهم وأجناسهم وأديانهم، ومهما كانت اختلافاتهم معهم، فالمسلم مدعوٌّ الى ان يحسن معاملة كل الناس، وبالخصوص اتباع الديانات السماوية من يهود ونصارى، وان لا يجادلهم إلا بالتي هي بأحسن، قال تعالى: ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن العنبكوت 46 .
وتاريخ المسلمين الطويل حافل بهذه المعاملة السمحة، وذلك الرفق واللين والمعاشرة الحسنة مع من عاشوا في ديار الإسلام في المدن والقرى والأرياف من يهود ونصارى، لقد كان هؤلاء في ذمة حكام المسلمين، وفي ذمة عموم المسلمين، يحمون دماءهم وأعراضهم ولا تؤخذ أموالهم ظلماً وبهتاناً، ولا يفغل المسلمون ذلك تظاهراً ورياءً، وإنما ابتغاء وجه الله تبارك وتعالى، وكلنا نعلم كيف رد عمر بن الخطاب رضي الله عنه مظلمة القبطي، واقتص له من ابن العاص، وقال قولته المشهورة: متى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً ، كان المسلمون حكاماً ومحكومين يتعاملون مع غيرهم بعدل وقسط.
عباد الله، إن لتطبيق شرع الله فوائد في الدنيا، ومكاسب في الأخرى، فمن الفوائد الدنيوية: أنها تعود على الأمة بالأمن والطمأنينة، وتحفظ الدماء ان تسفك، وتصون الأعراض ان تنتهك، وتمنع الحياة ان تهدر، والأنساب ان تختلط، ويترتب على قلة الجرائم ان يسود الأمن، وتطئمن النفوس، فتنصرف الى ما يثمر في عملها، وأما مكاسب الآخرة فرضوان الله ومثوبته، لأن تطبيق شرع الله طاعة وعبادة، وإنها خير مثوبة للحاكم والمحكوم وللراعي والرعية، بقبولهم الامتثال لشرع الله وحكمه، يندرجون تحت جماعة المؤمنين الذين قال الله تعالى: إذا دعوا الى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون النور 51 .
عباد الله، ان الله سبحان وتعالى أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنى فيه بملائكته، فقال عز من قائل سبحانه: إن الله وملائكته يصلّون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما الاحزاب 56 ، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على ابراهيم وعلى آل ابراهيم انك حميد مجيد، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء، الأئمة الحنفاء، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر صحابتك أجمعين، ومن تبعهم بإحسان الى يوم الدين، اللهم أعز الاسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واحم حوزة الدين، اللهم اجعل بلدنا آمناً مطمئنا وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمن روعتنا واستر عوراتنا، اللهم يمن كتابنا، ويسر حسابنا، وثقّل ميزاننا، وأظلنا تحت ظل عرشك يوم لا ظل الا ظلك، اللهم ارحم موتانا وموتى المسلمين، اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه، اللهم ارزقه البطانة الصالحة، ووفقه واخوانه رؤساء المسلمين للعمل بكتابك، واتباع سنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
عباد الله، ان الله يأمر بالعدل والإحسان، وإيتاء ذي القربي، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العلي العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
* واشنطن
|
|
|
|
|