| الثقافية
حواري مع الشعر تطوّر إلى درجة أنني بدأت أمتلك الجرأة في مصارحته، ومع أنني كنت مخطئاً في كثير من الأحيان، لأنني كنت أسأله عن أشياء يقوم بها الشعراء ولاعلاقة له بها، كما قال لي، ولم يكن يرضى عن حريتهم معه إلى درجة تسيء إلى سمعته وقد تهدّد وجوده في نفوس الناس وقيمته عندهم، إلا أنه كان يشير إليّ دائماً أن لا أسأله عما يفعل الآخرون، بل عنه هو فقط، وهذا ما جعلني أسأله ذات يوم عن قيمته، وهل له قيمة، ومن أين يستمدها من قيمتي,, القدرة على إرضاء الشعور والرغبة بطرق مختلفة وأضاف وأنت تستطيع أن تنال هذه القيمة كلما استطعت أن تخلق في نفس القارئ حالة ذهنية تتناسق فيها نزعات النفس فتصبح وكأنها توشك أن تتحقق، وهذا الهدف لا يتحقق عن طريق الموضوع، بل عن طريق استخدامك للألفاظ والصور وغيرها من عناصري استخداماً معيناً في إطار أو شكل معين نستطيع به أن ننقل للقارئ الحالة الذهنية، وهي حالة تتناسق فيها المشاعر تناسقاً تاماً { .
هل أصبت بالعدوى من الأجواء السائدة في مجلس الشعر فبدأت أقفز من فكرة إلى أخرى ومن صورة إلى نقيضها ومن مشاعر واضحة إلى متاهة من متاهات اللاوعي، وهل علم أنني أصبت بالعدوى فأصبح لا يلومني، وهل هذا ما يفسّر عدم غضبه عندما صادمته ذات مكاشفة: من أنت؟ أنا ضرب من السحر تتأثر به الحواس أولاً ثم الجهاز العصبي، مهمتي أن أولّد في النفس حالة لا شعورية من الاحساس بالسيطرة على الذات يتبعها شعور بالارتياح للتخلّص من النزعات المكبوتة، وهذه الحالة أو الشعور تتم عن طريق الشكل لا عن طريق الموضوع، وأنا أستمد كياني من الخبرة في شكل معيّن، من العلاقات بين عناصري وتفاصيلي المختلفة فلا تفصل بين شكلي وموضوعي، لأني كائن لا تستطيع شطري إلى شطرين وإياك أن تفكر في الموضوع منفصلاً عن الشكل ولا العكس، ولو فعلت لجئت سقيماً عليلاً .
سألته: هل تهدف إلى شيء ما؟ وإذا كان هدفك محددا وواضحا بالنسبة إليك، فإلى ماذا يهدف كل جزءٍ من أجزائك، ألا يخونك بعضها، ألا ينحرف بعضها عن الهدف زيادة أو نقصاً ؟ أجاب (كل الأشياء فيَّ، بما فيها الموضوع والشكل والأفكار وسائل تتكامل لتحقيق هدفٍ فني معين).
وها هو دور شخصية صاحبك وخبراته الحياتية ومعتقداته، أجاب لا تهم قدر ما تهم قدرته على استخدام الخبرات لتحقيق غرض فني معين والموضوع والشكل، بأيهما أبدأ، ومن منهما يكون سبباً في وجود الآخر أو يصنعه أو يسبقه أو يكون إطاراً له أو موجها؟ الموضوع هو الذي يحدّد الشكل وبالتالي فالشكل هو الذي يكيّف الموضوع ويحيله من خبرة عادية إلى خبرة فنية ، ولكن قضية الشكل والمضمون، والأشكال الشعرية، بالذات، شائكة وما زالت تدور حولها حروب وسجالات؟! لا أقصد بالشكل هنا الشكل بمعناه البسيط، أي رسم الكتابة، بل الأسلوب أيضاً وغيره من وسائل الكتابة وعناصرها، الشكل هو أن يثير العمل الفني في نفس القارئ رغبات ثم يرضيها ، وإذن، أنت تستمد قيمتك من شكلك؟! أنا لا أستمد قيمتي من شكلي أو موضوعي منفصلاً كل منهما عن الآخر، بل من تفاعل قائلي مع الحياة تفاعلاً يمتزج فيه الشكل بالموضوع في وحدة موضوعية مهمتها: خلق إحساس معين لا التعبير عن ذاتيته ، ولكني اعتقد لفترة معينة وقصيرة أن قيمتك في شكلك، وشكلك غايتك، ومهمتك أن تكون في شكل ما؟! لا
أصحابه كثيرون، بعضهم كان يحضر معه شيئاً مما كتبه ليقرأه علينا، كان الشعر يستمع إلى نفسه، بنفس الملامح الغامضة، لم يكن يتكلّم، ولكن كان بعضنا يدرك شيئاً من إشاراته وإيحاءاته ورموزه وتلميحاته، ونصائحه الثمينة، مع ندرتها، لم يكن يبذلها ولا يهديها دون ثمن، بل لم يكن يتفضّل بها على أكثر أبنائه إخلاصاً إلا بعد جهد وإرهاق شديدين وبعد وقت طويل ومكابرة ومراوغة لا تحتمل وغموض لا يطاق.
بعض أبنائه الصغار كان يتظاهر بخفة الدم أكثر مما يجب، فهمنا ذلك من إحدى الإشارات النادرة التي أوحى بها الشعر إلينا، هذا البعض كان يتصنّع الدهشة والتشويق والاعتماد على الجديد نصحة الشعر إيحاءً: هذه ليست من الصفات التي يجب توافرها لكي يتحقق النجاح، لأنها تفقد إثارتها بعد زمن قصير جداً، إن الأعمق من ذلك، إذا كنتم,, ترون ما فيّ يمرّ عليكم مرات ومرات في الذاكرة، في الحاضر والمستقبل,, إلخ.
فالجديد لا يُبدعني,, بل الطبيعي، فيتعرّف القارئ في الطبيعي على الطبيعي,, يثير في نفسه رغبات طبيعية ثم يرضيها/ وأنا لا أملُّ مهما قرأتُ ولم لا تمل.
هل لأن كل من يقرأك بنفس اللغة ، في أي مكان وزمان، سوف تتحقق مع قراءته لك، نفس الوظائف الفنية التي تهدف إلى تحقيقها؟
* من كتاب ما هو الأدب لرشاد رشدي بتصرف
|
|
|
|
|