| الاخيــرة
أسأل لابد ان أسأل وسلسلة ظهري مصلوبة كعلامة تعجب امام تعبير ساخر من تعبيرات كازنتزاكي وهو يتعمد ان يلوي شوكة البوصلة، يتعمد ان يبتعد عن الدليل.
يتعمد ان يضيع في صحراء سيناء عل التيه يعتقه من سلطات ليس من اسمائها الدقيقة بل من اسمائها المشجبية وحسب اسماء مثل العادة، العرف، المعلوم، حب الذات، والبقاء للأقوى وما إليه من اسماء نختبىء خلفها لنبرز جبننا الاجتماعي وقصورنا الذاتي معاً.
أسأل لابد ان أسأل ومفاصل أصابعي تفقد زيتها كقناديل ليل فجره لايجيء هل سيغير الجلوس الطويل امام الكمبيوتر مع الوقت شكل الحوض البشري، الكتفين، استدارة الصدر، مرونة الحبل الشوكي، انبساط وانقباض بؤبؤ العين، لولبية الجهاز العصبي، سعة وضيق صمامات القلب؟
هذا سؤال بيولوجي محض يُلح عليّ بشدة كلما نفرت عروق رقبتي بعد يوم عمل طويل أشعر في نهايته ان شعاع الشاشة قد اعتدى بعنف على ما تبقى في بشرة وجهي من ماء الشباب.
يُلح عليَّ السؤال أعلاه اكثر كلما رأيت أعواد البراعم الغضة من بنات وابناء هذا الجيل تتلوى كأغصان ربيعية وافاعي اسلاك الجهاز تلتف حولها بحنان وتلتهم ليونتها بعيداً عنا وهم يجلسون امامنا يعقدون صداقات غامضة او يكتشفون معارف فاضحة في اقصى مكان من القارات السبع.
أسئلتي هذه ليست تماما احتجاجا جسديا على جبروت اجهزة الاتصال او مخاتلة الصداقات الالكترونية, كما انها ليست بالضبط اعتراضا اخلاقيا على اعتداءات العولمة أو خيفة من مخاطر ذئاب المرور على خطوط (الانترنت) الخالية الا من رغائب المخاطرة نفسها ونفائس المغامرة, لكنها أسئلة صغيرة مسننة كرؤوس مسامير مسنونة للتو، تغرس أسنانها تحت أظافري كلما تبعتُ عصا الايقونة الى مجاهل لم يخطر على بال جيلي عندما كنا في مرحلة المراهقة مثلا، مدى قربها وعلقم معلومها حيث كانت اقصى تحدياتنا لسلطة المكان والبيت والمدرسة في ذلك الوقت هي ان نتحدى بطش المعلوم بدهشة المجهول الذي كان شفيفا ومشتهى بقدر ماكان بعيداً ونائياً.
هذه الاسئلة تلح عليّ بشكل أشد حدة وربما أشد وقاحة واستخفافا ببدائيتي الالكترونية كلما اغلقت النوافذ وخرجت من البرنامج وانسحبت من نظام الحاسوب وقد نسيت ان اطلب حفظ عمل مضن اعرته ساعات عمري دون اعتراض يذكر، وبغير ان اعمل له حفظا مساندا في ذاكرة الجهاز الرئيسية أو على قرص مرن، أو فيما لو أعطت يدي أمراً خاطئا بالمسح وما أدراك ما خطورة الأوامر الخاطئة على جهاز لا يملك الا سلطة التنفيذ؟! حينها يشتاط شجني من بطش المحو لحرير احلامنا او حرقة أرواحنا, وحينها تتحول تلك الأسئلة الحميدة من أسئلة بسيطة لها غاية محدودة هي الوصول الى معلومة بيولوجية أو طبية عن تأثير الكمبيوتر وجلساته الطويلة على جسد الانسان أو على جهازه العصبي تحديداً إلى اسئلة أشد سريالية وتعقيداً في محاولة فلسفة علاقة هذا الجهاز بتلك الاسئلة الكبرى في بعدها الوجودي والاجتماعي، التي لا تفتأ تأخذ اشكالاً جديدة من جيل الى جيل ومن موجة حضارية الى أخرى.
* ومع أنني الى الآن لم أجد إجابات شافية على معظم تلك الاسئلة إلا انني أقرأ واسمع كثيرا من التحذيرات التي لا تحد متعة تجديها.
* أسمع عن تلك الفجوة العاطفية وخاصة بين الكتاب وبين ذلك الجهاز رغم ان عدداً منهم من بلد المنتج نفسه ككاتب الأطفال الامريكي المشهور كارل براون، وكالشاعرة الامريكية المنشأ اللبنانية الأصل المز نايدر.
* أسمع من البعض الآخر اعراضاً متعالياً عن تواصل الاصدقاء الالكتروني ليس تحيزا للبريد البري او الجوي ولكن محافظة على البعد ووحشة الأشواق.
اسمع عن آراء متضاربة في الحب الالكتروني المكهرب الذي يعيد إنتاج ومونتاج حب النظرة الأولى من نوافذ الجيران بطاقات شحنات عشقية جديدة من نوافذ 95/97 و0000 و2001 بما يخترع ولادات فاتنة لاشكال واطياف من الحب الفوري تفوق ماجاء في طوق الحمامة وتهيج شجن ابن حزم من جديد.
وأرى في المقابل تلك الصفحات النابضة التي اجترأ بها عدد من كتابنا على جمود الجهاز بارتعاشات الابداع: سعد الدوسري، عبده خال، ابن بخيت، التراوري، عبد الله التعزي وآخرون واخريات, وبين النقيضين المحسومين اصلاً بسحر المستقبل أسأل نفسي: ماهي يا ترى مشاعري الخالصة تجاه استهلاكي المفرط لساعات عمري امام هذا الجهاز لو أردت ان اتجرد من فوائده التقنية في بحوثي ولو أردت أن اتحدث عن تلك المشاعر بعيدا عن عقد الانتماء الى عالم غير صناعي ودون مكابرات الكُتاب أو عناد النساء ومكر الكُتاب؟ فلا أجد بداًّ من الاعتراف بمشاعر الدهشة والانحياز الفضولي لهذا الحهاز فأطمئن قليلاً انني مازلت اتمتع بطيش الشباب.
**أشكر غسان فلذة كبدي على أخذه الرقيق بيدي من عتمة الظلمات إلى ضوء العتمة، فبدون تشجيعه لي لم أكن لأنعم الآن بكل هذه الجرأة في التمرد على أدوات عملي القديمة.
|
|
|
|
|